تعبر الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في الثاني والعشرين من شباط (فبراير) الجاري بزخم إلى عامها الواحد بعد الخمسين في ظل استحقاقات سياسية شتى على كافة المستويات في معارك الدفاع عن «سياسة السلاح وسلاح السياسة» لمواجهة الاستعصاءات الكبرى التي تستهدف تصفية المسألة الوطنية الفلسطينية، وتسييد إسرائيل في حلف إقليمي وتدمير مستقبل الشعوب العربية وشق الطريق نحو «رؤية ترامب ـ نتنياهو».
وشكلت انطلاقة الجبهة الديمقراطية في 22 شباط (فبراير) 1969 منعطفاً تاريخياً بأبعاده المختلفة، كونها الفصيل اليساري الديمقراطي الذي جاهر بيساريته، ويضم في صفوفه مناضلات ومناضلين من العمال والفلاحين والفئات الوسطى وسائر الكادحين، ومن المرأة والشباب، من أجل التحرر الوطني الناجز لشعب فلسطين ومستقبله الاشتراكي.
ربع قرن على الفشل
انطلاقة الجبهة الديمقراطية في عامها الحادي والخمسين تأتي والقضية الفلسطينية تواجه مخاطر كبيرة في ظل حالة تيه وضياع سياسي ورهانات خاسرة على المفاوضات العبثية، بعد أكثر من ربع قرن على اتفاق أوسلو الفاشل الذي شكل انقلاباً على البرنامج الوطني المرحلي «النقاط العشر» الذي طرحته الجبهة الديمقراطية في آب (أغسطس) عام 1973 واعتمدته دورة المجلس الوطني الفلسطيني عام 1974، كبرنامج نضالي متكامل في إطار الانتفاضة الشعبية الشاملة من خلال «استراتيجية البرنامج المرحلي على طريق الحل الديمقراطي الجذري للمسألة الوطنية الفلسطينية على كامل التراب الوطني الفلسطيني»، لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان 4 حزيران (يونيو) 1967 وانتزاع حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة كاملة السيادة بعاصمتها القدس وعودة اللاجئين.
وعلى خلفية البرنامج المرحلي احتدم الحوار الفلسطيني حتى عشية دورة المجلس الوطني الفلسطيني الثانية عشرة في حزيران (يونيو) عام 1974، وهنا تدخلت «سياسة السلاح إلى جانب سلاح السياسة» بسلسلة من العمليات البطولية الخلاقة على يد مقاتلي القوات المسلحة الثورية للجبهة الديمقراطية وأبطالها في عملية «معالوت»، «وبيسان»، و«طبريا» و«القدس» وغيرها.
وفي حضرة الشهداء، أجمع المجلس الوطني على إقرار البرنامج الوطني المرحلي الذي وحدَّ الثورة والمقاومة والشعب، ووحدَّ الكتلة التاريخية لإنجاز مهام مرحلة التحرر الوطني، وتحت راية الوحدة دخلت منظمة التحرير الأمم المتحدة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1974 بالعضوية المراقبة اعترافاً من المجتمع الدولي بالشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية الثابتة غير القابلة للتصرف.
فلقد شكل البرنامج الوطني المرحلي مشروعاً ريادياً على المستوى الفكري والسياسي، كما شكلت عملية «معالوت – ترشيحا» عملاً ريادياً على المستوى العسكري، ومثلت نهجاً متميزاً في مسيرة الكفاح المسلح الفلسطيني. حيث كانت العملية عملاً ذا مغزى سياسي وإعلامي محدد، تهدف لإحراج العدو وإرباكه وإجباره على التفاوض، ونجحت في شل إسرائيل طيلة ثماني عشرة ساعة كاملة، وفي إحداث دوي سياسي هائل على المستوى الدولي، وكانت فاتحة لسلسلة عمليات بطولية مثل (طبريا، عين زيف، بيسان.. الخ) التي واصلت إبراز الدور العسكري المميز للجبهة الديمقراطية.
إن اتفاق أوسلو الفاسد حوّل الضفة الفلسطينية والقدس وقطاع غزة من أراضٍ محتلة وفق قرارات الشرعية الدولية احتلتها إسرائيل بعدوان 4 حزيران (يونيو) 1967 إلى أراضي متنازع عليها، يعطي لدولة الاحتلال الحق في نهب الأرض الفلسطينية لصالح الاستيطان وتهويد القدس. ولم تكتف القيادة الرسمية بذلك عندما أرجأت الملفات الرئيسة كـ«القدس، اللاجئين، المستوطنات، المياه، الحدود، المصير النهائي للضفة وغزة...» لمفاوضات الحل الدائم، استغلت ذلك إسرائيل لبناء الوقائع الميدانية ومراكمتها على الأرض والشروع بفتح بوابات التطبيع، بينما الطرف الفلسطيني يقف موقف المتفرج في حالة انتظاريه ورهانات خاسرة على المتغيرات الإقليمية والدولية.
خطوات للأمام
لم يعد كافياً للقيادة الرسمية واللجنة التنفيذية الرفض اللفظي والكلامي لـ«رؤية ترامب» والاكتفاء باجتماع تشاوري مجرد من الصلاحيات في ظل حالة إجماع وطنية رفضاً للرؤية، بل أصبح واجباً على القيادة الرسمية بضرورة التقاط الفرص السانحة والبناء عليها في خطوات عملية، في ظل المواقف الأوروبية الرافضة لـ«رؤية ترامب» وتأكيدها على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني إلى جانب تمسكها بقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، عبر تطبيق قرارات المجلسين المركزي والوطني بسحب الاعتراف بدولة الاحتلال، ووقف التنسيق الأمني، ومقاطعة الاقتصاد الإسرائيلي، وتحرير الحالة الوطنية الفلسطينية بمجملها من قيود أوسلو وملحقه بروتوكول باريس الاقتصادي، واستنهاض المقاومة الشعبية نحو الانتفاضة الشعبية الشاملة ضد الاحتلال والاستيطان.
وتنظر الجبهة الديمقراطية إلى المقاومة في الميدان بأنها شكل من أشكال النضال والكفاح لدحر الاحتلال ومستوطنيه، وتتوج أشكال النضال الأخرى وليس بديلاً عنها، ولن تحقق أهدافها بمعزل عن النضال الجماهيري الذي تجسدَّ بانتفاضتي الحجارة الكبرى والأقصى، وهبات شعبنا في الضفة والقدس، ومسيرات العودة وكسر الحصار بقطاع غزة، إضافة إلى النضال السياسي الدبلوماسي والاقتصادي والاجتماعي والنقابي وسوى ذلك.
تحديات العمل المسلح
حيث وُضعت الجبهة الديمقراطية منذ انطلاقتها في تحد أمام واقع التطبيق الفعلي لرؤيتها للعمل المسلح، فأسست مع أيامها الأولى جناحها المقاتل القوات المسلحة الثورية، حيث أشركت عناصر «المليشيا الشعبية» إلى جانب مقاتليها في العمليات ضد دوريات العدو ومواقعه ومستوطناته على حدود الضفة الفلسطينية المحتلة في منطقة غور الأردن وانطلاقاً منها، نفذت سلسلة من العمليات أبرزها، «الخط الأحمر، صمود غزة، مناجل الشمال، هوشي منه، تشي غيفارا، الشيخ عز الدين القسام وغيرها»، وأعطت للعمل العسكري بعده السياسي.
لم تكل الجبهة الديمقراطية أو تتعب على امتداد أكثر من خمسة عقود صانت فيها بندقية المقاومة وتسلحت بالنضال الوطني إلى جانب البرنامج السياسي، كان شعارها على الدوام «البندقية بيد.. والبرنامج السياسي باليد الأخرى» أمام كافة الاستحقاقات الفلسطينية، فهي التي طرحت البرنامج المرحلي بنقاطه العشر ودافعت عن شعبنا وحقوقه الوطنية في خوض عديد العمليات النوعية والبطولية أبرزها «معالوت، وصقور الدولة الفلسطينية المستقلة، عين زيف، شيرشوف، الناصرة، لينا النابلسي وغيرها»، لتوجه رسالة مفادها أن البرنامج المرحلي هو برنامج الكفاح وليس الاستسلام، فالعدو لا يفهم إلا لغة القوة.
ولعبت الجبهة الديمقراطية منذ انطلاقتها وحتى اليوم دوراً مُجلاً في الكفاح المسلح بمختلف تشكيلاتها العسكرية، بدءاً من القوات المسلحة الثورية، وقوات إسناد الداخل، ولجان الدفاع الوطني، وصولاً لمجموعات النجم الأحمر وكتائب المقاومة الوطنية، في كافة ساحة المواجهة على أرض فلسطين، وعلى خطوط التماس مع العدو الإسرائيلي في الأردن، والجولان وجنوب لبنان. حيث كان للكفاح استراتيجيته وتكتيكه التي امتلكت قوات الجبهة الديمقراطية ناصيتها، في عمليات في العمق بمعارك الدفاع عن الثورة والشعب ومقاومة الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة.
وكرست القوات المسلحة الثورية الذراع العسكرية للجبهة الديمقراطية دعمها للانتفاضة الأولى عام 1987 عبر عملياتها البطولية أبرزها «عملية الشهيد عمر القاسم وأبو عدنان، وشهداء جباليا، وجنين»، والتحمت مع عمليات النجم الأحمر داخل الأراضي المحتلة، فيما توحدت مع كتائب المقاومة الوطنية في ضرب أهداف الاحتلال داخل الأراضي المحتلة عام 1967 وأبرزها «عملية حصن مرغنيت، ومستوطنة يتسهار، وايتامار، وحاجزي الحمرا وأبو هولي، ونتيف هعتسرا ، وصوفا، والطريق إلى فلسطين»، إلى جانب استهداف ودك المواقع العسكرية والمستوطنات والبلدات الإسرائيلية بشتى أنواع الصواريخ والقذائف، والدفاع عن أبناء شعبنا الفلسطيني في مواجهة العدوان الإسرائيلي المتكرر.
وعلى هذا الطريق تواصل الجبهة الديمقراطية مسيرتها النضالية على امتداد أكثر من خمسين عاماً قدمت آلاف الشهداء من قادتها وكوادرها وعموم مناضلاتها ومناضليها، بينهم أعضاء في مكتبها السياسي ولجنتها المركزية، دفاعاً عن الثورة والشعب والوطن في مجابهة المشاريع البديلة واتفاق أوسلو و«رؤية ترامب»،أسست خلالها إقامة الصرح الوطني الكفاحي العظيم لشعب فلسطين على ثلاثة أعمدة، وهي أولوية الوحدة الوطنية ووعائها منظمة التحرير الفلسطينية كشرط أساس ولا غنى عنه لإنجاز الحقوق الوطنية، إلى جانب موقعية البرنامج المرحلي ومرجعيته في أي عملية سياسية، ومحورية البرنامج التنظيمي المنهجي تحضيراً للانتفاضة الشعبية الشاملة في مواجهة الاحتلال والاستيطان.
المجد كل المجد للشهداء، وللأسرى البواسل. الحرية كل الحرية من سجون الاحتلال، والشفاء العاجل للجرحى الأبطال، والتحية لكافة مناضلات ومناضلي شعبنا في الوطن وأقطار اللجوء وبلدان المهجر. عاش العيد الحادي والخمسين لانطلاقة الجبهة الديمقراطية
وسام زغبرـ غزة
عضو اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت