على الفلسطينيين اتباع استراتيجية تمكنهم من ترجمة رفض المجتمع الدولي لرؤية ترامب إلى خطوات أكثر عملية
■ توحد الفلسطينيون تحت وطأة «رؤية ترامب» (خطة ترامب – نتنياهو) لتصفية القضية الفلسطينية. حتى الذين راهنوا لأكثر من عقدين على دور الولايات المتحدة في الوصول مع الجانب الإسرائيلي (الشريك في المفاوضات وفي السلام!) إلى تسوية، وجدوا أنفسهم مضطرين للاعتراف، أخيراً، أن الولايات المتحدة لم تكن يوماً ما، راعياً للمفاوضات، ولا نزيهاً، ولا محايداً، بل كانت طرفاً ثالثاً، يجير أوراقه بشكل دائم لصالح الجانب الإسرائيلي، ويمارس ضغوطه، بشكل دائم أيضاً، على الجانب الفلسطيني وحده.
«رؤية ترامب» دفعت بالفلسطينيين كلهم، إلى الجدار ولم يعد أمام أي طرف منهم أن يقدم على أية خطوة تراجعية. فالذي تقدم إليهم، باعتباره حلاً للمسألة الفلسطينية، لا يجرؤ فلسطيني واحداً أن يقبل به. وقد أوضح الرئيس عباس أن من سيعترف بهذا الحل، ويقبل به، سيكون خائناً، لذلك، كان في معرض تأكيد رفضه لخطة ترامب – نتنياهو يؤكد أنه لا يريد أن يموت خائناً.
«رؤية ترامب» أزاحت الستائر كله عن مشهد ليس فيه إلا الخراب. لا قدس. لا دولة. لا عودة. لا سيادة. لا كرامة وطنية. ولا مستقبل للأجيال القادمة، بالمقابل كل شيء لإسرائيل. كل ما حصلت عليه إسرائيل بالقوة، بقوة السلاح وقوة المصادرة وقوة القتل، بات حقاً لها. وما تبقى للفلسطينيين، لن يكون لهم وحدهم. بل عليهم أن يتنازلوا عن القسم الأهم فيه للإسرائيليين (الغور وشمال البحر الميت) أما ما سوف «يستحقونه» من «حقوق» فمشروط بالذهاب إلى مفاوضات إذعان جديدة، مدتها أربع سنوات، بدأت فوراً، في خطوة استباقية، لجنة إسرائيلية، أميركية ترسم نتائجها الميدانية على الأرض وما المفاوضات سوى ليرضخ الفلسطينيون، ويقبلوا صاغرين طائعين، مسالمين، بما رسمته هذه اللجنة، من فتات الأرض، دون حرية، ودون سيادة، ودوماً، وأبداً، تحت الهيمنة، والعنجهية الإسرائيلية. وإذا كانت العنجهية الإسرائيلية قد وصلت في ظل الاحتلال إلى مستوى وحشي استفز المجتمع الدولي، فمن الطبيعي أن تتضاعف هذه العنجهية، حين يتحول الاحتلال الإسرائيلي إلى وجود «شرعي» بموافقة المفاوض الفلسطيني الذي تحلم «رؤية ترامب» أن يلبي دعوتها.
* * *
«الشرعية الدولية» شكلت، في مواجهة الفلسطينيين لرؤية ترامب سلاحاً مهماً ومهماً جداً.
فاستناداً للشرعية الدولية، وقف العالم كله، (تقريباً كله بدون مبالغة) إلى جانب الفلسطينيين، لأن المشروع الأميركي خالف المعايير والقوانين والقرارات الدولية. هذا، على سبيل المثال ما قالته 14 دولة في جلسة مجلس الأمن (11/2/2020) فبدا المندوب الأميركي معزولاً في أعلى منبر دولي.
وهذا ما استندت إليه دول الاتحاد الأوروبي. حتى أن بعض أطراف «الاتحاد» التي مازالت تعطل المشروع الأوروبي للاعتراف بالدولة الفلسطينية (تشيكيا وهنغاريا) تعترف هي الأخرى أن المشروع الأميركي مخالف للشرعية الدولية. وإذا كان المجتمع الدولي، يدافع عن الحقوق الفلسطينية من بوابة الشرعية الدولية، فهو (أي المجتمع الدولي) يدافع في الوقت نفسه عن نفسه ضد سياسات ترامب التي تحاول أن تنسف المعايير الدولية في حل القضايا الكبرى، لتفرض معايير الولايات المتحدة.
وإذا نجح ترامب في فرض حلوله على الفلسطينيين متجاوزاً المعايير الدولية، فتلك ستكون سابقة خطيرة ستهدد العلاقات الدولية، إلى جانب ما سوف تلحقه بالفلسطينيين من نكبات.
إذن، يمكن القول إن العالم يجد مصلحته في إحباط خطة ترامب وإفشالها، لأنه يجد مصلحته في تطويق القرش الأميركي الهائج الذي يطمح بالاستيلاء على كل المفاتيح بالقوة، في معارك وحروب، يرغب بأن تكون فيها كل الأسلحة مباحة؛ بما في ذلك سلاح نسف المعايير الدولية.
ومن الخلاصات المهمة التي يفترض بالفلسطينيين أن يقرأها جيداً، هي عدم الاستهتار، منذ الآن فصاعداً، بالشرعية الدولية.
أثبتت تجربة معركة التصدي لرؤية ترامب، على الصعيد الدولي، أن الشرعية الدولية شكلت متراساً قوياً دافع عن القضية والحقوق الفلسطينية. لذلك من الخطأ (وهذا ما كنا نؤكده سابقاً وقبل هذه التجربة) القول «ما لنا، والشرعية الدولية». لا يكفي القول أن حقوقنا ثابتة ولا تحتاج لتأكيد، وبالتالي لسنا بحاجة لقرارات الشرعية الدولية، لا القرار 242 الذي قضى بانسحاب إسرائيل من كل الأراضي العربية المحتلة في الخامس من حزيران 67، ولا القرار 194 الذي يكفل لنا حق العودة ( المفارقة أن من يحاول أن يقفز عن القرار 194 تراه في الوقت نفسه يتمسك بالقرار 302، مع أنه واحد من تفرعات 194، وبني عليه، ومن ينسف 194 ولا يعترف به، ينسف 302، أي وكالة الغوث، ويجد نفسه (للأسف الشديد) في تقاطع مخيف مع «رؤية ترامب»).
لذلك نعتقد أنه بات مطلوباً من الفلسطينيين أن يعتمدوا خطاباً سياسياً واقعياً وثورياً في آن. واقعياً بالتمسك بسلاح الشرعية الدولية، باعتباره واحداً من الأسلحة، وليس السلاح الوحيد (هناك العديد من الأسلحة الفاعلة المرتبطة بالإرادة الفلسطينية باعتبارها العنصر الفاعل الأكثر تأثيراً). وثورياً، دون التراجع عن أي من الحقوق الوطنية المشروعة، وإن كانت هذه القرارات – برأي البعض لا تلبي هذه الحقوق بشكل كامل. ولعل تجربتنا مع الحركة الصهيونية في تعاملها مع القرار 181، ومع القرار 194، يجب أن تبقى ماثلة أمامنا. الحركة الصهيونية وافقت على القرار 181، وأخذت منه ما تريد، ورفضت ما لا تريد؛ بحيث وسعت وجودها كما هو معروف. وأخذت من الموافقة على القرار 194 ما تريد (أي دخولها الأمم المتحدة) ورفضت ما لا تريد، أي عطلت عودة اللاجئين.
وآن الأوان أن نصوب سهامنا ضد الاحتلال، وأن نعفي الشرعية الدولية من بعض أشكال العبث السياسي الذي يشوه ملامح السياسة الفلسطينية.
* * *
كي يخوض الفلسطينيون معركة الشرعية الدولية، عليهم أن يهيؤوا لها كل عناصر الفوز والنجاح.
وهذا يفترض منهم أن يقدموا للمجتمع الدولي رؤية سياسية بديلة تحوز على الإجماع الوطني الفلسطيني، بدلاً من الرؤية القلقة الرجراجة، التي تفشل في إقناع الشارع الفلسطيني نفسه. ونعتقد أنه عندما تطل الدوائر الدولية على استطلاعات الرأي، في المجتمع الفلسطيني، وتكتشف المسافة الكبرى، بين سياسات القيادة الفلسطينية وبين تطلعات الشارع الفلسطيني، سندرك، دون أدنى شك، أن الجبهة الداخلية الفلسطينية ليست متماسكة بالقدر الذي يمكن الرهان فيه على خوض المعركة ضد السياسة الأميركي، إلى جانب الفلسطينيين.
القضية في جوهرها، كيف للفلسطينيين أن يدفعوا بالموقف الدولي خطوات إلى الأمام، تنقله من مربع رفض «رؤية ترامب» إلى مربع الانحياز أكثر فأكثر نحو الحقوق الفلسطينية، كالاعتراف، على سبيل المثال، بالدولة الفلسطينية، وعاصمتها القدس، على حدود 4 حزيران 67، وكإزالة العوائق أمام محكمة الجنايات الدولية لمساءلة مجرمي الحرب الإسرائيليين عن جرائمهم بحق الشعب الفلسطيني، أو الضغط العملي والفعلي على إسرائيل لوقف الاستيطان أو معاقبتها بإجراءات عملية على خطوات الضم، أو الضغط العملي عليها، لفك الحصار عن قطاع غزة.
رفض المجتمع الدولي «لرؤية ترامب» خطوة مهمة. الأهم أن ندفع بها لتترجم في تطبيقات قرارات الشرعية الدولية ومعاييرها.
وإذا لم يشمر الفلسطينيون عن أيديهم، لينتزعوا حقوقهم من بين أنياب القرش الأميركي، فإن المجتمع الدولي لن يغامر ليكون بديلاً عنهم.■
معتصم حمادة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت