هل انتهى فعلاً المشروع القومي العربي الوحدوي ؟

بقلم: إبراهيم أبراش

ابراهيم ابراش

لقد ثبت بالملموس أن خطاب ورؤية التقدميين والقوميين والثوريين العرب في منتصف القرن العشرين حول القضايا المصيرية الاستراتيجية للأمة العربية كانت صحيحة نظرياً :أهمية وضرورة الوحدة العربية ،طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي ،العلاقة بين العرب والغرب وعملائه في المنطقة ،رؤيتهم لجماعات الإسلام السياسي وخصوصاً جماعة الإخوان المسلمين كحليف للغرب وأحد أدواته المناهضة للقومية العربية ولحركة التحرر والتقدم ،تخوفاتهم من دول الجوار –تركيا وإيران وإثيوبيا – كأصحاب مصالح ومطامح معادية للمشروع القومي الوحدوي العربي وكحلفاء للغرب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من خلال تقاطع المصالح  .

كانت رؤيتهم صائبة في التشخيص ووضع اليد على الحلقة المركزية في الصراع والتمييز بين التناقضات الرئيسية والتناقضات الثانوية ،إلا أنهم افتقروا إلى الاستراتيجية القومية المشتركة وأدواتها التنفيذية بما يتناسب للرد على هذا المحور الغربي الصهيوني والرجعي العربي .

 انتكست الفكرة القومية الثورية التحررية مبكراً بعد انفصال مصر عن سوريا 1962 ثم بعد هزيمة حزيران 1967 ،حتى القوى القومية التي كانت مؤهلة لقيادة قاطرة المواجهة القومية – حزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب والناصرية – لم تكن منسجمة مع بعضها البعض ،ولم يكن هذا نتيجة خلل في الفكرة الوحدوية بل لخلل في ادواتها التنفيذية ولكون الفكر القومي آنذاك كان متهما بشائبة الطوباوية والتعالي على الأعراق غير العربية  .

بالرغم من كل أوجه الخلل التي صاحبت مرحلة المد القومي التحرري إلا أن أية مقاربة للواقع العربي الراهن ومحاولة فهم ما يجري من الصراعات وشبكة التحالفات تُعيد للذاكرة بشوق وحنين وألم زمن الخمسينيات والستينيات .

ما يميز المرحلة السابقة فيما يتعلق بالعلاقات الجوانية للنظام العربي أن المرحلة السابقة وبالرغم من غياب الديمقراطية ،وعسكرة الدولة والمجتمع ،والانقسام ما بين أنظمة تصنف نفسها كأنظمة تقدمية وثورية وقومية ذات علاقة بالمعسكر الاشتراكي ،كالأنظمة القائمة في مصر الناصرية وسوريا والعراق ولاحقاً ليبيا القذافي  يقابلها أنظمة وحركات إسلام سياسي يصنفها المعسكر الأول بأنها رجعية يمينية تابعة لواشنطن وللغرب عموماً .. ،إلا أن الساحة العربية كانت تشهد حضوراً وجدلاً فكرياً وأيديولوجياً ما بين التيارات القومية والماركسية والإسلامية والوطنية ،كما كانت الدولة الوطنية متماسكة والنزعات الطائفية والمذهبية أقل حضوراً بكثير مما عليه اليوم .

 أما المرحلة الراهنة فإنها تشهد ،انهيارات وشبه غياب للأيديولوجيات القومية والماركسية الثورية ،تغول للإسلاموية السياسية المقيتة ،حالة فوضى وانفلات أمني ،تغليب الانتماءات الطائفية والمذهبية على الانتماء للدولة الوطنية ،تطاحن العرب مع بعضهم البعض وتآمرهم على بعضهم البعض ،حالة قحل فكري وتنظيري عن أمة عربية أو مشروع قومي عربي أو تضامن عربي أو أمن قومي عربي ،تفكُك الدول الوطنية التي كان القوميون ينعتونها بالدول القُطرية المؤقتة التي تمهد لدولة الوحدة العربية ،كما يغيب عن المشهد أي زعيم قومي عربي يمكن أن يجمع العرب من حوله ويتكلم باسمهم .

في مقابل ذلك يصعد ويهيمن المعسكر المحافظ والرجعي الذي أصبح أكثر شراسة وقوة بفعل ما راكمه من ثروات النفط والغاز والعلاقات المتينة مع المعسكر الغربي بل ويتحمل هذا المعسكر مسؤولية كبيرة في حرف مسار الربيع العربي ونشر الفوضى والفتنة الداخلية ،بالإضافة إلى انتشار الجماعات الإسلاموية التي صنعها بداية الغرب والرجعية العربية  .

أما فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية ومع دول الجوار خصوصاً ،فنلاحظ تمدداً للمشروع الصهيوني من خلال فرض الأمر الواقع على الأراضي الفلسطينية المحتلة ،تطبيع مع إسرائيل بعضه مُعلن وبعضه خفي ،تجرؤ دول الجوار- تركيا وإيران وأثيوبيا – على انتهاك سيادة دول عربية تحت ذريعة الدفاع عن مصالحها القومية وبما يعرض استقرار وأمن الدول العربية بل وتتدخل عسكرياً بصورة فجة ،كما يعود الحضور العسكري والأمني للولايات المتحدة ودول غربية للمنطقة العربية ليجعل أي حديث عن السيادة العربية نوعا من الخيال أو السراب .

لا يمكن استبعاد نظرية المؤامرة في تشخيص وتحليل ما نُعِت بـ (الربيع العربي) وما أدى من فوضى مدمِرة ،والمآل الذي صار إليه الحال خصوصاً في سوريا وليبيا واليمن حتى الدول العربية الأخرى تأثرت بدرجات وأشكال متفاوتة بهذه الفوضى ،فطبيعة القوى الفاعلة في الصراعات الدائرة في المنطقة تؤكد بأن الروح الثورية الوطنية للجماهير التي تحركت باكراً في تونس ومصر ودول أخرى تم توظيفها من طرف الدول والقوى المعادية للأمة العربية ،والتي تحدث عنها القوميون والثوريون العرب الأوائل ،ليحولوا ارهاصات الثورة الشعبية إلى حالة فوضى مدمرة للدولة الوطنية ولحلم الوحدة العربية .

للأسف ففي الوقت الذي تتكالب فيه القوى المعادية على الدول العربية التي كانت محل رهان بأن تكون قاطرة الوحدة العربية وحائط صد أمام تغول أصحاب المشاريع الفاعلة في المنطقة :المشروع الصهيوني ،المشروع الإيراني ،المشروع التركي ،بالإضافة إلى المشروع الاستعماري الامبريالي ،في هذا الوقت تقاتل كل دولة عربية بمفردها بل وتتآمر على بعضها البعض ،كما لا يوجد زعيم عربي قومي واحد ولا زعيم حزبي قومي بل ولا توجد إلا قلة من المؤسسات الفكرية التي تدافع عن الفكر القومي العربي وعلى رأسها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت والذي يعيش حالة حصار مالي ،بل حتى على المستوى الوطني لا يوجد زعيم يُجمع عليه الشعب وكل القادة والأنظمة تواجه أزمة شرعية .

كل طرف من الأطراف أو المشاريع المتصارعة في المنطقة على مغانم وأراضي العرب يعرف ما يريد ويتصرف استراتيجياً في سياق مشروع قومي واضح ،بينما (العرب) مختلفون فيما بينهم ولا توجد استراتيجية توحدهم يشتغلون عليها ولو في حدودها الدنيا ،وبهذا غاب القرار العربي الموَحد بل حتى القرار الوطني المستقل على مستوى كل دولة وأصبحت الدول الأجنبية بما فيها دول الجوار هي صاحبة القرار فيما يخص مستقبل ما كان يسمى العالم العربي .

لا يعني كل ما سبق الاستسلام للأمر الواقع وردم التراب على المشروع القومي العربي كما فعلت إسرائيل وأمريكا وجماعات الإسلام السياسي والأيديولوجيات الطائفية والمذهبية والشعبوية ،بل إعادة بناء المشروع القومي العربي الوحدوي الحضاري على أسس جديدة ،وهذا الأمر لن يكون من خلال الأنظمة العربية والأحزاب السياسية القائمة بل من خلال مبادرة مفكرين قوميين عرب .

قد يبدو الأمر بالنسبة للبعض وكأنها دعوة للمستحيل ،فعن أي عرب تتحدث وسط كل هذا الخراب والدمار  المادي والثقافي والفكري والأخلاقي ؟ ،ولكن لو فكرنا بواقعية عن مستقبل العرب والخيارات والبدائل المطروحة عليهم بعد أزمة وفشل الدولة الوطنية ،وما الحقه مشروع الإسلاموية السياسية من خراب ،وتراجع الأيديولوجية الشيوعية ،وتغول دول الجوار وإسرائيل والغرب  الخ ،فإن الدعوة لاستنهاض المشروع القومي الوحدوي العربي تستحق التفكير .     

إبراهيم ابراشإبراهيم ابراش

[email protected]

 

 

 

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت