المثقف العربي بين الوفاء للاحتجاج والولاء للسلطة

بقلم: الغزيوي بوعلي

 

ماذا يعني أن تظهر الاحتجاجات على مسرح الساحة العربية، وكيف يمكن قراءة هذا المفهوم لكي يكون حقلا معرفيا، ففي الحقيقة أن الاحتجاج، والاعتصام، والاضرابات والتمرد، كلها إفرازات واقعية، واقتصادية وفكرية تتنازل الإنسان وعلاقته بالواقع، لأنه هو الذي يرسم معالم الطريق لتجاوز كل العقبات، لكي يعيد لحظة الوعي الجذري لإنسانيته، فحيثما يكون الإنسان يكون الوعي والمعرفة والوجود، وحيثما يكون الاحتجاج يكون المتمرد، .......، والمحتج، ويكون الإيديولوجي والإسلاموي، والعلماني، في أي معرفة من المعارف الإنسانية.

فالاحتجاجات هي تعبير ذاتي وصريح عن الأصول لمجتمعية، وضرب من ضروب القبلية، والعرقية، حيث يجعل من هذه الممارسة الاحتجاجية بعدا فكريا، وممارسة تطبيقية، إذن كيف نفهم الاحتجاجات؟ وكيف يبنى فهمنا عليها؟

إن الممارسة الاحتجاجية تأتي بمعرفة ذاتية وواقعية، فهي نداء ضد الأنا المتعالية، وضد السلطة، وارتباط بين الفهم، والمعرفة والواقع، ولهذا أكد الباحثون على أنها ضرورة، واستجابة لبناء الفهم والإفهام والظفر بالآتي الذي هو من شأن الشعب والمجتمع.

إن الاحتجاج يتضمن نشاطا عقلانيا من أجل فهم الواقع في سبيل الإتيان بالحجج والأدلة، ولكن هذه الجدلية لا تأتي إلا من الواقعي بمضمون فكري، وسياسي معقلن، لأن الاحتجاجات هي مفاهيم أولا، ووظيفية تعبيرية ذاتية، وأداة في إنتاج معرفة مضادة لما هو سائد فهي الأبنية المحصنة التي لا تكف بالكلام، بل هي القبلي والبعدي، وتساول إبستيمي تفكيكي، فهي نموذج المعاينة من أجل أن توضع ضمن حقل الفهم السياسي، والمعرفي، والفكري فالاحتجاجات هي ممارسة نقدية للنظريات والمناهج الكلاسيكية، وتجاوز للأحزاب الأليكارتية، وخلق لمفاهيم جديدة لا تعتمد التأطير، ولا التنظيم، بل هي إفرازات ممارساتية في التفكير، وحاجة جديدة إلى معرفة أدوات الفهم الجديد، لها، فبدأ الفكر العربي المعاصر يعرف غزو العديد من المفاهيم الحديثة وموضوعات الفكر الاحتجاجي، منذ عصر النهضة إلى يومنا هذا، نتيجة احتكاكه بالفكر الغربي، وقد تعرض لهذا لمفهوم  على المستوى السياسي دون النفسي، أو الفكري، إلا أن انهيار الإمبراطورية، أيقض مطلب إعادة الاعتبار للإنسان خاصة مع رشيد رضا وبعض تلاميذته في المشرق العربي، ورغم هذه النهضة فإن المهتمين لم يهتموا بهذه المفاهيم الإجرائية والممارستية، إلا بعد ضعف الحدافة العياسية في بغداد.

ثم انهيارات أخرى في الأندلس، فظهرت المفاهيم الجوهرية، كالزنديق، والشعوبي، والمواني، والمتمرد، وبدأت الكتابات حول هذه الأسماء، والمعارف، والمثقفين، وغيرهم من المفاهيم، فالتطور المنهجي والعادي، المعياري، هو تطور في الرؤية وفي البناء، لأنه لفظ المحتج هو ليس بالضرورة مثقفا أو فنان أو شاعرا أو فيلسوفا، بل يعني القادر على الخوض لقراءة الثقافة العامة، والمعرفة الموسومة التي تكون سياسية، أو فلسفية أو تاريخية، فالاحتجاج هي الكلام حول القضايا المعقدة أحيانا، والتعريف عن البلاد، والإكثار من المحاورات السياسية، إذن ما الذي يمكن أن نستخلصه من هذه التعاريف؟

يربط مفهوم الاحتجاج عندنا في لغتنا اليومية بالثقافة العامة، والمعرفة الحزبية، وهذا أمر طبيعي لا غبار عليه ولكن ما دور المحتج في حياتنا ومجتمعنا؟ وهل هو مثقف؟ ولماذا الثقافة؟ ولماذا الثقافة بالضبط؟ وماذا سيفعل بثقافته؟ أسئلة متنوعة بتنوع الوعي السياسي، والفكري، والإيديولوجي الحزبوي، لأن المفهوم – المحتج – يشير في الغالب إلى ما يسمى في لغة علوم الاجتماع – بالموقف – أو المعارض، لأن اقتصار هذا المفهوم عليه بشكل مطلق لا ضيق يسمح لنا بالكلام عن الفئة الاجتماعية العاملة بمفهوم ماركس، هي القادرة على التعبير عن مواقفهما، واتخاذها كوحدة للتحليل الاجتماعي، والثقافي، والسياسي، كما أن دورها في المجتمع يمكن أن يكون انعكاسا، وتأثيرا إيجابيا أو سلبيا وهذا المضمون السياسي هو صعب الاختراق بالمعنى الارتودوكسي، لأنه مرتبط بالبعد السوسيولوجي، والجماهيري، وليس بالبعد السلطوي، فالاحتجاج هي قراءة، وتعبير وتفسير، لا تقل أهمية لحظة في عالم السوسيولوجيا، والاقتصادية العلمية، فأدواتهم وأساليبهم في الاحتجاج متنوعة، كما نرى في الدول العربية، كلبنان، وسوريا والعراق، والمغرب، وليبيا، فالمحتجون هم الذين يشاركون في الإنتاج المادي، والإنساني، فهما الشرطان الأساسيين لإنتاج وإعادة إنتاج حياة الفرد، والمجتمع كما يقول فوكو في كتابه (الفرد والمجتمع)، لذا عمل علماء الاجتماع بشكل أفضل بتعريف دور الاحتجاج في المجتمعات العربية وبعلاقاتهم مع باقي فئات وطبقات المجتمع، لأن المحتج يضطلع بمهمة تشريح وتشخيص وضعية ومكان الفرد وإبراز الروابط العضوية، والتمثل الفعلي الذي يوجد بين ما هو ثقافي وسياسي وبين ما هو إنسانوي، اجتماعي، ليس بالمفهوم المعرفة الحسية والسوسيولوجيا العضوية.

الاحتجاج ومعضلة الاصطلاح:

يتمتع مفهوم الاحتجاج في الكتابات القانونية، والاجتماعية، والنفسية، والتاريخية باستقرار نسبي، وهذه النسبية لا تنفي الاختلاف المنهجي والتنظيري فالتعريفات التي سوف نستعرضها تتفق على حد أدنى ما يمكن تسميته بالمواقف ولكنها تتنوع الرؤى في الطرح، ومن نسيج العلاقات الثقافية، والتجريبية، والتنظيرية إنها أطروحة تدور حول هذا الجدال السياسي في العمق، لذا يمكن تقييم هذه الأطاريح إلى بعدين:

1) بعد يرى أن الاحتجاج مرتبط بالبعد الفكري، وبالخبرة الذهنية في توليد الإنتاج المادي.

2) بعد يرى أن الضغوطات اليومية، والقهر السلطوي هو الذي يولد هذا الانفجار الجماهيري،

وعبر هذين البعدين يأخذ مفهوم الاحتجاج شعريته الثقافة الجماهيرية كتميز ليقيم تعارضا بين نوعين من الممارسة داخل المجتمع: العمل – والفكر ، فالعمل اليدوي، أو الفكري فهما قطبين أساسيين لا ينبغي أن ينفصلا، رغم موقف بعض الميتافيزيقيين الذين يعيشون خارج المجتمع، فرغم هذا الطرح فهو يأخذ المفهوم هدفا تحويليا لصالح الإنسان في الوجود الأمثل.

إن صعوبة تحديد المصطلح هو عمل يتمدد في ظل علاقات إنتاج الفكر، والعمل(1)، مما يعطي لهذه السمة الجوهرية عدة أساليب اجتماعية غير برانية، تعمل على هدهدت النظام السائد، حيث تخرج الجماهير معلنة مواقف، ومتخذة مواقع ضد هذا الاستبداد، وضد هذا القهر الجهنمي الذي يمارس على الإنسان، بعدما كان هو مقياس كل شيء، لكن مع التطورات الحداثية، أصبح خارج اللعبة، فأصبح غريبا كصالح في ثمود.

يجتر الماضي السحيق بمرارة، لا يعرف وجوده ولا ماهيته، مغلوب على أمره، بقلاع السلطة وقوانينها كما يقول "بيير بورديو".

 لكن هذا التطور الحداثي رغم سلبياته جعلته يحس إحساسا شديدا بهذا التمايز بين من يملك السلطة، ومن لا يملك إلا الهوى، فيخرج محتجا أمام هذا الجدار معلنا أنه سيد العالم، وأنه لا يستطيع أن يعيش هذه التبعية، لأنه يملك العقل، فهو عقل وعلم قوانين الفكر، به يميز بين ما هو قابل للعقل وما هو غير قابل، فهو عالم صغير، رغم كبر سنه كما يقال، فالمجتمع يملك لغة، وفكرا وجسدا وروحا، يعيش في الوجود، ويحس بالحرية النسبية، فهو ليس جبريا ولا قدريا، بل يعيش وفق القانون، لكن إذا لم يجد الحرية، ولا العدالة، ولا المساواة، فإنه يعيش الدنيوية، والاحتقار والإقصاء كما يقول فوكو "في كتابه "نظام الخطاب"، وفي "الوهم والحقيقة"، وهذه الرؤية الإسنادية والفاعلية تجعله يعيد النظر في كل المستلزمات الحياتية، والطبيعية والاجتماعية، عارضا براعته الفكرية لتكون قراءة، ومحاسبة لهذا النظام، أو لهذه الجماعة المنتمية، من أجل فهم، من هو إزاء الآخر؟ وكيف يبني شخصيته؟ وما موقعه داخل الجماعة؟

نرى أن هذه الأسئلة هي أسئلة حداثية تعمل على تقريب العالم على نحو غرضي وصوب غاية محددة، وهذا التحديد هو التحديد الإنساني المرتبط بالسيرورة التاريخية، يعني أن نكون للاحتجاج صورة التي من الممكن لأي شيء أن يعني، أي شيء آخر، كما يؤكد ديريدا .

والحق أن الاحتجاجات هي علاقة بين البنية السطحية، والبنية الفوقية، ولا وجود لفكر دون قاعدة، فهي التي تحدد وجوده بالذات، ومن وجوده الاجتماعي هو الذي يحدد وجوده الأصلي، كما يقول كارل ماركس في كتابه الإيديولوجية الألمانية"، فهذه الأجهزة الإيديولوجية للدولة بأنها آلة قمع وهيمنة، حيث تعمل الطبقة المهيمنة على إخضاع كل الطبقات لمسلسل الاستغلال، والاستيلاب، وتعيد هذه الفئات إلى تشييء، وقد أكد ألتوسير على هذا الطرح المنهجي، باعتباره الباب الذي من خلاله نلج إلى الواقع لمعرفة بعض الأدوات السرية التي تعمل على الضبط، منها (النقابات – الكنائس – الأحزاب – والمؤسسات الثقافية، فكلها تشكل البؤرة الجوهرية للأجهزة الدولة على المستوى الإيديولوجي، والملاحظ أن هذه الأجهزة تعمل على قمع، وإقصاء كل فعل مغاير، سواء كان فكرا أو ثقافة، أو تعبيرا طوابيا، لأن هدف هذه الأجهزة المخزنية هي زرع الاختلاف في الائتلاف، والوحدة في التعدد، لكي تتوحد بفعل تشغيلها وتوظيفها، وبالتأكيد فإن الاحتجاجات هي تعبير ذاتي، جاءت نتيجة دوافع ورغبات في الحياة والوجود، والإحساس بالحرية، والمساواة وذلك تأسيس أسس ديمقراطية إما برلمانية، أو قبلية كما في ليبيا (الحكماء – وأشياخ، وأعيان)، لكن الأجهزة الحاكمة تعمل جاهدة في خلق وترويج أوهام، وأحلام  قصد ضمان وإخضاع هذا المجتمع لاختباراتها وبرامجها المثالي(2) فهذا التصور لا يشكل في الوطن العربي إلا رؤية مضادة كما في الجزائر والعراق، وسوريا، ولبنان، لأن ترويج المفاهيم، وإنتاج الإيديولوجيا التي تكون في صف السلطة، أصبحت أمام الثورة الجماهيرية في خبر كان، لأننا نعيش ما بعد الحداثة: نعيش الاختلاف، التعدد، الإبداع وهذه المغايرة هي التي تسمح للجماهير بطرح أسئلة كثيرة وجوهرية تواجه بها ما هو ثابت ومقدس، ومدنس حسب الفعل الاحتجاجي، وحتى لا نسقط في مزاعم وادعاءات علينا أن نستقرئ الواقع العربي من أجل تقديم لوحة محددة لما ينبني أن يكون للجماهير الشعبية، دون نسيان أقوال غرامشي، ولينين، وروزالو كسنبورك، وماركس، وآلان تورين، وبيير بورديو، وغيرهم بالإضافة إلى فوكو ياما، وأومي بابا في هذا الشأن هذا على مستوى الغربي، أما على المستوى العربي، فنجد محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، والكواكبي، وأحمد أمين، وطه حسين، وجورج طرابشي، وأمين معلوف، والجابري، والعروي وإقبال، ومحمد سبيلا، والعلوي، وسالم يافوت، وغيرهم، إننا لعدم ترتيب هذه الفئات على المستوى الكرنولوجي، لأن الأولوية التراتبية ليست لها تقييما لبناء الموضوع. وتبعا لسنة التطور وقانون الممارسة الاجتماعية، فإن هذه الأخيرة هي تركيبة تشمل الفرد والجماعة، وتكون رؤية فنية، ومعرفة وأخلاق، وتصورات وعادات، تعيد محاكمة السائد، والمستهلك بلغة توازي التعاريف المتداولة والتي تعطي للكلمة براعتها الثورية، لكن النخبة الحاكمة تظل تراقب التحركات بشقيه السياسي والثقافي، مع وضع متاريس في التعجيل قصد الاستسلام واتخاذ الحلول الترقيعية، لكن التمرد والعصيان، يأخذ إطارا جديدا بالنسبة للدولة، وتفجيرا للسائد دون إنجاح السياسة الإدارية الجديدة، ويقول عبد الله العروي "لاشك أن إنتاجها الحالي يشكل طفرة عظيمة وثورة ثقافية حقيقية إذا قارناه بإنتاج القرن الماضي(3).

يستكشف هذا الطرح النقدي، انبثاق الجماهير بكل أصولها، وكشف عما تنطوي عليه من تجاذب وتناقض، لكن اهتمامنا الأساسي لا يرتكز على المكتوب بصيغته المعهودة، بقدر ما يرتكز على ثقافة الشعوب الناضجة التي وقفت أمام الأخطبوط الثلاثي، الجهل – التخلف – الهيمنة والسلطة، وهو مطلب أساسي يشير إلى مكامن الخلل في النهج العربي، الذي هيمن كالعنكبوت منذ ردح من الزمن، لكن الوعي الفطري، والمكتسب، جعل الأفكار تنتشر بسرعة، وبلغت المدن والقرى، والبوادي، فانطلقت الجماهير مشكلة معارضة قوية من قبل بعض العناصر الفكرية المتأثرة بأفكار إصلاحية، وارتقت هذه المعارضة إلى حركات تحررية وثقافية كحركة 20 فبراير في المغرب، و17 فبراير في ليبيا وسميت أيضا بأسماء متعددة، معتبرة نفسها هي المحرك التاريخي للجماهير العربية، دون السقوط في الظلامية، أو المنبرية السلفية بل هي روح العصر، قادرة على استيعاب معطيات الحضارة المعاصرة، ومعرفة كينونة الجماهير، وحاجياتهم اليومية والآنية، فالاحتجاجات الجماهيرية هي انفصال عن جهاز الحاكم المركزي، وبداية ارتباطه بحركة المثقفين والحرفيين، الذين يمثلون الطبقة القائدة والقادرة في تغيير الوضع لا تفسيره، وأنه فكر انطبع بطابع ثوري سياسي، وثقافي، لذا جعلنا هذا المد الثوري الاحتجاجي أن نعيد النظر في التاريخ، والسياسة والثقافة السائدة قصد معرفة المرجعية المتحكمة في هذه الحركات، فالتاريخ هو فكرة، والفكرة لا تموت، فهي بداية الضجة، وموقف الدفاع الذي أصبح مميزا عن غيره، فالحركات هي انتقادية للسياسة وضد الظلم والظلامية، كما أنها تجعل المجتمع هو الجلاد والقاضي، وهذا ما يدفعنا أن نستحضر قضية الجندي دريفوس، وإصدار البيان سنة 1898 بجريدة بورور "بيان المثقفين" كما أكده ريمون أرون، لذا فالنظام السائد وأجهزة النشر: صحف، مجلات، إذاعة، سينما وفي أحزاب الطبقة السائدة على نحو يكفل القبول السلبي، إن لم نقل الإيجابي، من جانب الطبقات المسودة التي تعينها للمجتمع الطبقة السائدة وتستطيع البروليتاريا بدورها أن تنتج مثقفين على مستوى الهيمنة على اعتبار أنها طبقة قادرة بحكم المكانة التي تشغلها في نمط الإنتاج الرأسمالي على أن تصبو بصورة واقعية إلى قيادة المجتمع (4).

إن تمثيلية المثقف للهيمنة تعني من الناحيتين الاجتماعية والسياسية ضمان "الإجماع الإيديولوجي لدى الطبقات الاجتماعية حول النخبة المسيرة.

وفي اتجاه آخر يعمل مثقفوا الطبقات الدنيوية على تفكيك إيديولوجيا الطبقة المحتكرة للسلطة قصد إضعاف هيمنتها أي نفوذها الاجتماعي والثقافي، وتعزيز هيمنة الفئة أو الطبقة الاجتماعية التي يرتبطون بها كما هو الحال بالنسبة للبروليتاريا في المجتمعات الطبقية أو الطبقات الشعبية بالنسبة للمجتمعات المتراتبة التي نراها في الوطن العربي، لذا عمل غرامشي على اعتبار الحزب السياسي والإيديولوجي الأداة الأولى والفعالة التي يستعملها المثقفون لمقاومة التأثير الإيديولوجي السائد، بينما تستعمل الطبقة السائدة أجهزة ثقافية أخرى كالمدرسة ووسائل الإعلام والمؤسسات الدينية والأحزاب والمنظمات الثقافية (أندية، جمعيات، أكاديميات الخ...) لبسط هيمنتها الثقافية والأخلاقية وهذه الأجهزة هي ما جمعه ألتوسير تحت اسم "الأجهزة الإيديولوجية للدولة" محاولا وضع نظرية وجدت بذورها عند غرامشي وسوف نعرض لذلك عند مثقفين عرب حول هذه الزاوية، استعمل لينين مفهوم الهيمنة ليشير إلى وظيفة الحزب القيادية في نضاله وسعيه للاستيلاء على السلطة بينما عند غرامشي فالمفهوم سيؤدي معنيين: القيادة السياسية والقيادة الثقافية لتحقيق ما كان يطلق عليه "الإصلاح الثقافي والأخلاقي" للجماهير.

لذا كتب بيوتي يقول: "ليست الهيمنة سوى وسيلة لازمة للاستيلاء على السلطة وللمحافظة عليها، أما من حيث أنها إصلاح أخلاقي وفكري وهي غاية. فالثورة الثقافية لا تقل أهمية عن الثورتين السياسية والاقتصادية ..."(5).

لقد كان ماركس فيبر يربط ضروريا بين السلطة السياسية واحتكار مشروعية استعمال العنف فهو يقول في تعريف الدولة: "ينبغي أن نتصور الدولة المعاصرة كجماعة بشرية، والتي في حدود إقليم معين تطالب وبنجاح – لحسابها الخاص – باحتكار العنف الفيزيقي المشروع"(6) وألح بيير J. W. Lapierre في كتابه مستعينا بتحديد انتروبولوجي – سياسي على "أن العلاقة الحميمية بين الدولة والعنف هو ما يميز بشكل خاص عصرنا". ونحن نريد أن نطرح هذا السؤال: هل هناك سلطة تمارس بالنصف والإكراه فحسب؟ وهذا السؤال هو صيغة أخرى لسؤالنا الأخير (هل يمكن أن نستعين بالممارسة أو السعي إلى السلطة في غياب هيمنة ثقافية وإيديولوجية؟) إذن تكون الإجابة عليه بالنفي إجابة نتبناها حول هذا السؤال. المقصود من هنا نرى أنه لا يمكن أن تقوم سلطة سياسية أو اقتصادية دون وجود منظومة من الأفكار والتصورات والأوهام والعقائد التي تنتشر عبر الأدب والفنون والمذاهب الفلسفية والفكرية والتربوية الخ. والمبررة للسلطة أو السعي نحوها. ولا داعي للتذكير بأن إنتاج وترويج هذه المنظومة يقوم على عاتق المثقفين بقدر ما ندعو مرة أخرى ونلح على القول بأنه لا وجود لسلطة تقوم على العنف المادي وحده، كما لا وجود لسلطة تقوم على الهيمنة وحدها، فالإكراه والإقناع (العنف المادي والرمزي) هما ركيزتا السلطة. يقول لابيير حول نفس الإشكالية: "تفيدنا السوسيولوجيا والتاريخ في دراستهما للحياة السياسية بأن في ممارسة السلطة يكون لكلمة ما للعنف من قيمة.

إن الإقناع قصد الحصول على الموافقة يبدو أكثر أهمية وفاعلية من الإكراه، إن القيادة تتم بالكلمة وليس بالعنف لأن القيادة واقعة تواصل وليس إكراه"(7).

نجد في هذا النص للأبيير ردا على كل من نيتشه وماكس فيبر والاتنولوجيا المعاصرة إذ يؤكد هؤلاء على "أن حقيقة وكينونة السلطة تقوم على العنف ولا يمكن أن نفكر في السلطة بدون واقعة العنف والإكراه لأن العنف بكل أشكاله بات وسيظل أحد مكونات وأساليب السلطة، وحتى الإقناع الذي يتحدث عنه لابيير وغرامشي هو بمعنى ما عنف. إنه عنف رمزي. لأن الأساليب تتغير أما الغايات فواحدة: إدامة السلطة أو الهيمنة أو المطالبة بها. وفي رأيي تقتصر السوسيولوجيا على دراسة شكل واحد للسلطة: الذي والعنف فهي تبدو غير معنية بأدبيات اللسانيات مثلا باعتبارها بعيدة عن مجالها. ونحن نلمس ما لذلك من تأثير وأهمية في حياتنا الاجتماعية، وحياتنا يجب لفهم السياسة في جوهرها (ليس بالمعنى الفلسفي وإن كانت الكلمة توحي بذلك) أي العنف عبر التاريخ. لكن مهما يكن شكل العنف الممارس، فالجوهري بالنسبة لموضوعنا هو من الذي يمارسه وعلى من يمارس؟ وهل عنف يقابله عنف مضاد. فهذه هي حقيقة الصراع، وللصراع مستويات: فقد يخوض المثقفون صراعهم ضد السيطرة والهيمنة على المستوى الثقافي والإيديولوجي وتخوض الجماهير صراعها على المستوى الاقتصادي والحرفي (نقابات، أحزاب) ومتى وقع اضطراب في هذه المستويات فإن النتيجة تكون إما نقص الفعالية أو المخاطرة.

ومن الصعب حقا أن يميز المرء بين هذه المستويات لكن من المفيد جدا أن تسمى الأشياء بأسمائها، فمجرى التاريخ و"قوة الأشياء" لا تترك أحيانا للفاعلين فرصة الاختيار ليتحول المثقف مثلا إلى مناضل متجذر والنقابي إلى قائد سياسي وهكذا ...

إن الهيمنة التي يتحدث عنها غرامشي ودارسيه لا تنحل إلى مقولة "العنف الرمزي" بل إنها مفهومة في المجال السياسي كأداة ثقافية أساسا "آلة حرب" أي بمعنى آخر ثقافة / فعل تروم تحقيق مصالح معينة، وليست بالضرورة مباشرة أو ظرفية.

وأخيرا فإن بسط الهيمنة سواء هيمنة الطبقة السائدة أو تلك التي تسعى إلى قيادة المجتمع هو شرط ضروري لممارسة الطبقة أو النخبة لوظائفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

إن هذه النظرة الحتمية لا تترك سوى هامشا صغيرا من المناورة للمثقفين الذين يخفون تبعيتهم في شكل لا واعي، زائف، لذا أبعد المثقفون باعتبارهم طبقة بورجوازية صغرى أي الأبناء الغير الشرعيين(8) رغم أنهم مناضلون فإنهم بقوا في أبراجهم العاجية دون النزول إلى صفوف الجماهير، الشيء الذي جعل السياسي يحتل مكانة مرموقة سواء على المستوى التأطير أو التدبير، لكن رغم هذه المنحة التوظيفية الحزبية، سرعان ما تتعرض لهزات عنيفة من طرف الشعوبيين الذين لا يعرفون ما النضال، ولا الأحزاب ولا الديمقراطية، هدفهم الأسمى هو المعيش اليومي، وسيادة الطمأنينة، والسلام كما يؤكدها جان جاك روسو في كتابه (العقد الاجتماعي)، فهذا الغياب للمثقف العربي ودوره الفكري والتأطيري، ظهرت العديد من الحركات الإسلاملوجية، التي قادت هذا الحراك الاجتماعي والعمل على تفجيره، مما أفقد العقل هيبته، وهيمنته، وأصبحت العاطفة هي السائدة والتأويل الاعتباطي هو العتبة العليا، والاستراتيجية في تأصيل التراث الديني لكي يتساوق مع شروطهم الذاتية، وهذا ما نراه في العراق، وسوريا، وفلسطين واليمن، فهذه الحركات الدينية لا تعترف بالسلطة الحاكمة، ولا بالدولة ولا بالمجتمع المدني، ولا بحقوق الإنسان ولا بالديمقراطية، بل هدفها هو بناء الخلافة الإسلامية، ويكون الإمام، هو العمود الفقري، فإليه نعود، وبه نحتكم، فهذه الرؤية الأرتودوكسية هي هوس براني لإقصاء الفرد، لتأسيس الجماعة وإضفاء الشرعية داخل حداثة لا واعية ببعد تأويلي تفسيري في الوقت الذي يتجلى المكون العقلي الذي هو فلسفة الأنوار .

إن هذه الرغبة في أن يكون المثقف ذاتا التي تقود العالم نحو الحداثة، وما بعد الحداثة، وإلى ما بعد العولمة، لكي يكون فيها الإنسان، هو المركز والجوهر، والنسق ولبنية والهوية، والشخصية، والمختلف دون أن انهيار للوضع البشري، فالمثقف هو ذاك الإنسان الذي يفكر في ذاته، وخارج ذاته، يولد الفكر وينتقده، باعتباره وحدة منسجمة تؤخذ على عاتقها كتلة واحدة، لأن هذه الوحدة قوة تغييرية لا يمكن أن تحدث إلا بالقطيعة كما يقول عبد الله العروي ومحمد عبد الجابري وهو الجلة الأولى في وجود مجتمع لا يلغي الماضي ولا الحاضر، ولا المستقبل، بل يبحث على مستوى الأمثل والقوى من الاندماج بين المؤسسات الاجتماعية، فالموقف هو توليد الصراع بين الهامش والمركز، انطلاقا من الأسرة، ومرورا بالمدرسة، وانتهاءا بالمجتمع، حيث تنبثق شعارات التي تلغي كل الثنائيات وكل فكرة مثالية أو طوباوية، لأن المقاومة هي مقاومة الاندماج في الحياة والكون، وصناعة الإنسان الذي يعي ذات بذاته، وأن يكون ذا شخصية التي تتجذر في أعماق الحياة، إلا أنه يتعين على المثقف أن لا يساند كائن الدولة وأن لا يقصي المتحول، لكي لا نسقط في التقهقر وفي التحديث المؤسلب، إن المثقف أمام هذه الاحتجاجات لابد أن تنمي المصادقة على هذه القوانين العفوية، وعلى الحركات الاجتماعية، فهي التي توسع مداركه التنظيرية، والأخلاقية وتطور توجهاته بشكل مستقل عن بعضها البعض، لأن مقاومة التصورات الكليانية هي عبارة عن استبعاد كل الوضعيات الظالمة والحالمة في الحكم ومن تم الدفع بهذا الكمال المنهجي، ويقول آلان تورين "مع ذلك هناك في الغالب شيء ما من حركات القطيعة الاجتماعية، لكن ليس في وسع اليسارية سوى أن تقدم تأويلا فقيرا أو متشدد للتاريخ دون أن تتمكن من التحول إلى قوة فعل دائمة، وقد كان هذا حال عدة بلدان، كما هو الشأن بإيطاليا خلال سنة 1970، وبفرنسا ما بعد 1986، وبحرب العصابات الكولومبية، أو النضال المسلح بالبنغال ويعتبر الإرهاب في كثير من الأحيان شكلا يساريا متفاقما، في وضعية يبدو فيها الصراع العنيف لازما وحيث القدرة على تغيير أو تدمير النظام السائد تكون في منتهى الوهن، عند هذه النقطة ليس هناك من سبب وجيه لاعتبار أفعال إيجابية قد تؤدي إلى نتائج معكوسة كما لو كانت يسارية"(10).

وانطلاقا من هذا الطرح لآلان تورين نستخلص أن الحضور المركزي للصراع هو حضور يوجد في ذاتية الفرد، فهو الذي يفكر ويبدع، ويتمرد، ويثور ضد الأشكال المحيطة حوله، والأشياء التي يحملها في كيانه النفسي، والفكري إنها صياغات لا تحجب المبتذل كما يرى هيدجر، بل هي إزالة الحجب من أجل فهم الوجود الاجتماعي فهو المتمثل في تعدد المظاهر اللغوية الدقيقة، فالمثقف هو الفتاة، والشاعر، والمسرحي، والفيلسوف والصحافي، والإداري قادر على الانخراط في الحركات الاجتماعية يكون بمثابة البرغي أو الدينامو الذي يوجه، وينشط ويحرك كل مستويات  التنظيم الاجتماعي، فهو الذات المحكومة بالبحث عن المصلحة العليا، إنه الذات الذي يذوب الذوات التي تندمج مع الوجوه الامبريقية المتعففة، فينتج الصراع كصياغة تنظيمية أولا، وإنتاجية ثانية، فإن هذه اللعبة سوف لن تنجح إذا قررت الدولة بأن تكون أكثر من مجموعة من قواعد موجهة تبدأ المعارضة حول هذا التوحد حيثما يكون منتجين، أي عندما يسمح للمثقف وللمنتج بأن يأخذ ملكاتهما الخاصة يعين الاعتبار، وهناك بالطبع حدود لاستعادة اللاتوازن من أجل التوازن إذا انقلب المثقف عن مبادئه، وجعل الاحتجاجات من ناحية أخرى بالغة الغموض واللبس، إذن سيترك المثقف في العمل الاحتجاجي التزامه بالوسطية في طرحه للأفكار والمضامين، فلا ينهج سلك السطحية في عرض نظريته (كما عند المحتجين)، ولا يروم الغموض المعنث للسلطة، ولعل هذا التبنين هو أقوى تجليات هذه المبادرة والمشاركة الحاصلة في بناء السيرورة الاجتماعية فيغدو للاحتجاج مؤلفا، ومبدعا وفريقا يسهر على تجديد معاينة حيث لكل محتج الحق في إقرار  ويقول آلان تورين في هذا الصدد "فلا أثبت نفسي بصفتي ذاتا إلا بالاعتراف في الآن نفسه، بأنه يتم استعمالي لتشغيل التنظيم الاجتماعي، الغريب في أهدافه كما في وسائله عن كل ما يعنيه التذويب، ولا تعود الأولوية إلا الذات التي تنفصل عن جزء من وجود الفرد الذي يحملها، ولا إلى العقلنة أو السلطة اللتان تحكمان العالم، لأننا نعثر على الوجهين الاثنين للواقع الأول نفسه، فعل النفس على النفس الذي ليس فعلا مادام أنه ينتج التذويت ويمكنه حتى تغييره احتجاجا على كافة الأنساق"(11) فالاحتجاج هو صورة جلية للسوسيولوجيا وعلم النفس، والأنتروبولوجيا، المتحددة في شقها المانع خاصة، لأن تنوع المسارات التوظيف تخلق لدى المحتج متعة قصوى  من ذي قبل، كما أن التعدد التأويلي يجعل دور المثقف يستعيد حياته السرية بعيدا عن ممارسته الإيديولوجية ليبدأ دورة مفتوحة تتجدد عبر تسريب رغبات المحتجين وأصواتهم ورغباتهم وبالتالي حياتهم، هكذا فإن قراءات المحتجين يمكن أن تولد نصوصا مضمرة مرتبطة بالنصوص الممكنة من خلال تفصيل مقتضياته القانونية، والسياسية، والفكرية، وإخصاب عفويته وتنمية بذوره الأولى، وتغذية تحققاته الممكنة، حيث يتهم المحتج ما ابتدأه المثقف، يفصل ما رأه ويسقي البذور الشعاراتية التي نثرها بخياله في إنتاجاته البياتية سواء عبارة عن خربشات أو رسومات المبثوثة على الجدران لذا نؤكد أنه ليس أمام المثقف والمحتج إلا أن يشتركا في لعبة المواقف، واتخاذ القرار وبالفعل واقتراح آفاق مطلبية توسع معانيه ودلالاته، يتغير تبعا لهذه التغيرات الجذرية، باعتبارها براديغم الرؤية الجديدة، ففي ضوء هذا الأفاق المطلبي، يصبح الجميع مبدعا ومنتجا للخطاب، فلا تقتصر العملية الإبداعية معها على محتج واحد، مما سيؤثر على طبيعة الجماهير التي ستصبح أيضا منتجين حقيقيين بدعوة من المثقف، غالبا سواء كانت صريحة أو ضمنية، إذ سيمنح لهذه الجماهير مساحة حرة ومفتوحة للمشاركة في بناء مجتمع يتسم باحترام المؤسسات، ويسوده القانون، وينتج معناه الواقعي إذن كيف يرى علم النفس هذا القانون الوضعي المسطر؟ هل هناك خلفية قانونية أو سياسية لتطويع هذا القطيع؟ وهل القوة قادرة على ردع أفواه الجماهير؟ وكيف يكون القائد في نظر القطيع؟ وكيف ينظر علم النفس لهذه الاحتجاجات ورموز القول والفعل؟ وما هو تفسير الاحتجاجات  في التحليل النفسي؟ فالاحتجاجات هي نتيجة الطبيعة العفوية وإشارات مرتبطة بالتفكير والوعي، فالاختلاف في التعريف والتركيب هو اختلاف في الشخصية وأنواعها، لذا عمل علماء النفس على تحديد هذا المفهوم انطلاقا من رغبات الإنسان ودوافعه، ونوازعه، مما يجعل كل إنسان يعبر ويحلم كتنفيس فيزيولوجي للمشاعر من ناحية الكبب، والنقص، والرغبات لخلق التوازن الذهني والنفسي كما يقول كارل يونج في كتابه "الإنسان ورموزه"، فالاحتجاجات هي اللاشعور، والرغبات المستخدمة عن طريق الأحلام، أو التعبير الفطري أو ما يمكن تسميته بالعقل الباطني، الذي لا يقل أهمية من حياة المحتج، بل اعتبره العلماء هو الشخصية الباطنية أو الثانية المضمرة التي ترشدنا لمعرفة هذه العلبة السوداء، لذا تقف الدولة أمام هذه الانكسارات، والتراجعات الفجائية موقف القوة، والردع، دون أن تعرف ماهية الأسباب، ولا عللها، بل تتورط في المشكلات دون أي حوار أو تواصل يذكر، لذا نجد المثقف يحتفظ بأكثر مما يفعل كوعي نقدي، فهذا التراجع لا يدرك إلا أثناء الممارسة، لا في الكتب المدونة، فرغم أن العارف والمالك، والشاعر، والحالم، والواعي، فهو البداية والنهاية، فعن طريق تفتح الملفات المطلبية، فهو لسان القوم والجماعة، ............ الذي يمنح للسلطة المعرفية قوتها، وبراعتها النظمية التي تتأسس على الشكل التالي، من فعل ولماذا الاحتجاج، وكيف جاء، وما هو الرابط؟ وما الهدف من هذا الاحتجاج، أسئلة تراكمية تتحدد من خلال الشخصية أو الشخصيات الغير الروائية، أو المحكية، فهي الحاضنة للأشياء وللمعارف، تدرك ذلك، فالمحتج يبني عالمه من خلال حاجاته اليومية، والمعيشية، فهي المنشأ في الأساس، ومن خلال صراعاتنا الداخلية بين الرغبات اللاواعية وجهودنا الواعية فالاحتجاج ليس هو الطريق الملكي إلى اللاواعي كما يقول فرويد، بل نبش في اليومي، والإحساس بالإقصاء، والتهميش، لأن هذا الفعل هو الذي يعيد لنا وجود الإنسان أمام العالم، وأمام الذات، والدولة، وهذه العودة هي عودة للثقافي، والسياسي والاجتماعي فبالنسبة للمثقف هو المقصود الذي يقوم بتفسير الظواهر، ويعطي البدائل عن طريق تحليل الفرد وتجاربه الخاصة، جنبا إلى جنب مع موروثه الطبيعي والثقافي وعن ذلك نرى أن القواسم المشتركة في محتوى الاحتجاج بين الأفراد والجماعات، تعود أساسا إلى تشارك في صوت أو أصوات واحدة الذي هو التغيير، وإسقاط الأنظمة الأوليكارشية، كما حدث في ليبيا، والعراق، واليمن، والجزائر، وتونس ولبنان، فهذه الأصنام المحطمة هي تعرية لهذه السلطة الجهنمية التي كان يعيش فيها الإنسان. فهذا التخلص من الأصنام كما يقول إبراهيم عليه السلام في سورة إبراهيم من التخلص من الكوابيس الواقعية باسم مرحلة الاسترخاء الاجتماعي، حيث يقول دماغ المحتج بالتعبير أثناء الحراك من أجل التأثير على المحيط الخارجي، والدافعي، فهذه العوامل النفسية، تؤثر على المحتجين، باعتبارها طاقات مكبوتة داخل أجسادهم، وفي أدمغتهم حيث يصعب التدقيق فيها، يمكن أن تكون استجابة لحاجات الجسم الفيزيولوجية، فتخرج على هيئة تعابير وشعارات، ورسومات، وأقنعة تشكل عقله الباطني، كما أن هناك الكثير من الأحداث في الواقع تكون مأخوذة من الذكريات، ومن الحاضر، أو من اليومي، كلها تساهم في صناعة قرار المتخذ.

فالمثقف يتعين عليه أن يعترف بالولاء أو بالوفاء، لأن كل إقرار، أو إبداع يتضمنانه قسطا مما يتجاوز العقل(12). لأن العقلنة الموضوعية تستطيع فعلا أن تفهم الواقع، وما يفرزه من احتجاجات واعتصامات باعتبارها أنوية رؤيوية ينبغي أن تخضع للتأطير والتوعية، دون السقوط في الفوضى، فالعقل النقدي الواقعي هو الذي بمقدوره مواجهة تعقد علاقة المثقف / والواقع / والمثقف / والسلطة، والنظام، واللانظام ويقول ادكار موران "إن العقل المعقد أو المركب فيستطيع التعرف على هذه العلاقات الأساسية فهو يستطيع أن يتعرف في ذاته على منطقة مظلمة غير قابلة للتعقل، وغير أكيدة، ليس العقل قابلا للتعقل كليا"(13) إذن فالعقل المركب لا يتصور الوقائع في تعارض مطلق، بل في تعارض نسبي، حيث أن المثقف هو كائن عاقل وكائن مختل ويرى ريمون أرون "لقد أراد هؤلاء لأنفسهم حق المشاركة في شؤون بلادهم، فاصطدموا سرعان ما انقلبوا ثوريين يريدون طرد من يقفون في طريقهم"(14).

فالطرح الأروني يقربنا من مجال السياسي المعاصر، حيث أصبح المثقف مهمشا، مما دفع بالسياسي، والشعوبي أن يحتل مكانة في المجالات المؤسساتية كما ذكرت سابقا، لأن ميلاد الثقافة في العالم العربي أصبحت في خبر كان نظرا للعولمة والرقمنة التي سيبحث العقل العربي وجعلته خاضعة للسلطة المعرفية والاقتصادية العربية وخاصة للامبراطوريات الخارجية، كتوركيا وإيطاليا وفرنسا (في ليبيا، وسوريا، والعراق) فهذه الهيمنة الغربية والشرقية جعلت المثقف يعي دورته الاجتماعية كي يبرهن الرؤية النقدية التي أصبحت هي المثل العليا للمجتمعات المسيسة والمؤدلجة، لذا اكتسب المثقف أفاقا جديدا دون السقوط في التبعية الثقافية والاقتصادية، فهو الإنسان بوصفه كائن حي يتميز بامتلاكه لعدة صفات نقدية من قبل الثقافة والمجتمع.

ومهما يكن فإنه المفكر بهويته الثابتة يتطور عبر الزمكان، وذلك بفصل الشعور والفكر والذاكرة والإرادة، فهو غاية وليس وسيلة وذلك مقابل الأشياء التي تعتبر مجرد وسائل، وتأخذ القيمة معناها الأخلاقي والنقدي من خلال العقل المركب في العمل.

إنجاز: د. الغزيوي بوعلي / فاس

دة. بن المداني ليلة

الهامش:

(1)- جاك مارك بيوتني، فكر غرامشي السياسي، دار الطليعة، تر: جورج طرابيشي، ص: 46.

(2)- جون بول مونيي، نحو مدخل لسوسيولوجيا السياسية، ج 1، دار النشر كول، ص: 5.

(3)- العروي عبد الله، العرب والفكر التاريخي، ص: 27.

(4)- مارك بيوتي، المرجع السابق، ص: 18 – 19.

(5)- نفس المرجع، ص: 116.

(6)- أورده جان وليام لابيير في كتابه: Vivre sans état ? Edition seuil Essai sur 1 e pouvoir.

(7)- المرجع السابق، ص: 350.

(8)- آلان تورين، التفكير على نحو مغاير، ترجمة عبد الملك ورد، ط: 1، 2019، ص: 86.

(9)- د. بوعلي الغزيوي، كيف تقرأ التراث، موقع "دنيا الوطن".

(10)- آلان تورين، التفكير على نحو مغاير، ص: 163.

(11)- آلان تورين، التفكير على نحو مغاير، ص: 164.

(12)- اذغار موران، من أجل عقل منفتح في محمد سبيلا، تساؤلات الفكر المعاصر، دار الأمان للطباعة والنشر الرباط، ص: 16.

(13)- اذغار موران، من أجل عقل منفتح في محمد سبيلا، تساؤلات الفكر المعاصر، ص: 20.

(14)- ريمون أرون، أفيون المثقفين، ص: 180.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت