كتبتُ مقالة في جريدة الحياة الجديدة العدد 4449 الصادر يوم الأحد الموافق 16 /3 /2008 بعنوان (الدفاع المدني بقطاع غزة) بينتُ فيها جوانب قصور وتقصير الحكومة آنذاك وخاصة وزارتي الداخلية والحكم المحلي في عدم توفير مراكز الدفاع المدني ونشرها في مدن وقرى ومخيمات القطاع كافة، والارتقاء بمستواها المهني لمكافحة الكوارث. ولقد أوضحت أن مخيم النصيرات على كِبَره وضخامته؛ يخلو من مستشفا حكومي متخصص، ويخلو من مركز دفاع مدني واحد مؤهل للتدخل السريع، ويفتقر لسيارة مطافي واحدة مُزوَّدة بالمهنية العالية التي تُمكِّن طاقمها من مكافحة الحريق وإطفائه إذا نشب. وناشدتُ المسئولين وقتها أن يعملوا على إصلاح الخطأ، وأن يُولوا سلامة الناس وممتلكاتهم كل الرعاية والاهتمام . وحذرت في مقالتي من مغبة العواقب التي تُدمي أكباد سكان المخيم المكتظ بالسكان، والمزدحم بالمباني، والطافح بالمحلات التجارية والصناعية. ولا ننسى أننا في قطاع غزة في حالة حرب دائمة، ومعرَّضون إلى هجمات العدو الإسرائيلي في كل وقت، ما يُحتم علينا أن نكون جاهزين ومستعدِّين لكل طارئ.
ولقد وجدتُ من المفيد أن أعيد نشر المقالة بعد اثنتي عشرة سنة، ليرى القارئ ما فيها من تنبيهات وتحذيرات أوقعنا الإهمالُ فيها أن حدثت المحرقة الكارثية (هلوكوست النصيرات الجديدة) التي أكلت جزءاً غالياً من المخيم، وكان وقودها خليطاً من البشر والحجر والشجر. ومع كل ذلك لم يتغير الوضع عمَّا كان عليه طيلة السنوات الماضية، وأظن أنه لن يتغير بسبب سيادة الجهل، وهيمنة بطانة الجهلاء على مُحرِّكات الحياة اليومية، أولئك الذين ينظرون إلى حياة الإنسان وسلامته نظرة الاستهتار واللامبالاة. من هنا أصبح الإنسان عندهم بلا قيمة أو أنه رخيص الثمن، لا يعنيهم أن يعيش مُحطَّماً أو يموت غير مأسوف عليه، وهذا سر تعاستنا. وبعد: فإليكم أيها السادة نص المقالة كما هو: (العنوان: الدفاع المدني بقطاع غزة).
{ الدفاع المدني من أهم الأجهزة التي تحتاجها المجتمعات في حالتي السلم والحرب، وهو عندنا من أهم الأذرع الدفاعية المطلوبة وقت حلول الكوارث التي تجبر الناس على إطلاق نداءات الاستغاثة وصراخات الاستنجاد برجال المطافئ والإنقاذ . وإذا نحن نظرنا في خريطة توزيع مراكز الدفاع المدني في قطاع غزة، نجدها قليلة العدد ومتباعدة المسافات، ما يفقدها فاعليتها، ويشلُّ حركتها في مساحة تضجُّ بكثرة الدُّور وبازدحام السكان.
وإننا نتساءل لماذا لا يُزوَّد القطاع بمراكز الدفاع المدني بحيث تـنـتـشر في أحـياء المديـنة، وفي
وسط القرية؟. ولماذا لا يتواجد أكثر من مركز واحد في المخيم الواحد لتلبية الاحتياجات؛ خصوصا بعد التوسع العمراني وزيادة السكان كما هو الحال في مخيمات رفح وجباليا والنصيرات...؟ ولماذا لا تُولي وزارة الداخلية هذا الجهاز الاهتمام الذي يستحقه؟ فتزوِّد فروعه بالسيارات والوسائل الحديثة، وتُزوِّده أيضاً برجال مُدرَّبين ذوي خبرة عالية في العمل المهني لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرواح بشرية وثروة حيوانية، والتقليل من حجم الخسائر المادية. ولكي نحقق هذه النجاحات، لا بد من إيلاء الدفاع المدني المزيد من الاهتمام، وبفتح مراكز جديدة، وتغذيته بمزيد من الرجال الأكْفاء، ودعمه مادياً ولوجيستياً.
وسنضرب مثلاً ليرى القارئ حجم التقصير في حق هذا الجهاز الحيوي جداً : محافظة الوسطى وسط قطاع غزة، تضم سبع بلديات ( مدينة وثلاث قرى وأربع مخيمات لاجئين) بتعداد سكاني يقارب 300 ألف نسمة، على مساحة واسعة طولاً وعرضاً، ولا يوجد بها إلا مركزان للدفاع المدني، أحدهما في مدينة دير البلح، وثانيهما بجوار مركز شرطة الوسطى على طريق صلاح الدين، ويتوسط مخيمات: المغازي والبريج والنصيرات، وكلاهما متواضع في مكوناته. وهناك فرع صغير جداً استُحدِث في قرية الزوايدة، ولا يفي بالغرض المتوقع منه. أليس مثيراً للاستهجان أن بلدبة النصيرات التي تبلغ مساحتها بعد التوسع الأفقي عشرة آلف دونم تقريباً، وبها حوالي 75 ألف نسمة – تخلو من مركز مطافي واحد؟!. أليس من التقصير أن تخلو البريج والمغازي وغيرهما من مركز للمطافي واحد في كل منهما؟. هذه أسئلة نطرحها أمام كل مسئول، فإن غابت هذه الحقائق عن عيونهم وعقولهم، فنحن نُذكِّرهم بها، لعلهم يتحركون.
ومما يؤخذ على مراكز الدفاع المتواجدة على أرض الواقع أنها بطيئة الحركة، وكثيراً ما تصل سيارات الإطفاء إلى موقع الحدث متأخرة جداً، وربما تصل بعد أن يكون كل شيء قد انتهى، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب، منها: 1 – أن عدد مراكز الإطفاء قليلة ومتباعدة، بحيث لا تلبي الاحتياج بالسرعة المطلوبة إذا لزم الأمر. 2 – إن سائقي سيارات المطافي غير مزودين بخرائط تفصيلية للشوارع والأزقة وبخاصة في الأحياء التي أقيمت حديثاً. فوجود هذه الخرائط تُغنيهم عن سؤال هذا وسؤال ذاك عن المكان المقصود، فيضيع الوقت الثمين جداً. 3 – عدم جاهزية سيارات الإطفاء، وعدم جاهزية بعض رجالها لتلبية النداء سريعاً، بل إن بعضهم يحتاج إلى قسط أوفر من التدريب ورفع مستوى الكفاءة في أدائهم المهني. وإننا نهيب بهم أن يكونوا دائماً – كما عهدناهم – متواجدين في مراكزهم ، مستعدين للانطلاق لنجدة الداعي إذا دعاهم . كما نناشد المواطنين ان يُفسحوا الطريق بإخلائها من المارة والمركبات الخاصة لتشق سيارات الإسعاف والإطفاء طريقها نحو غايتها بيسر وسهولة وبسرعة.
ولكن الشيء الغريب في هذا الموضوع أن سيارات الإطفاء تفرض رسوماً باهظة على المستغيث مقابل تشريفها لموقع الحدث. وسواء جاءت السيارة في وقت مبكر وقدَّمت خدماتها أو جاءت متأخرة بعد أن تكون النار قد تركت وراءها حطاماً وأكواماً من رماد، فإنها تطلب رسوماً نظير (الطلعة)، وقد حدث منذ أيام أن اشتعلت النيران في إحدى العمائر فأكلت منها بعض محتوياتها ولم يتصدَّ لها إلا شهامة الجيران ونخوة المارة الذين هُرعوا إلى المكان بما توافر لديهم من مضخات صغيرة ووسائل بدائية. ومع هذا فإن مركز الدفاع المدني يرسل فيما بعد مطالبا الثمن نظير الطلعة البهية لسيارة المطافئ، وإلا... فسيحال الأمر للمحكمة!. ولماذا؟. إن هذا الأسلوب ليس جديداً علينا ، بل معمول به منذ عهد الاحتلال البغيض. وللأسف لم يتغير ولم يتبدل، وكأننا نطبق المثل الشعبي القائل:(خراب ديار ودفع مصاري). فنرجو من القائمين على أمورنا أن يُعيدوا النظر في كثير من أمور حياتنا قبل أن نحترق جميعاً. وأخيراً أرجو ألا يجعلنا الأسى ننسى أن نتقدم بالتحية والتقدير من أجهزة الإسعاف التابعة لوزارة الصحة والهلال الحمر الفلسطيني ووكالة الغوث : أطباء وممرضين ومسعفين وسائقي سيارات، على ما يبذلونه من جهد مشكور ، وجهاد أجرُه عند الله عظيم}. اهـ المقالة.*
وبعد، فتلك كانت مقالتي، وها هو مخيم النصيرات على حاله، لم يتغير فيه شيء سوى بعض الدهانات والطلاءات، فلا يخدعنَّكم تلميعه بكثرة الطرق التي تشقُّها البلدية، ولكن انظروا إلى إهمالها في عدم صيانة ما أفسدته هي أو بعض الناس في الطرق المرصوفة. وانظروا إلى إغماضها عينيها عن كثير من التعديات كالتي نراها تلتهم أرصفة المشاة، وسكوتها عن جملة من التجاوزات، وكان أعظمها شناعة كثرة الآبار المتجاورة دون ترخيص، التي يتلاعب أصحابها بالمياه فيهدرونها على غير فائدة في عز الصيف، بينما تجد سائر الناس يستسقون البلدية أن تسقيهم من بعد ظمأ. وهاهي النصيرات تودِّع أكبادها وأعزاءها بسبب الوعي الرسمي المفقود، والوعي الشعبي الموءود. إن الوجيعة التي أُصيبت بها النصيرات يجب ألا تمر هكذا، ويجب ألا يُترك المسئولون يراهنون على الزمن ( كلها أسبوع زمان وينسى الناس مصابهم)، أو يراهنون على انطفاء نار النقمة عليهم، حين تتدخل العواطف الباردة وحساب العلاقات الخاصة، كلا! وألف كلا! فحياة الضحايا الذين وصل عددهم حتى اليوم إلى ثمانيةعشر شهيداً رحمهم الله، وعشرات المصابين شفاهم الله، هذا عدا المحلات التجارية التي احترقت بالكامل؛ فكل هذه الضحايا وجميع هذه الخسائر، وكل هذا الهلع وهذه الأحزان، يجب ألا تذهب هدراً، بل يجب محاسبة المسئولين عنها سواء في البلدية، أو في الوزارات ذات الصلة، وذلك بتشكيل لجنة تحقيق محايدة، غايتها إظهار الحق والحقيقة، بشرط ألا يكون أعضاؤها من الفصائل حتى لا يكيد بعضهم لبعض كيداً مقيتا، ولا من بطانات السوء حتى لا ينافق بعضهم بعضاً، وإنما يُختارون من شخصيات مستقلة: حقوقية ومهنية وفنية وأخلاطاً من النخبة المجتمعية، وأن يُوقف المتهمون بالتقصيرعن مزاولة أعمالهم الوظيفية حتى يقول القضاء فيهم كلمته. إن ما حدث في النصيرات لكارثة فظيعة تُسقط حكومات دول محترمة، وتُجبر رؤساءها على الاستقالة والاعتذار، فما بالنا نحجم عن المطالبة بإقالة وزير مقصِّر أو رئيس بلدية مهمل حتى وإن " كان على رأسه ريشة " ؟، فليبادر هؤلاء الذين تسببوا في هولوكوست النصيرات بالاستقالة والاعتذار، فإن لم يفعلوا فعلى الناس أن يرفضوهم ويُقيلوهم، ويأتوا بمن هم خير منهم.
شكراً لأهالي النصيرات على نخوتهم الأصيلة، وشكراً لسيارات الإسعاف صاحبة الدورالفعَّال في كل الميادين، والشكر كل الشكر موصول لعمال مصانع باطون التعاون وباطون جولس وغيرهم، الذين هبوا لنجدة أهليهم "النصيراتيين". شكراً لشباب النصيرات الرائع على فدائيتهم وفروسيتهم، إنهم أبطال صمَّمَهم الله لاختراق الصعاب ومنازلة الأهوال وقت الشدائد، الذين أكملوا دورهم المشرف بالنزول إلى مكان الحدث وتنظيفه بالماء والصابون .اهـ*+
للكاتب الصحفي/عبدالحليم أبو حجاج
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت