هجمة جديدة لصفقة ترامب

بقلم: معتصم حمادة

معتصم حمادة

(1)

■ وباء الكورونا أصاب عشرات الآلاف من أبناء البشر، لكنه لم يصل إلى «صفقة ترامب ـ نتنياهو»، بل ربما شكل الوباء المذكور غطاءً  للصفقة، بحيث انحصر انتباه الجميع بالخوف من كورونا، وغاب عن الأذهان مسألة «الصفقة» دون أن تغيب عن مسرح الأحداث.

ونعتقد وفقاً لقراءة معينة، أن غياب الاهتمام الإعلامي بالصفقة، كان مسألة وقت ليس إلا، إذ تشير الدلائل أن الاهتمام بالصفقة، وإعادتها إلى مقدمة مسرح الحدث السياسي، بات مسألة أيام ليس إلا، بحيث تستعيد قوة الدفع نشاطيتها، للسير بالصفقة إلى الأمام.

من هذه الدلائل:

1) رسالة سرية أرسلتها الإدارة الأميركية، عبر صلة الوصل المعتمدة، وكالة المخابرات الأميركية إلى جهاز المخابرات في السلطة الفلسطينية، تبلغها أنه آن الأوان لحسم الموقف الرسمي من الصفقة، وأن الولايات المتحدة سوف تحدد موعداً للمفاوضات، يتوقف على رد السلطة مصير الخطوة التالية. فإذا استجابت السلطة للدعوة وذهبت إلى طاولة المفاوضات، فإن تطبيقات الصفقة سوف تتم بالتعاون بين الأطراف الثلاثة، أي الولايات المتحدة وإسرائيل والسلطة الفلسطينية. أما إذا رفضت السلطة الجلوس إلى طاولة المفاوضات، فإن الطرفين، الإسرائيلي والأميركي، سوف «ينفردان» في تطبيق «الصفقة» دون أي تشاور مع السلطة، فالخطة الموضوعة، وضعت للتنفيذ، وهي سوف تنفذ بغض النظر عن أي رأي آخر.

2) انتهاء الانتخابات الإسرائيلية، وما أسفرت عنه من نتائج، وبالتالي باتت اللوحة الإسرائيلية واضحة المعالم، فإذا تشكلت حكومة «وحدة وطنية» بين الليكود وأزرق ـــ أبيض، فهذا يعطي «الصفقة» دفعة سياسية في ظل توافق إسرائيلي، أما إذا شكل غانتس حكومة أقلية بغطاء من «القائمة المشتركة»، فإن الولايات المتحدة لن تتأخر في ممارسة الضغوط لمواصلة مسيرة «الصفقة»، ولن تسمح لأية أوضاع إسرائيلية أن تضعف قوة اندفاع الخطة، بما في ذلك الدور المتوقع أن تلعبه «القائمة المشتركة» في عرقلة سيرها. ولم تفقد الولايات المتحدة رهانها على دور لتحالف الليكود، من موقع المعارضة، للضغط على غانتس، لعدم إبطاء تطبيقات الخطة.

3) احتدام معركة الرئاسة في الولايات المتحدة، وتخوف ترامب أن يؤدي اجتياح كورونا للولايات المتحدة إلى أضعاف موقعه، خاصة إذا ما تركزت ضغوط «الديمقراطيين» على «فشل» إدارة ترامب في صد اجتياح الوباء وحماية الشعب الأميركي من نتائجه. تراهن إدارة ترامب على تقدم سياسي في منطقتنا، عبر الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، لتأكد هيمنة واشنطن على قضايا المنطقة. ولعل تصريحات ترامب، ذات مرة، أن وباء كورونا، سوف يتراجع، وقد يتلاشى مع فصل الصيف، حين ترتفع الحرارة، كان يشكل أمنية في قرارة نفسه أن يشكل الصيف مسرحاً يحقق فيه تقدماً في مواجهة خصومه الديمقراطيين.

4) وأخيراً وليس آخراً، إدراك واشنطن عمق حالة الارتباك التي تعيشها السلطة الفلسطينية في مواجهة الصفقة. فرغم كل ما حققته القضية الوطنية من مكاسب سياسية ودبلوماسية، على الصعيد العربي والإقليمي والدولي، وراكمته من تأييد، من جهة ورفض شبه دولي، لصفقة ترامب من جهة أخرى، فإن السلطة لم تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، في بناء وقائع ميدانية في رفضها للصفقة أو الانتقال، كما يقال من الرفض اللفظي، إلى الرفض العملي، خاصة إعادة النظر بالعلاقة مع دولة الاحتلال، أو إعادة صياغة وظائف السلطة لصالح سياسة تقوم على مقاطعة دولة الاحتلال وسحب الاعتراف بها، ووقف التنسيق الأمني معها. ولعل الولايات المتحدة – كما يقول المراقبون - «استقبلت بارتياح» فشل الجانبين، فتح وحماس، في التقدم خطوة واحدة إلى الأمام، على طريق إنهاء الانقسام في مواجهة الصفقة أو في مواجهة كورونا. فلا الصفقة تميز بين فلسطيني وآخر، ولا الكورونا هي الأخرى تميز بينهما. ومع ذلك مازالت الأمور بين الطرفين وكأن لا صفقة مطروحة على الحالة الوطنية، ولا كورونا تهدد المجتمع الفلسطيني■

(2)

■ لإعادة رسم الإطار العام للقضية، يفترض بنا أن نعيد التأكيد على المعايير التالية في قراءتنا للصفقة وتداعياتها.

أولاً: هي صفقة من إنتاج أميركي – إسرائيلي مشترك، تترجم إلى حد بعيد الرؤية الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، لتصفية المسألة والحقوق الوطنية الفلسطينية، وفرض الوقائع لإقامة دولة إسرائيل كبرى.

ثانياً: هي لا تعتمد، لا كلياً، ولا جزئياً، على المعايير الدولية، ولو شكلياً، كما كان عليه الحال في مفاوضات مدريد، التي اعتمدت القرار 242 أساساً للمفاوضات، وحدود حزيران 67 أساساً لرسم خطوط الفصل والحدود بين «الكيانين» الفلسطيني والإسرائيلي، بل تعتمد صفقة ترامب فرض الوقائع باعتبارها أموراً مسلماً بها، وأساساً للحل، باعتبار أن ما هو قائم، هو الحقيقة وإن أية مطالب تغاير الواقع القائم، من شأنها أن تعطل الحل. وإن إغراق المفاوضات في المشاريع السابقة، في مناقشة المطالب والمطالب المضادة، المخالفة للواقع «الاحتلالي» في الضفة الفلسطينية وباقي المناطق المحتلة، هو الذي أفشل كل المحاولات، بما فيها محاولات أوسلو. الواقع الاحتلالي هو الأساس. هو ما يجب الاعتراف به، واعتماده حلاً للمسألة.

ثالثاً: هذه صفقة لا تطرح خيارات أمام الأطراف المعنية. هي لا تدعو إلى «حل يتم التوافق عليه بين الطرفين». والإدارة الأميركية هنا، لا ترعى مفاوضات للوصول إلى الحل. بل هي تدعو لمفاوضات، ترسم الحل الذي تطرحه الإدارة الأميركية ملزماً للطرفين. أي خطة للتطبيق، وليس للتفاوض على قبولها أو رفضها. التفاوض، هدفه، هنا، رسم الخطة الزمنية للتطبيق ليس أكثر.

رابعاً: هي خطة قدمت نفسها عبر التطبيق العملي، وما جاء في الشق السياسي منها، إنما هو دعوة ملزمة للاعتراف بما فرضته الخطة من وقائع. لذلك بدأت الخطة بالتطبيق قبل أن يتم الإعلان عنها: القدس عاصمة لإسرائيل نقل السفارة الأميركية لها. نزع الصفة القانونية عن ملايين اللاجئين وضع معيار بديل لتعريف اللاجئ يسقط حق العودة عن الملايين، حل وكالة الغوث، تشتيت اللاجئين في أقاصي الأرض وبقاعها بدلاً من العودة، تشريع الاستيطان الاعتراف بالقومية اليهودية على أسسها العنصرية التي تسقط حق تقرير المصير عن الشعب الفلسطيني، وتبقيه حقاً حصرياً «الشعب» اليهودي وحده نزعة المواطنة عن المقدسيين الفلسطينيين واعتبارهم مجرد مقيمين، نزع صفة الاحتلال عن الضفة والقطاع، والاعتراف بها تحت السيطرة الإسرائيلية ما قاد نتنياهو للتحدث عن الضفة الفلسطينية باعتبارها «أرضنا ووطننا». تشريع ضم  غور الأردن وشمال بحر الميت تشريع الترانسفير السياسي لما يزيد من مليون فلسطيني من الـ 48، وإلحاقهم بتخوم «معازل» الدولة الفلسطينية إقامة كيان فلسطيني تحت مسمى «دولة» عبر سلسلة من المعازل تفرق بينها طرق التفافية ومستوطنات، ومواقع عسكرية وجسور وعبارات، وتبقى تحت الهيمنة الإسرائيلية التامة، سياسياً، وأمنياً، واقتصاديا، وكل ما يستدعيه هذا الالتحاق وهذه الهيمنة، بما فيها إشراف دولة الاحتلال على المعابر، وتجريد « الدولة» من كل علامات السيادة الوطنية.

خامساً: تطبيقها ليس رهناً بالمفاوضات مع الفلسطينيين، إن هم حضروا المفاوضات شاركوا في التطبيق، وإن هم تمنعوا، سيتم تطبيقها عبر اللجوء إلى القوة. هي خطة إذعان للتطبيق وليس للتفاوض عليها. ومعيار تطبيقها المصالح الإسرائيلية أولاً وآخراً، وبالتالي فإن أية تعديلات قد تدخل عليها، سيكون هدفها تعميق مسارها في خدمة وتكريس وتشريع دولة الاحتلال. وهذا ما يفسر تشكيل اللجنة المشتركة الإسرائيلية الأميركية لرسم خطوط «الفصل» و« الضم» في الضفة الفلسطينية، والربط بين «معازل» الدولة الفلسطينية  كما رسمت مخططها خرائط ترامب – نتنياهو.

سادساً: هي ليست خطة فلسطينية – إسرائيلية فحسب، بل تسير على مسارين، محلي (أي فلسطيني- إسرائيلي) وإقليمي. ومن علامات منحاها الإقليمي، الاعتراف الأميركي يضم إسرائيل للجولان العربي السوري المحتل، ومطالبة الولايات المتحدة لبنان، الشروع في رسم حدوده مع إسرائيل، بما يؤكد ضم إسرائيل لمزارع شبعا وتلال كفر شوبا، التي احتلها جيش الاحتلال الإسرائيلي في الحرب العدوانية في حزيران 67. وبالتالي، رسالة إلى العرب جميعاً أن تطبيع العلاقة مع إسرائيل لن يكون رهناً بأي شرط عربي، لا الانسحاب من الأرض العربية والفلسطينية المحتلة، ولا قيام دولة فلسطينية وفق المعايير العربية الفلسطينية، ولا حل عادل متفق عليه لقضية اللاجئين، ولا لمبدأ «الأرض مقابل السلام». الاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها، شرطه الوحيد، الاعتراف بالأمر الواقع، كما هو، ودون أية اشتراطات مسبقة. (يبدو أن بعض العواصم العربية بدأ يستجيب لهذا المعيار: البحرين – عمان - الإمارات- قطر- إلى حد ما السودان، وربما عواصم أخرى تحدث عنها نتنياهو، لكنه تكتم عن أسمائها حفظاً لماء وجه أصحابها).

أي كخلاصة: هذه خطة من طراز جديد، ما بعدها، ليس كما قبلها. لا يمكن مقاومتها بذات الأساليب التي قاومت بها الحالة الوطنية اتفاق أوسلو، ولا يمكن القول في الوقت، نفسه من موقع الثقة بالنفس، إنه، وكما احبطنا الخطط السابقة سوف نحبط خطة ترامب. خطة ترامب مختلفة. وإحباط خطة ترامب وتقويضها يحتاج إلى سياسات جديدة، تتجاوز سياسات المرحلة السابقة. ■

(3)

■ بكل مساوئه، وبكل ما حمله من كوارث سياسية للفلسطينيين، بقي اتفاق أوسلو حافلاً بالثغرات التي أمكن لمعارضيه أن ينفذوا منها لمقاومته في الميادين المختلفة.

فهو استند، ولو لفظياُ، إلى القرار 242، ما شكل سلاحاً للتمسك بقرارات الشرعية الدولية وإن كان قد التف عليها بادعاء طرفي المفاوضات أن ما يتم الاتفاق عليه هو التطبيق العملي لقرارات الشرعية الدولية، واعتمد خط الرابع من حزيران 67 أساساً لرسم الحدود، وإن اعترف بالوقت نفسه بمبدأ «تبادل الأرض وفق معايير متفق عليها». وهو قام على مرحلتين، انتقالية، ونهائية، ما مكن المعارضة من الدعوة إلى التخلص والنضال ضد قيود المرحلة الانتقالية، والعمل بموجبات المرحلة النهائية. وعندما انتهى الوقت الزمني للمرحلة الانتقالية، ناضلت المعارضة، وفي مقدمها الجبهة الديمقراطية، لإعلان بسط السيادة على كامل الأراضي المحتلة بعدوان 67، وإعلان القدس عاصمة للدولة عملاً بإعلان الاستقلال. وهو الأمر الذي التزم به مؤخراً المجلس الوطني واتخذ به قراراً واضحاً في دورته الـ 23 (30/4/2018). كما ترك اتفاق أوسلو قضايا الحل الدائم مفتوحة على المفاوضات (أي على المجهول) ما مكن المعارضة من النفاذ من هذه النقطة للدعوة إلى وفد وطني، يضم الجميع، للانخراط في مفاوضات الحل الدائم، بموجب معايير البرنامج الوطني، الذي من شأنه أن يقود إلى رحيل الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس على حدود 4 حزيران 67، وحل قضية اللاجئين بموجب القرار 194 الذي يكفل لهم حق العودة إلى الديار والممتلكات التي هجروا منها منذ العام 1948.

ومع فشل مفاوضات الحل الدائم لاتفاق أوسلو في كامب ديفيد 2 (تموز/يوليو/2000) ذهب الفلسطينيون إلى الانتفاضة في إعلان عن إسقاط اتفاق أوسلو والعودة إلى المقاومة بكل أشكالها.

وحتى عندما عادت السلطة، برئاسة أبو مازن، إلى المفاوضات، فشلت في أن تخطو خطوة واحدة إلى الأمام في رسم ملامح الحل الدائم. وبموجب اتفاق أوسلو، اعتبر الاستيطان عملاً غير قانوني، وإجراء من جانب واحد، أدانته الأمم المتحدة بكل مكوناتها في القرار 2334/ نهاية العام 2016 قبل أيام من رحيل إدارة أوباما.

اتفاق أوسلو ألحق كوارث كبرى بالحالة الفلسطينية، بالمقابل نجحت المعارضة الفلسطينية، بحيويتها، في النفاذ من خلال بعض نصوصه، فضلاً عن أنه ربط الحل الدائم بالمفاوضات بين الطرفين، وحين تعطلت هذه المفاوضات، فإن هذا لم يوفر ذريعة للجانب الإسرائيلي للادعاء بالوصول إلى حل من جانب واحد. وكان من الطبيعي، والمنطقي جداً، أن يتم ترحيل أوسلو إلى مأواه النهائي، في طيات الصفحات السوداء للتاريخ، وأن تستعيد الحالة الوطنية برنامجها الوطني (المرحلي) للنضال في المرحلة الجديدة.

جاءت صفقة ترامب، لتقلب صفحة أوسلو، لكن هذه المرة، لصالح خطة بديلة، أكثر تطرفاً، لا تترك ثغرة واحدة للنفاذ منها، للتقاطع، أو المناورة في قبولها، أو الدخول في مفاوضات من أجل تعديلها. الحل الوحيد للتعامل مع صفقة ترامب هو المواجهة الشاملة، باستنهاض كل عناصر القوة الفلسطينية في ميادين النضال الوطني كافة. ما يعني في السياق، أنه آن الأوان لإخراج الحالة الفلسطينية، من دائرة التردد، وسياسة رد الفعل، والانتقال إلى دائرة العمل والنضال الميداني، وسياسة الفعل المؤثر، دون انتظار المزيد من الخطوات التي أغرقت الضفة الفلسطينية، وفي القلب منها القدس والخليل، بسيل من الوقائع العملية التي سيحاول الاحتلال الإسرائيلي، بدعم مكشوف من الإدارة الأميركية، ليجعل منها «أساساً» وحيداً للحل الدائم. وهو حل لن يقود سوى إلى تصفية القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية.■

معتصم حمادة

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت