إصلاح المنظمة من أهم متطلبات المواجهة (2/2)

بقلم: معتصم حمادة

معتصم حمادة

في الحلقة السابقة تناولنا المسار الذي قطعته منظمة التحرير الفلسطينية، لتحتل موقعها ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، بعدما تسلحت بالبرنامج الكفاحي (البرنامج المرحلي) والذي شكل أساساً للائتلاف الوطني الشامل، بنظرته الثاقبة في توحيد الشعب الفلسطيني في مناطق تواجده كافة، من خلال وحدة حقوقه الوطنية المشروعة رغم تباين الظروف السياسية والقانونية والمجتمعية لمناطق انتشاره.

كما تناولنا بالتجربة، أن صون الموقع التمثيلي للمنظمة وصون وحدة الحقوق الوطنية يبقى، في كل المحطات، رهناً بالالتزام بالبرنامج الوطني (البرنامج المرحلي)، وأنه كلما تعرض هذا البرنامج للمس، من خلال سياسات غير ائتلافية، كلما تعرض الموقع التمثيلي لمنظمة التحرير، كإطار ائتلافي لعموم الشعب وقواه وتياراته وفئاته، إلى الاهتزاز، بل حتى إلى التشكيك من قبل أوساط نافذة في الحالة الفلسطينية.

ومع أوسلو، الذي شكل انقلاباً على البرنامج الوطني، دخلت م.ت.ف، مرحلة جديدة، وصلت فيها رحلة «الشرعية الثورية» إلى محطتها الأخيرة، خاصة مع قيام السلطة الفلسطينية التي انعكست آليات جديدة، في العلاقة بين المؤسسة والمجتمع، وبين فصائل العمل الوطني نفسها، كما انعكست بنتائجها المتداعية على أوضاع م.ت.ف، ومتانة موقعها التمثيلي.

فما يلي بقية الحكاية، حول ضرورة الإصلاح المؤسساتي في م.ت.ف، بعد أن أكدنا وجهة نظرنا بضرورة الإصلاح السياسي أولاً، باعتباره ضرورة ملزمة للإصلاح المؤسساتي، فالبرنامج هو أساس الائتلاف الوطني، وهو الأساس السياسي للموقع التمثيلي لمنظمة التحرير الفلسطينية.

 

(1)

مع قيام سلطة الحكم الإداري الذاتي (السلطة الفلسطينية) في المناطق المحتلة، حصلت النقلة التاريخية في آليات العلاقات الوطنية، وفي موازين القوى، وفي العلاقة بين المؤسسة الفلسطينية والمجتمع الفلسطيني. فقد شكلت السلطة الفلسطينية أول نموذج سياسي فلسطيني معاصر، تقوم مؤسساته على شرعة صندوق الاقتراع. إذ تشكل للسلطة مجلس تشريعي منتخب، كما انتخب المواطنون رئيساً لها. وبدأ الحديث يتناول مدى الالتقاء، وفي الوقت نفسه مدى التعارض، بين «الشرعية الثورية» للمؤسسة الوطنية الفلسطينية، وبين شرعية صندوق الاقتراع.

انتخاب رئيس ومجلس تشريعي للسلطة، شكل حدثاُ مقعداً ومركباً في آن، لا بد من النظر إليه من زواياه المختلفة.

• أتاح للمواطن الفلسطيني في مناطق السلطة الفلسطينية، أن يختار، هذه للتنافس الديمقراطي على المنصب الرسمي، إذ ترشح للرئاسة أكثر من مرشح، وكذلك الأمر بالنسبة للمجلس التشريعي. وبالتالي خطا الفلسطينيون نحو اعتماد أحد أشكال الديمقراطية في اختيار ممثليهم.

• بالمقابل، جرت الانتخابات في القدس بطريقة تؤكد أن السلطة لا تملك زمام القرار في المدينة المعلنة عاصمة لدولة فلسطين، مما شكل ثغرة كبرى، طعنت في مصداقية اتفاق أوسلو، ومصداقية من وقعوا عليه.

• كذلك، من سلبيات الأمر أن الانتخابات اقتصرت على المقيمين في مناطق السلطة، أي في قطاع غزة ومناطق في الضفة الفلسطينية، وحرم منها فلسطينيو الشتات، وفلسطينيو 48، ما أحدث انشقاقا في الصف الوطني، دفع الكثيرين من أبناء الـ48 للحديث عن ضرورة البحث عن مستقبل خاص بهم، في ظل دولة إسرائيل وقوانينها العنصرية، بعدما شعروا أن الخارج «قد تخلى عنهم». كما اجتاح «من هم في الخارج» إحساس بالتهميش، والإهمال، وبأنهم أصبحوا خارج المعادلة السياسية، خاصة وأن اتفاق أوسلو تجاهلهم، وأن العديد من التصريحات الرسمية لأطراف في السلطة، لوحت بإمكانية حل دائم، مع الاحتلال الإسرائيلي، يتجاوز حق العودة ويكون على حساب الحقوق الوطنية المشروعة للاجئين في الأردن، ولبنان، وسوريا، وباقي مناطق اللجوء والشتات.

• وأخيراً، وليس آخراً، كان لمقاطعة الصف العريض من القوى الفاعلة في مناطق السلطة، للانتخابات، بشقيها التشريعي والرئاسي، أثره الواسع في التشكيك بمضمون العملية، أو بكونها تسير في الاتجاه الصحيح، خاصة بعد أن ساهمت في تعزيز الشرخ الذي أحدثه اتفاق أوسلو، داخل م.ت.ف، وبين فصائلها الرئيسية (بشكل خاص بين فتح من جهة، والجبهتين الديمقراطية والشعبية وكذلك القيادة العامة، والصاعقة، من جهة أخرى)

 

(2)

مع أن وثائق قيام السلطة نصت بشكل واضح على أن م.ت.ف، ممثلة باللجنة التنفيذية، هي مرجعيتها السياسية العليا [وهو ما ينسجم مع توقيع قيادة المنظمة على وثائق أوسلو بما في ذلك الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود] إلا أن الوقائع العملية أخلت بهذا النص، وانتقل مركز الثقل السياسي، من اللجنة التنفيذية إلى السلطة الفلسطينية. أسهم في هذا التحول عدد من العوامل التي شكلت واقعاً إلزامياً، منها، أن رئيس السلطة، هو نفسه رئيس حكومة السلطة، وهو نفسه رئيس اللجنة التنفيذية، فضلاَ عن كونه رئيس حركة فتح، كبرى الفصائل الفلسطينية.

وبالتالي هذا العدد الواسع من المناصب والمسؤولية، منحه أكثر من هامش، بل مساحات واسعة للتفرد بالقرار، خاصة في ظل سلطة مطواعة بين يديه، وفي ظل لجنة تنفيذية منقسمة على نفسها سياسياً، على خلفية الموقف من أوسلو، والتزاماته، ومن مجرى العملية السياسية المستمرة في إطار تطبيقات أوسلو.

ومما زاد في تهميش المنظمة، عبر تهميش لجنتها التنفيذية، أن العملية التفاوضية كانت تدار مع الجانب  الإسرائيلي بسرية تامة، حتى أن الصحافة الإسرائيلية شكلت المصدر الرئيس للجنة التنفيذية، والرأي العام الفلسطيني، لمتابعة العملية التفاوضية. ففي الوقت الذي كان فيه المفاوض الفلسطيني يتكتم أمام المؤسسة والرأي العام عن حجم تنازلاته، في مفاوضاته السرية، كانت حكومة إسرائيل ملزمة أن تقدم للكنيست ولجانه المختصة تقاريرها الدورية، والتي كان معظمها يتسرب إلى الصحافة العبرية، التي توزع علناً في أسواق مناطق السلطة الفلسطينية. ولاشك في أن هذا الأسلوب بإدارة المفاوضات شكل ثغرة كبرى في مسار العملية الديمقراطية التي انطلقت مع انتخابات السلطة الفلسطينية.

كما من العوامل التي همشت اللجنة التنفيذية، إلى جانب سياسة التفرد بالقرار، هو تضخم الكتلة البيروقراطية في مؤسسات السلطة، وتضخم موازناتها، على حساب الكتلة البيروقراطية للمنظمة، وعلى حساب إمكانياتها وطاقاتها المالية، وباتت السلطة هي محور الحياة السياسية على الصعيد الإقليمي، وفي العلاقات الدولية، في ظل عنوان، يكاد أن يصبح أجوفاً في مضمونه الحقيقي والفعلي، وهو م.ت.ف.

 

(3)

كاد قيام السلطة الفلسطينية بواسطة، صندوق الإقتراع أن يقود إلى تهميش المنظمة حتى على الصعيد الدولي، وثمة أمثلة كثيرة يمكن إيرادها في هذا السياق، منها مثلاً التمثيل الفلسطيني في المؤسسات الدولية والقارية.

في الأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، والمؤتمرات الإقليمية [التعاون الإسلامي، المؤتمر الإفريقي] يقي التمثيل لمنظمة التحرير الفلسطينية. لكن في الواقع العملي، وبعد أن ألغيت الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي كانت بمثابة وزارة الخارجية لعموم الفلسطينيين (ترأسها لفترة طويلة فاروق القدومي، الذي سمي لاحقاً إلى جانب كونه رئيساً للدائرة، وزيراً لخارجية دولة فلسطين) أخذ وزير الخارجية في السلطة الفلسطينية يتولى تمثيل الفلسطينيين في المؤسسات الدولية والقارية، علماً أن حدود صلاحياته لا تتجاوز حدود السلطة الفلسطينية، ولا تفيض على الوضع الوطني الفلسطيني برمته. وهذا شكل من أشكال البناء الملتوي، والخلل في العلاقات الوطنية، الذي يفترض معالجته.

في السياق نفسه، اشترطت المؤسسات البرلمانية الدولية (كالاتحاد الأوروبي مثلاً) أن تمثل «فلسطين» بنواب منتخبين ديمقراطياً عبر صندوق الاقتراع.

أي ما معناه أن تمثيل فلسطين، وفقاً لهذه القاعدة، هو المجلس التشريعي [الذي يقتصر تمثيله على السلطة وعلى مناطقها] وليس المجلس الوطني، البرلمان الفلسطيني، بطابعه التمثيلي الشامل، فالتشريعي منتخب، أي أما «الوطني» فيتشكل بالتعيين وفقاً لنظام الكوتا.

وكاد الأمر أن يلحق بالقضية الوطنية، وبالموقع التمثيلي لمنظمة التحرير الفلسطينية، ضرراً كبيراً، بحيث يكرس التمثيل المطلوب، وفقاً للمقاييس والشروط الموضوعة، شطب «الخارج» من أي تمثيل، إلى أن وجد المشرع الفلسطيني، والعقل السياسي الفلسطيني، «حلاً» لهذه القضية، اعتبر، بقرار من المجلس التشريعي مصادق عليه من قبل م. ت. ف. أن أعضاء التشريعي هم في الوقت نفسه، أعضاء في المجلس الوطني. وبالتالي، صار يمثل فلسطين في المحافل البرلمانية أعضاء في المجلس الوطني (أساساً) جرى انتخابهم في الدورة الثانية للمجلس التشريعي، لذلك يقتصر التمثيل هنا، على أعضاء في «التشريعي»، يمثلون فصائل المنظمة، ولا يمثلون، على سبيل المثال الأعضاء في حماس، لأن حماس لم تدخل رسمياً، حتى الآن، م. ت. ف، وإن كان ممثلوها في «التشريعي» قد أصبحوا حكماً أعضاء في المجلس الوطني

 

 

(4)

  ■ بعد رحيل الرئيس ياسر عرفات، في ظروف ملتبسة مازالت تداعياتها قائمة حتى الساعة، وتولي محمود عباس مهام القيادة في م.ت.ف، وجدت الحالة الفلسطينية نفسها منهمكة في إعادة بناء المؤسسات الوطنية، بدءاً من انتخاب رئيس جديد للسلطة وصولاً إلى انتخاب مجلس تشريعي جديد، بعدما تجاوز حدود ولايته القانونية (أربع سنوات)، مروراً بمجالس البلديات في الضفة والقطاع بما يخدم تماسك المجتمع الفلسطيني وثباته وصموده.

وكان من الطبيعي إن تتفاوت وجهات النظر في كيفية تنظيم الانتخابات.

• بين من يرغب في أن تكون محطة للمغالبة السياسية تقوم على مبدأ الاستفراد والتفرد، وتهميش الآخرين، فدعا إلى قانون انتخاب يقوم على نظام الدائرة الفردية، مبدأ الصوت الواحد للفرد الواحد، التي تعطي الأغلبية كل شيء، وتحرم الأقلية من حقها في التمثيل، حتى ولو كان الفارق بين الطرفين لا يتجاوز في تعداده أصابع اليد الواحدة. وهي استعادة  لقوانين انتخابية متخلفة غادرها أصحابها نحو قوانين أكثر ديمقراطية.

وبين من يرغب في أن تكون محطة لتكريس الشراكة الوطنية عبر صندوق الاقتراع، بديلاً للشراكة المشوهة القائمة على نظام الكوتا، فدعا إلى قانون للانتخابات وفق نظام التمثيل النسبي، دون عتبة حسم، بما يتيح لكافة شرائح المجتمع الفلسطيني وتياراته وقواه، الانخراط في العملية السياسية على أسس ديمقراطية، تعطي لكل طرف وزنه الجماهيري كما يستحقه، وتؤسس لإعادة بناء الجبهة الوطنية المتحدة، على أسس ائتلافية ديمقراطية، تعتبر النموذج الأمثل لشعب تحت الاحتلال، يحتاج إلى مؤسسات وطنية تعمل على توحيد قواه، لا على تفسيخها وتكريس نظام التفرد والاستفراد، وتهميش القسم الأكبر من المجتمع. إذ أثبتت التجارب الانتخابية أن نظام الدائرة الفردية، والصوت الواحد للفرد الواحد، من شأنه أن يشطب الأكثرية وأن يأتي، عملياً، إلى المؤسسة بممثلي الأقلية، فكل الحسابات تؤكد أن حجم الذين يصوتون لـ «المعارضة»، على سبيل المثال، بتياراتها وقواها غير الموحدة في لائحة واحدة، هم الأغلبية، وأن من يصوتون للموالاة، هم الأقلية. هذا ما أثبتته تجارب مثل الأردن ولبنان ومصر وغيرها.

ولعل تجربة انتخاب المجلس التشريعي الثاني، شكلتا تأكيداً صارخاً لصحة ما أوردناه، بحيث أخل نظام الدائرة الفردية غير أن التمثيل، الذي عبر عنه نظام التمثيل النسبي. حيث أن الانتخابات جرت وفق نظام مختلط 50% منه دائرة فردية اكتسحتها حماس، و50% تمثيل نسبي، هي التي عبرت عن التوازن الحقيقي، إذ شكلت فصائل م.ت.ف، مجتمعية الأغلبية بينما لم تفز حماس سوى بـ 29 مقعداً من أصل 66 مقعداً.

كما شكلت انتخابات المجالس المحلية والبلديات تجربة مماثلة الأمر الذي «أقنع» فتح بشكل خاص، أن نظام التمثيل النسبي هو الخيار السليم الذي بإمكانه أن يصون الموقع التمثيلي لمنظمة التحرير الفلسطينية ببرنامجها الوطني (المرحلي) في مواجهة التيار الديني في الحالة الفلسطينية. وكان واضحاً أن فتح لم «تقتنع» بصحة نظام التمثيل النسبي، الذي طالبت به الجبهة الديمقراطية كأساس للائتلاف الوطني، منذ العام 1972، إلا بعد أن تكبدت الحالة الفلسطينية خسائر فادحة، منها أن المجلس التشريعي تحول إلى بؤرة تجاذب ثنائي بين فتح وحماس، انتهى إلى الانقلاب الدموي في 14/6/2007، ومازالت الحالة الوطنية تعاني تداعياته حتى اللحظة

 

(5)

بعد الفوز في معركة قانون الانتخابات، والتوافق على نظام التمثيل النسبي، باتت معركة إصلاح أوضاع م.ت.ف، مفتوحة على مصراعيها، عبر الذهاب إلى صندوق الاقتراع.

التوافق الأخير، على تنظيم الانتخابات الرئاسية، والتشريعية للسلطة هو أيضاً خطوة إلى الإمام، خاصة أن نظام التمثيل النسبي بات خياراً وطنياً متوافقاً عليه بين الجميع، غير أن العقدة التي ما زالت ماثلة هي عقدة القدس وكيفية حلها، في ظل موقفين. الأول، يعتمد السياسة الانتظارية إلى أن يقدم الاحتلال رأيه (المعروف سلفاً)، والثاني يعتمد سياسة فتح معركة القدس من خلال بوابة الانتخابات، الأمر الذي يوجب إصدار المرسوم الرئاسي بالدعوة إلى الانتخابات في موعد محدد.

الشق الثاني من الموضوع، هو إعادة انتخاب مجلس وطني جديد، بنظام التمثيل النسبي الكامل، في الداخل والخارج (حيث أمكن)، بحيث يتمثل في المجلس عموم تيارات وقوى الشعب الفلسطيني وفئاته، ما يعزز الموقع التمثيلي لمنظمة التحرير الفلسطينية، ويعيد انتخاب لجنة تنفيذية جديدة، تنتظم اجتماعاتها الدورية بصلاحياتها المقررة، ويعاد تسليحها بدوائرها المختصة، بما في ذلك الدائرة السياسية، ودائرة شؤون اللاجئين، وباقي الدوائر التي تعزز علاقة اللجنة التنفيذية بقطاعات الشعب الفلسطيني ومؤسساته المجتمعية.

وكذلك تشكيل مجلس إدارة مستقل للصندوق القومي، محررة من العنجهية السياسية، ويوفر له استقلاليته بحيث يكون المجلس الوطني، وقراراته، هو المرجعية، ما يضع حدأً لسياسة تجنيد أموال الصندوق القومي في تصفية الحسابات مع الهيئات والأفراد والفصائل الفلسطينية.

 

معتصم حمادة

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت