لست من المدينة تماما؛ أسكن في حيٍّ كان لفترة قريبة من الكرومات، تلك الأراضي التي كان يخرج أبناء المدينة لزراعتها في الموسم لتلبية احتياجاتهم والترفيه عن أنفسهم، وقد كانت أجمل أيامنا في الحقول وتحت معرشات العنب، نملأ يومنا بأصوات الحصادين يشدون وهم يجمعون القمح ويدرسونه لاستخراج الحبوب وتخييش التبن، ثم قطف الكروم وتجفيف الزبيب والقطين، وعصر العنب لإنتاج الدبس والملبن والعنبية، أما الليالي المقمرة والسهرات الجميلة حين كان يملأها جدي رحمه الله بالحكايات اللطيفة وأحاديث المرح والحكمة والحب فداخل السيرة بطرف السلاسل الحجرية.
استخدم الفلسطيني السلاسل الحجرية ليضع الحدود لأرضه، أو لينشئ الحبايل وهي تلك المدرجات التي أبدعها ليحافظ على تربة الجبال من الانجراف نحو السهول وتمهيدها للزراعة، واعترف اليونسكو بها كإرث حضاري معماري فلسطيني في قرية بتير قضاء بيت لحم على أطراف القدس، واستخدمها لبناء بيوت ريفية صغيرة سماها “السيرة” ربما لأنها جمعت تحت أحجارها حكاياته وحكايات أجداده وحكمتهم في سهرات الصيف ولقاءات الخريف، واستخدمها في مواسم القطاف لتخزين الغلال وحفظ الحيوانات، ولقد ساهم في إنشائها طبيعة فلسطين الجبلية المليئة بالصخور، وقدرة الإنسان الفلسطيني على الاندماج بالطبيعة واستغلالها والتغلغل فيها إلى أبعد الحدود.
ومن المتعارف عليه في معظم قرى فلسطين أن يبني صاحب الأرض الأعلى مستوى السلسلة الحجرية ويمتلكها لأنه يكسب منها قطعة أرض صالحة للزراعة، أو تُستخدم لتقطيع الأرض أي وضع حد فاصل بين قطعتين، وقد يتفادى الحد شجرة أو صخرة أو قبر أو شيء آخر لتتلوى كأفعى تعبر الوادي، ورغم ذلك تبنى ببراعة وقوة ثم أصبح من المهم أن تكون السلاسل مستقيمة ومنتظمة؛ يشارك أفراد العائلة جميعا في إنشاء السلاسل فيجمعون الحجارة من الأراضي المحيطة والجبال ويجمعون الصرار من داخل الأرض بالمقاطف، ثم يبدؤون بإزاحة التراب ليصلوا إلى الصخر(القف)، ثم يغرسون وتدين على طرفي الأرض وينصبون الخيط ليتم صف الحجارة بناء عليه، ويبدؤون بوضع حجارة الأساس الكبيرة التي يتعين عليها حمل الصخور فوقها وتحمّل ضغط التراب الذي ستمنع انجرافه، ويضعوا خلف الحجارة الكبيرة الحجارة الصغيرة(الصرار) لتساعد على رصها وتثبيتها وإغلاق الفجوات فيما بينها، ويستمر البنّاء إلى أن يصل إلى وجه الأرض ليبدأ بوضع الإنف وهي الحجارة التي تكون على وجه التراب، ثم يوضع فوقها الركبة وهي الحجارة التي تعلو التراب وتوضع عادة على جدارين منفصلين (بتتين) بينهما الصرار، ويسمى الحجر الذي يوضع بين حجارة الأساس ويظهر على مستوى التراب بالوتد أيضا.
يختار البنّاء الجيد وجه الحجر بدقة فيحرص أن يكون منتظما ومستوياً قدر الإمكان ويستعمل للتخلص من النتوءات بوجهه الشاقوف أو الأزميل(الشوكة) والشاكوش، كما أنه يستخدم النُّخُل والبنسه لتحريك القلاع الضخمة ورصها ببعضها البعض، والمهدّة لتهذيب الحجارة الكبيرة وتقسيمها إلى حجارة أصغر، ولا يتم سد الفراغات في السلاسل الحجرية تراب أو أشياء أخرى، وذلك لأن هذه الفتحات تسمح بمرور الماء دون التراب وتخفف بذلك الضغط عليها في مواسم المطر، ولذلك تعيش هذه السلاسل طويلا وتقف شامخة أمام عثرات الزمن.
تعيش هذه السلاسل لقرون بشهادة المعهد الجيولوجي الإسرائيلي الذي أشار وسط دهشة العالم إلى أن السلاسل المقدسية إسلامية يعود معظمها إلى زمن العثمانيين، ومنها إلى زمن المماليك والعصور الإسلامية المتقدمة والقليل القليل منها إلى زمن الرومان، ولا شيء يعود أبدا إلى العهود التوراتية!!! واستخدم لإثبات ذلك تقنية علمية حديثة تحدد زمن تغطية الغبار أسفل أساسات السلاسل، وبالطبع لسنا بحاجة للاعتماد على هذا البحث الإسرائيلي لإثبات ذلك، فالسلاسل هي بطاقة هوية لهذه الأرض وجزء لا يتجزأ من فصول حضارتها، وهي ترسم حكايات الريف الفلسطيني بشموخه وعظمته ونبوغه في استصلاح الأرض ومقاومة الانجراف والتصحر وتضحيته بالغالي والرخيص في سبيل أرضه، وبالنهاية اعتماده على هذه السلاسل وثقته بها حتى في حفظ الكنوز الثمينة.
لا تَعجب إن علمت أن هذه السلاسل التي أصبحت تحت تهديد الجدران الإسمنتية الصماء التي لا تملك جمالا أو روحا يدا بيد مع الاحتلال فالناس يستبدلونها وينسون أهميتها كجزء أصيل من التراث الوطني الفلسطيني ومكون مهم من ثقافتنا العربية الكنعانية والإسلامية، فكم حكاية رُويت قربها، وكم رواية شاركت في صياغة أحداثها ، كم خبأت أبطال وكم صمدت قرى فلسطينية ضد عصابات الغزو الصهيوني بسببها، وكم توارى في فيئها الصبايا في طريقهن لملء جرار الماء أو جمع الحطب؛ وكم مر بقربها الرعاة الحيوانات بجانبها والرجال بعيدا عنها فقد قيل من المعيب على الرجال أن يمروا بعروق السناسل ربما لأنها وطن لكائنات خطيرة كالأفاعي والعقارب.
أعلنت إسرائيل منطقة وادي قانا كمحمية طبيعية ومنعت أصحاب الأرض من دير استيا استصلاحها وبناء السلاسل الحجرية فيها بحجة تغيير واقع المحمية، فيما تعمل الآليات لبناء حاويات مستوطنين خرسانية مقابلها في كرني شمرون، ولم يمنع اعتراف اليونسكو بمدرجات بتير على قائمة التراث العالمي من هجوم الجرافات الإسرائيلية، وزحف الغول الإستيطاني عليها، ولم تسلم منه نابلس وترقوميا والولجة وغيرها وكأنه يستهدفها كما يستهدف الحنون والزعتر وأشجار الزيتون.
السلاسل الحجرية فلسطين جزء أصيل من تراثنا الفلسطيني الذي نفتخر به، والحفاظ عليها واجب وطني وشعبي، يجب على الحكومة تشريع قانون يُلزم البلديات بالحفاظ عليها ومنع استبدالها بالأسوار الخرسانية الصماء، وتشجيع الشباب على تعلم حرفة بنائها لتكون جزءا من آلية الإصلاح الزراعي وتنظيم الحدائق والمتنزهات، ولا يمكن أن يقتصر اهتمامنا بها بدورة يتيمة هنا أو هناك كدورة عقدتها بلدية بتير ومكتب اليونسكو لعشرين من العمال والمهندسين. وقديما قيل من المعيب على الرجال أن يمروا بعروق السناسل، بقربها، ربما لأنها وطن لكائنات خطيرة كالأفاعي والعقارب، ولكن لأنها أيضا طريق الحيوانات.
أسامة نجاتي محمد سدر
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت