دكتور ألبرت أغارزيان معلما

بقلم: تحسين يقين

تحسين يقين

albert


 

سيطول ذكر صفات دكتور البرت..

كل وروايته عنه.. وكل من التقاه ظل عنده شيء منه..

وللمقربين منه، الأهل والزملاء والتلامذة، أن يتحدثوا عما عرفوه وتعلموه، ولنا وقد عرفناه قليلا أن نقرأ هذا الانسان في أعينهم وكلماتهم/ن.

لعلنا نلخص ما عرفناه عن قرب، وما لمسناه من أحاديث مريديه عبر 3 عقود وأكثر بكلمات قليلة، لعلها كلمات مفتاحية لشخصية هذا الإنسان النادر.

شيء من العبقرية كثير وكبير، تتمثل بربط المعلومات بطريقة مدهشة، وكيفية توظيفها، وكيفية تقديمها، فلا تملك وانت تستمع للدكتور البرت، إلا أن تواصل الاستماع والتعلم..والدهشة!

من أين يغرف! وهو مثقف موسوعي فعلا، حينما يتحدث ينظر داخل النفوس، ويطمئن بأن الرسالة وصلت فعلا.

والجميل أن هذا العبقري كان بسيطا متواضعا كتواضع العلماء..

الآن، من القدس..من حارة الأرمن حيث ودعناه هناك، الى محطات حياة دكتور البرت اغارزيان، الأكاديمية والعلاقات العامة التي أظهرت مهاراته الإعلامية العميقة.

إنها منظومة معا، عمادها التاريخ والعلم والثقافة، ولعل التاريخ كان أحد أهم عناصر الشخصية المكونة له، حيث أمكنه أن يظل من وعيه العام على الدنيا وعلى وطنه والقدس قديما وحديثا.

وإنه لغته، كما قال محمود درويش: أنا لغتي. وإنها لغتان، سارتا بتواز جميل، فلا ندري بأي حرف نطق..أأرمني أم عربي؟ لكنهما معا صارا وصيراه، إنسانا مثقفا ينتمي لعالمين، ثقافتين، قوميتين، انتمى لهما بصدق وحب، رغم أنه يصعب الوقوع في الحب لاثنين/اثنتين معا، لكن عبقريته (وعبقرية الأرمن في القدس وفلسطين) خلقت هذا التزاوج المدهش فعلا؛ في الانتماء لعالمين، عالم المجتمع الأرمني الذي ظل محافظا لخصوصيته إلى أبعد مدى، وعالم القدس والعروبة وطنه الذي اختار وأهله، وقد كان كل أولئك جميلا.

والأجمل، هي تلك الشخصية العربية-الأرمنية، في سياق مواطنتها العالمية، والتي كان للعامل الذاتي دور فيها، فهو بلغاته المتعددة، التي اختار تعلمها، قد اتجه الى العمق العالمي الإنساني، وهذا كان درسه العميق، ومنطلقه الفلسفي، والذي من خلاله كسب البرت اغارزيان عقول الناس وقلوبهم معا؛ فهو يخلق دوما جسرا إنسانيا منطقيا، بحيث استطاع التأثير على مستمعيه، ولا ننسى كيف كان "يفحم" بدبلوماسية عالية ووطنية واثقة من نفسها ضباط الاحتلال أثناء إغلاقات جامعة بيرزيت التي كان فعلا أحد أعمدتها.

والحديث عن الجامعة وعن دكتور البرت، توصلنا إلى ما تبناه من دور تنويري لهذه الجامعة، والتي شاء لها القدر والتاريخ أن يتفاعل فيها دور التنوير بالدور الوطني، وصولا للحظة الحاسمة، اللحظة التاريخية، في الانتفاضة الأولى.

ومن وحي هذا الوعي، والانتماء الوطني، وشخصيته العالمية، اختير ليكون له دور في محطة مدريد، في الطاقم الإعلامي، حيث لفت نظر الإعلام العالمي. ولم يكن ذلك بمستغرب عليه تحقيق هذا النجاح.

تلك هي منظومة، من العلم والثقافة، واللغة، في سياق عيشه تحت الاحتلال الكولينيالي، الماهر في تزوير التاريخ. من هنا، فقد صار أقرب الى التأريخ فصار مؤرخا واعيا، خصوصا في القدس.

وهنا، ولكونه مطلعا ودارسا من جهة، ولكونه يحيا القدس من جهة أخرى، فقد كان لربما من أهم المؤمنين بعروبة القدس وعدم الوقوع في فوبيا الخوف المبالغ فيه. انه يرى ويبصر في قلبه وعقله، وتلك ثقته في هوية القدس، ثقة المواطن المقدسي والعالمي الموضوعي، ضد محاولات الأسرلة والتهويد.

فمن يتجول في القدس بأحيائها جميعا، سيتأكد له هذا المعنى، فبعد 53 عاما من احتلال البلدة القديمة، فما زالت هي كما كانت..لذلك وحتى، تصنع الأمر الواقع، عمد الاحتلال الى تطويقها..تطويق زهرة المدائن بالمستوطنات.

 

وهو الأمل إذن بالبقاء؛ فتاريخه القومي الأرمني بما تعرض من نفي، يلتقي بقدر غريب بتعرض فلسطين لنفي آخر. هنا كانت المنطلقات الذاتية القومية الخاصة به، كأرمني لجأ الآباء والأجداد لها، فصار المصير مزدوجا، إنه مصير قوميتين، بل مصيره، حيث التقيا فيه.

انه التاريخ!

وإنه المصير، وحق تقرير المصير، والذي كان لديع دوافع متعددة، عدة محركات دفعته نحو الحديث والفعل الوطني، بما يتفق مع القوانين الدولية.

لقد فهم، بما تفاعلت والتقت فيه التجارب الإنسانية والخبرات، كيف يتحدث وكيف يقدّم قضيته، وما زاد ذلك عمقا ووقعا في نفوس المصغين له، هو الأمل!

في إحدى اللقاءات، زارنا دكتور البرت محاضرا زائرا في دورة حول الإعلام في منتصف التسعينيات، وكانت معرفتنا به تنبع من كونه محاضرا يعمل في العلاقات العامة، وأحد شخصيات الوفد الفلسطيني إلى مدريد. تحدث حول دور الإعلام، وعن عمله في العلاقات العامة، والتي يتبع لها الإعلام، وقد استفدنا منه ونحن نخطو في عالم الكتابة الصحفية والتحرير، حيث كانت له ملاحظات ناقدة ونقدية حول لغة الصحف.

وأتذكر أنه ترك أكثر من ثلث المحاضرة لأسئلتنا...ووقتها تعلمنا كيف يمكن توظيف كل معلومة وحادثة، كي تكون مادة إعلامية جاذبة للقراء من ناحية، ومقدما رسالة من ناحية أخرى.

لم يكن وقتها مدرسا أو ماضرا، بل مفكرا، له أسلوبه الخاص في التفكير والتعبير، لذلك يمكن وصفه فعلا بالمعلم.

المحركات العلمية والثقافية داخله ظلت نشيطة، وقد التقيناه في السنوات الأخيرة مترجما، في المؤتمرات. لقد اختار أن يظل منتجا في مجالات عمله واختصاصه، مخصصا للتوثيق والتأريخ حول القدس، يحدوه الأمل بالتحرر والخلاص.

ستظل محطات حياته دروسا لنا، ودوما سنظل نتذكر تلك العيون الذكية الثاقبة التي كانت تنظر داخلنا، لا لإيصال رسالته فقط، بل لتشجيعا أن نوصل رسائلنا بعمق إنساني.

واليوم، للرواة أن يتحدثوا عن إنسان ترك بصمة واضحة، وحظي بإجماع على حبه واحترام من عرفه..

ابن القدس البار..التي يحب أن يتجول فيها ويشرب قهوته، وهو من يحب أن يريها لمن يحب..ولعل المترجمة:  والكاتبة د. رانية فلفل كفتنا عن الوصف حين قالت عنه والقدس: "من لم يزر القدس بصحبة ألبرت فكأنه لم يرها"..

دكتور ألبرت أغارزيان معلما، يعلمنا،

وهو معلم جميل وعميق وعريق من معالم القدس.

بعض الجناس ممكن، "فنحن لغتنا"..على ألا نكثر من تكلف البلاغة..

وهو لغة القدس، بأجمل ما تكون تعدديتها..

تحسين يقين

[email protected]

 

 

 

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت