اللغة المتلعثمة في تناول حق العودة وقضية اللاجئين تصب في مستنقع «رؤية ترامب»
■ حتمت عليّ «دكتاتورية الجغرافيا السياسية» باعتباري أحد مهجري مخيم اليرموك، فقد فيه ثروته المكتبية، أن أبدي اهتماماً ملحوظاً ومميزاً بما جاء في «رؤية ترامب» (28/1/2020) بشأن قضية اللاجئين. وحين فرغت من القراءة والتدقيق، عدت إلى كتاب «مكان تحت الشمس» لبنيامين نتنياهو. واستعدت منه ما كان قد كتبه حين اعتبر أن «العقل الفلسطيني الخبيث» هو ما أنتج ما يسميه الفلسطينيون «البرنامج المرحلي»، لأنهم، والقول لنتنياهو، يريدون أن يحتلوا القلعة (أي إسرائيل) من الداخل، من خلال إغراقها بملايين اللاجئين الذين فرّوا (هجّروا) من بلادهم في حرب العام 1948. واعتبر نتنياهو أن السماح بالعودة للاجئين هو إعدام لدولة إسرائيل، يهودية نقية (عنصرية).
كذلك عدت إلى أعمال اللجنة الرباعية، الفلسطينية ــ الإسرائيلية، الأردنية ــ المصرية، التي تشكلت في أعقاب مفاوضات مدريد، واتفاق أوسلو، لوضع تعريف يميز بين اللاجئ والنازح، بحيث يتم الشروع في عودة النازحين (أي مهجري حرب حزيران (يونيو) 67) إلى مناطق الحكم الإداري الذاتي الفلسطيني، وترحل قضية اللاجئين (أي مهجري العام 1948) إلى مفاوضات الحل الدائم. واستذكرت، كيف نجح شمعون بيريس، في خبثه وحنكته، ومناوراته، في إفشال عمل اللجنة، إذ لم تتوصل إلى توافق على وصف مجمع عليه للنازح، ووصف آخر للاجئ. وتعطلت اللجنة، كما تعطلت العديد من بنود اتفاق أوسلو، ومنها على سبيل المثال، لا الحصر، إطلاق ما يسمى بـ «مفاوضات الحل الدائم»، التي حلت محلها مفاوضات من نوع جديد تحت سقف «رؤية ترامب»، مسبقة الصنع، القائمة على تكريس وقائع الاحتلال حلاً دائماً للمسألة الفلسطينية.
وهكذا، يلتقي العمل (في زمن بيريس وفي كل زمن) مع الليكود، وكل أطراف ومكونات الحالة السياسية الإسرائيلية، في رفض الاعتراف بمسؤولية إسرائيل عن قضية اللاجئين، وبحقهم في العودة، وبالقرار 194، وبغيره من القرارات الدولية ذات الصلة. وقد جاءت «رؤية ترامب» لتترجم هذا الموقف الصهيوني، مستندة إلى وحدة الموقف داخل إسرائيل، وإلى سلسلة المشاريع المطروحة في هذا السياق، وآخرها، معايير كلينتون في رصد مبلغ 40 مليار دولار تعويضات للاجئين والدول المضيفة، وللدول التي سوف تساهم في استضافة من يرغب منهم في الهجرة، ومنها كذلك مشروع جنيف البحر الميت الذي شاركت وفود رسمية فلسطينية في صياغته، وفي الإشراف على ولادته وفي الترحيب به، باعتباره مشروعاً لحل قضية اللاجئين، بديلاً لحق العودة.
* * *
الحل الذي يطرحه ترامب يقوم على اعتبار الواقع هو الأساس: وليس العودة إلى جذر القضية الفلسطينية، كما يقوم على معيار يخالف فيه قرارات وقوانين الشرعية الدولية، هو الادعاء بعدم عودة عقارب الساعة إلى الوراء، وعدم النظر إلى الخلف، والتطلع دوماً إلى الأمام.
وبناء عليه، تنظر «رؤية ترامب» إلى قضية اللاجئين وفق التالي (وهي لا تميز هنا بين لاجئ ونازح):
• يقوم الحل على شطب القضية من الوجود وجدول الأعمال. وبالتالي تكون القضية قد حلت نفسها بنفسها. الترجمة هي نفي وجود لاجئين أساساً. والادعاء أن اللاجئين هم من ولدوا في فلسطين. أما ذريتهم الذين ولدوا في الشتات فلا تنطبق عليهم معايير اللاجئين. ما يعني أن العدد «الحقيقي» للاجئين هو حوالي 50 ألف لاجئ فقط. أما الآخرون، فالطريف في الأمر، بل قل أن المأساة في الأمر، أنه إذا كان اللاجئ في القانون يعتبر عديم الجنسية، ويحمل، بدلاً من بطاقة شخصية صادرة عن سلطات دولته، بطاقة خاصة باللاجئين، فإن ترامب لا يكتفي بإعدام جنسيتهم، بل يقوم بإعدام حوالي 6 ملايين لاجئ، يدعو إلى حل خاص بهم، وهو البحث عن مكان سكن دائم لهم، إما في الدول المضيفة لهم، أو لدى دولة ثالثة، دون المس بسيادة الدولة المضيفة. أي يبقى القرار بيد الدولة المضيفة، ولا يحق للاجئ هنا أن يقرر مصيره بنفسه.
• أما الخمسون ألفاً، الذين تعترف «رؤية ترامب» بهم، فإن عودتهم (أي مكان سكنهم الدائم) هو أراضي «الدولة الفلسطينية»، بموجب نظام يتفق عليه بين الأطراف الثلاثة (الدولة الفلسطينية + إسرائيل+ الولايات المتحدة) يسمح فيه لهؤلاء اللاجئين «بالعودة» المتدرجة، بموجب أرقام وأعداداً، تتناسب مع قدرة «الدولة» على الاستيعاب، (القدرة يحددها الأطراف الثلاثة). وبالتالي قد تمتد فترة «العودة» إلى عشر سنوات ربما أكثر. حيث من المفترض أن يلعب الزمن دوره في تقليص العدد، حتى الإلغاء التام. فأكثر اللاجئين «شباباً» وفق معيار ترامب يبلغ من العمر 73 سنة كحد أدنى. ولنا أن نتأمل هذا الحل(!)
• التعويضات تعطى للدول المضيفة، وللدول التي ستقدم نفسها مكان سكن دائم لمن تبقى من الملايين الستة ولأجل مشاريع الاستيعاب ولا تنطبق عليهم معايير ترامب. وبعضها يقدم لهؤلاء (اللاجئين مع وقف التنفيذ – إذا جاز التعبير-) مكافأة لهم على تعاونهم الإيجابي مع حلول ترامب.
• اللافت للنظر أن «رؤية ترامب» تضع آلية معينة «تسمح» «للدولة» الفلسطينية باستيعاب الفلسطينيين القادمين من الخارج (النازحون على سبيل المثال). لكنها في هذا السياق، تميز بين العائدين من أطراف العالم، وبين العائدين من لبنان وسوريا، وتعتبر هؤلاء (أي القادمين من لبنان وسوريا بشكل خاص والخاص جداً) حالات خطرة من حق دولة الاحتلال أن يكون لها رأيها (أي قرارها) في قبول عودة هؤلاء أم لا. وفي التدقيق يتبين لنا أن المقصود بهم هم كوادر المقاومة وفصائلها وقادتها، والصف العريض ممن اصطفوا في مسيرات النضال عبر سنواته الطويلة. هؤلاء مازالت ترى فيهم إسرائيل خطراً عليها، لذلك تلجأ، مع ترامب، إلى معايير التمييز بين فلسطيني وآخر. فالفلسطيني الجيد، هو من يسلم لصفقة ترامب – نتنياهو، وينضم إلى حظائر البشر، المسماة «دولة»، أما الفلسطيني «السيء» فعليه أن يبقى طوال حياته ضحية التشرد.
* * *
نحن أمام مشروع، كل ما فيه عنصري، وينظر إلى الإنسان الفلسطيني نظرة دونية، مجرد من كامل حقوقه الإنسانية كما تسنها القوانين الدولية. ومنها قضية اللاجئين وكيفية تصنيفهم، وكيفية وضع «حلول» لقضيتهم تجردهم من إنسانيتهم وأدميتهم ووطنهم.
لكن الخطر في هذا كله، تلك اللغة المتلعثمة التي يستعين بها البعض أمام الآخرين لتأكيد «حسن نوايانا» نحو إسرائيل، عبر الحديث، في تناول قضية اللاجئين «عن حل يتوافق عليه المجتمع الدولي يقوم على العدالة والإنسانية والسلام». أعتقد أن مثل هذه اللغة المتلعثمة، تخدم «رؤية ترامب» وسياسات إسرائيل. فمع قضية اللاجئين وحق العودة وإدامة عمل وكالة الغوث لا تستقيم، في خضم المعركة، إلا المواقف الواضحة والجلية، وذات المضمون الصريح، والذي لا يحتاج لتفسير أو تأويلات.
نحن نتحدث هنا عن قضية يكون حلها بتطبيق القرار 194 الذي يكفل للاجئين حق العودة إلى الديار والممتلكات التي هجروا منها منذ العام 1948. اللاجئون في مناطق عمل وكالة الغوث، وفي باقي الدول المضيفة، عربية كانت أم أجنبية، وفي القلب من هؤلاء أيضاً اللاجئون الفلسطينيون داخل الـ48، «المقتلعون» من قراهم وبلداتهم، والممنوعون من العودة إليها، وهم يقرون ويكررون أن قضيتهم هي جزء لا يتجزأ من القضية العامة للاجئين الفلسطينيين■
معتصم حمادة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت