احتدمت المعارك في إدلب، بعد أن تكبّد الجيش التركي خسارة فادحة (27/2)، تمثلت بمقتل أكثر من 35 جنديا تركيا، في حصيلة كانت الأكبر من نوعها منذ تدخله المباشر في النزاع الدائر. هذا التطور النوعي نقل الحرب في سورية إلى مستويات خطيرة غير مسبوقة، تهدّد ليس فقط بتوقف العمل بـ«مسار أستانا» واتفاقات سوتشي بين الدول الثلاث الضامنة (روسيا وتركيا وإيران) فحسب، بل تهدّد مستقبل العلاقات ككل بين روسيا وتركيا، بعد أن وضعت البلدين على حافة مواجهة عسكرية مباشرة، يمكن أن تطيح بكل الانجازات التي شهدتها علاقاتهما خلال السنوات الأخيرة، وتعيد في المقابل، إحياء عهد الحروب الكثيرة التي حدثت في تاريخهما.
ردود الفعل الأولية على ما حدث، تظهر أن الجانبين لا يريدان دفع الأمور نحو مزيد من التصعيد. فأنقرة لم توجه الاتهام مباشرة لموسكو بالمسؤولية عن الحادث، كما أنّ الأخيرة نفت أن تكون شاركت في قصف القوات التركية، قبل أن يوجّه وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف اللوم إلى تركيا فيما حدث، لأنها «لم تُعلم روسيا مسبقاً بأماكن انتشار قواتها في شمال سوريا، وفقا للتفاهم العسكري بين البلدين في 2018». كما أكدت وزارة الدفاع الروسية أنّ القصف السوري في إدلب كان موجها ضد المسلحين الإرهابيين، و«تبين لاحقاً أنّ صفوفهم ضمت عسكريين أتراكاً».
لكن التظاهرات التي نزلت في تركيا ضد روسيا، وبروز الخلاف إلى العلن بين الدولتين في وسائل إعلامهما، فضلاً عن إعلان روسيا عن تعزيز قواتها البحرية قبالة السواحل السورية، كلّ ذلك كشف عن حقيقة وعمق التوتر القائم، وذلك على خلفية التضارب الصارخ لمصالحهما الاستراتيجية في سوريا، والذي لم تُلغِه، كما يبدو، مساعي الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان لتحسين العلاقات بين بلديهما على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، خلال السنوات الثلاثة الماضية.
المراقبون يختصرون الأمر بالقول: هناك تصميم روسي على مساعدة دمشق على استعادة سيطرتها العسكرية والسيادية على كامل الأراضي السورية، يقابله تصميم تركي على التدخل في سوريا، والذي أصبح مباشراً الآن، بعد أن كان يتم على نحو غير مباشر عبر تقديم مختلف أشكال الدعم لمجموعات مسلحة، يصنّف العديد منها على أنها قوى إرهابية، وذلك بذريعة ضمان ما تعتبره أنقرة «أمنها القومي» طبقاً لتفسيرها لاتفاق أضنة مع دمشق عام 1998.
خيارات أردوغان المحدودة
ولكنّ المراقبين يرون أنّ خيارات أنقرة محدودة؛ سواءً إزاء معركتها في إدلب، أم تجاه تدخلها في الشأن السوري عموماً، لأنها تخشى من تحول الأزمة الناشبة إلى تهديد حقيقي لعلاقاتها مع روسيا، في وقت يبدو فيه الدعم الأميركي والأطلسي لها غير مضمون!.
فتهديد العلاقات بين روسيا وتركيا، ووصولها إلى حد القطيعة، يعني انتهاء هامش المناورة واللعب على المتناقضات أمام أنقرة، أو ما يسميه البعض «الرقصة الأردوغانية» على الحبل المشدود بين واشنطن وموسكو، وتالياً، قطع الرهان التركي على «الخيار الأوراسي»، أو «التوجه والانزياح التركي نحو الشرق»، في موازاة ومواجهة الخيار الأطلسي.
ما يعني أنّ المعركة ستأخذ بعداً آخر، وتتحول إلى الداخل التركي وهوية تركيا ودورها الجيوـ سياسي في التوازنات الإقليمية والدولية، وهو ما لا يفضله أردوغان الذي سعى بشكل حثيث إلى تقوية علاقات بلاده مع روسيا، ومن ضمنها توقيع صفقة الصواريخ «إس - 400»، التي تسبّبت في خلق أزمة كبيرة مع الولايات المتحدة وحلف الناتو.
ما يزيد الطين بلة أمام أردوغان، أنّ الرهان على دور أميركي أو أطلسي في الأزمة الناشبة لا يبدو متاحاً أو مضموناً الآن. فالأجواء التي تخيّم على العلاقات الأميركية والغربية مع تركيا، لا تشير إلى أنّهما بصدد إزاحة «الغمامة الكثيفة» التي تلقي بظلالها عليهما. إذ لم يصدر عن واشنطن ما يمكن اعتباره موقفاً قوياً داعماً لأنقرة. ولم يصدر عن البنتاغون ما يؤكد أنه «يخطط لتقديم أي مساعدة عسكرية ملموسة لتركيا»، وكذا الأمر فيما يخصّ حلف شمال الأطلسي (ناتو)، الذي اكتفى بتوجيه «رسالة تضامن عامة وفضفاضة مع تركيا».
قائمة طويلة من الخلافات
ويشير مراقبون إلى لائحة طويلة من النقاط الخلافية التي حصلت خلال السنوات الماضية، وأظهرت عمق الهوة بين أنقرة والناتو والعواصم الغربية عامة. فقد تحفظ الحلف على ما سميّ «عملية نبع السلام» التركية ضد «قوات حماية الشعب» الكردية، التي تعتبرها تركيا امتداداً لحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً لديها. كما كان للحلف موقفاً مغايراً للموقف التركي حيال قضية «التنقيب عن الغاز في البحر المتوسط». وقد تصاعد هذا الخلاف بعد توقيع أنقرة و«حكومة الوفاق» في ليبيا، على اتفاقية ترسيم الحدود بين البلدين.
ووصل التوتر إلى ذروته بعد شراء أنقرة لمنظومة الدفاع الجوي الروسية «أس – 400». وفي ما بررت أنقرة الأمر بحاجتها إلى منظومة دفاع جوي بعد رفض الولايات المتحدة بيعها منظومة باتريوت الأميركية، انتقد حلف الأطلسي هذا الخيار واعتبره «خطراً على الأمن الاستراتيجي للمنظومة العسكرية الأمنية»، رافضاً تعايش منظومات روسيا العسكرية مع المنظومات الغربية، ومستهجناً استخدام دولة عضو في الناتو «منظومة صواريخ مصمّمة أصلا لمواجهة الأسلحة الجوية الغربية». وعلى خلفية ذلك، فإنّ الجدل ما زال قائماً في الولايات المتحدة بشأن إمكان تزويد تركيا بـ«منظومة الباتريوت»، الذي عاودت طلب شرائها بعد أن رفضت إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بيعها لها.
يضاف إلى ذلك، التحفظ الأميركي والغربي عموماً إزاء الدور التركي في سوريا عموماً، وموقف أنقرة من الأكراد خصوصاً، فضلاً عن اتهام تركيا بدعم جماعات إسلامية متطرفة، وتدخلها في ليبيا لدعم مجموعات مشابهة، بما فيه إرسال جنود مرتزقة إلى طرابلس الغرب. وكذلك شغبها في شرق البحر المتوسط بشأن التنقيب عن النفط والغاز.
على ماذا يعوّل أردوغان؟
وتساءل مراقبون عمّا إذا كان أردوغان يعوّل فعلاً على تدخل عسكري لحلف الناتو في سوريا، فيما لم يتدخل الحلف سابقا في النزاع بين أوكرانيا وروسيا. وخلص المراقبون إلى القول بأن أردوغان يسعى على الأرجح لاستغلال تصاعد القلق في واشنطن وبروكسل من «التهديد الروسي»، ويمنّي النفس باستدراج الغرب للوقوف إلى جانب تركيا، في سبيل «تحصين موقفه سوريّاً»، وبالتالي، «تحسين شروط تركيا في التفاوض على اتفاق جديد مع موسكو ليحلّ مكان اتفاق سوتشي وخرائطه».
وأضاف المراقبون أن أردوغان يراهن كذلك، في المقابل، على خشية موسكو من احتمال «تبدل الموقف الغربي» الذي تقوده واشنطن، وتقديم دعم فعلي وليس خلبياً لتركيا في سوريا، وتعوّيله بالتالي على أن «تهرع روسيا لعقد اتفاق جديد مع أنقرة»، يبعد التدخل الغربي من جديد في الشأن السوري»، من جهة، ويحافظ على انعطافة الرئيس التركي نحو روسيا والشرق، من جهة ثانية.
اللقاء المنتظر بين الرئيسين في موسكو، قد يشكل نقطة فاصلة توضح معالم ومستقبل هذه الرهانات والخيارات التركية والروسية في سوريا؟!
فؤاد محجوب
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت