مقال بصفحة 88

الكورونا والسياسة- التأرجح بين الحياة والموت

بقلم: رائف حسين

رائف حسين

يمرّ العالم بدوله وشعوبه في أجواءٍ كارثيّةٍ جرّاء انتشار وباء الكورونا، وإصابة مئات الآلاف به، وحصد أرواح الآلاف من الأبرياء… ونحن الآن ما نزال في بداية الكارثة!

النخب السياسيّة تتخبّط باحثةً عن استراتيجيّةٍ للحدّ من انتشار الوباء، وكسب الوقت الذي يحتاجه العلماء لإيجاد دواءٍ وعلاجٍ مُجدٍ أو مصلٍ ناجعٍ للتطعيم.

الإجراءات الدراماتيكيّة التي اُتّخذت حتّى الآن في العديد من الدول المنكوبة لم تصل إلى حدّ كبح انتشار الوباء ومحاصرته؛ فيوميًّا نسمع الأخبار ونتابع معطيات ارتفاع عدد المصابين وتزايد عدد الموتى.

النخب الحاكمة في العالم تحاول كل ما في وسعها لتبنّي استراتيجيّةٍ ملائمةٍ للتعامل مع الكارثة، ومنع انهيار مؤسّسات الدولة واقتصادها. إلى جانب هذا التحدّي الكبير، تواجه السياسة معضلة التعامل مع الأخبار الكاذبة والإشاعات حول الوباء، وبثّ مزاعم المؤامرة حول أسباب انتشاره وطرائق التعامل معه، ونحو ذلك من الأخبار الملفّقة التي تزعزع بعض الإجراءات المتّبعة من قبل المؤسّسات الحاكمة الواجب فرضها وتسييرها درءًا لانتشار الكورونا.

يستند مروّجو مزاعم المؤامرة إلى معطياتٍ وأرقامٍ من الماضي، ويقيسون الوضع الراهن بحالاتٍ مشابهةٍ يفسّرونها حسب مزاجهم بعيدًا عن الخلفيّات العلميّة وما يدعم فكرهم الهدّام.

تعتبر تلك الشريحة من البشر النخب الحاكمة مبالغةً في تصويرها للكورونا وأبعادها، فهم يقولون إنّ أعداد الإصابات والموتى لم تكن لتلاحظ لولا هذا "التضخيم المبالغ" من قبل "المستفيدين".

في الواقع، إنّ نظرةً سريعةً إلى مجريات ما يحدث في إيطاليا وإحصائيات الموتى المتزايدة يوميًّا فيها، تكشف خطأ أولئك العبثيّين ووهن طرحهم وأفكارهم الخطيرة للغاية.

عدد سكّان إيطاليا حوالي ستّين مليون إنسانٍ، وفي الأوضاع العاديّة يموت فيها إيطاليا بأمراضٍ وشيخوخةٍ وحوادث سيرٍ وإجرامٍ وغيرها من العوامل حوالي ألفيّ إنسانٍ يوميًّا، وقد زاد عدد الموتى عن 700 في يومٍ واحدٍ في بداية هذا الأسبوع، أي بمعدّل زيادة يزيد عن 30%! السفهاء من مروّجي فكرة المؤامرة يدّعون أنّها أرقامٌ ونسبٌ لم تكن لتلاحظ لولا التهويل من النخب السياسيّة!

ما يقضّ منام السياسيّين والنخب هو احتمال انهيار القطاع الصحّيّ في الدولة، وما يترتّب عليه من عواقب وخيمةٍ. هذا بالضبط ما حصل في إيطاليا أوّلًا، ويُتوقّع وقوعه، بسبب التزايد الطرديّ في عدد المصابين، في عددٍ من الدول الصناعيّة كإسبانيا والسويد وبريطانيا والولايات المتّحدة الأمريكيّة وإسرائيل.

ستسود حالة انهيارٍ إذا وصل عدد المصابين إلى أكثر من حدّ استيعاب القطاع الصحّيّ وطاقاته، وخاصّةً في أقسام العلاج المكثّف التي تقدّم خدمات التنفّس الاصطناعيّ، آخذين بعين الاعتبار تقديرات أهل الاختصاص في أنّ 5% من المصابين بحاجةٍ إلى علاج مكثّفٍ وتنفّسٍ اصطناعيٍّ.

 إسرائيل، على سبيل المثال، تملك مثل إيطاليا حوالي 11 سريرًا للعلاج المكثّف لكلّ 100000 إنسانٍ، أي حوالي 800 سرير. القسم الأكبر منها محجوزٌ لعمليّاتٍ جراحيّةٍ أجريت في الأسابيع الماضية. في حالات الطوارئ يمكن حجز نصف هذه الأسرّة لعلاج مصابي الكورونا. هذا يعني أنّه هنالك 400 سرير للعلاج المكثّف لمرضى الكورونا، وبما أنّ المختصّين يقولون إنّ 5% يحتاجون علاجًا مكثّفًا وتنفّسًا اصطناعيًّا مدّته أسبوعٌ، فذلك معناه ضرورة عدم وصول عدد المصابين يوميًّا إلى 8000 مصابٍ.    

ينجم عن وصول عدد المصابين في إسرائيل إلى 8000 آلاف يوميًّا انهيار القطاع الصحّيّ. اليوم (25 آذار 2020) وصل عدد المصابين إلى 1930 بزيادة 33,8% عن اليوم الماضي، فإن حافظت هذه الزيادة على وتيرتها فسوف يصل عدد المصابين إلى الخطّ الحرج بعد خمسة أيّامٍ فقط!

انهيار القطاع الصحّيّ، كما حصل في إيطاليا، يعني لأيّ دولةٍ كارثةً إنسانيّةً. في هذه الحالة تقف الطواقم الطبّيّة أمام قراراتٍ إنسانيّةٍ حاسمةٍ وخطيرةٍ. تسمّى هذه الحالة علميًّا TRIAGE (فرز). بكلمات أخرى؛ تبدأ الطواقم الطبّيّة بفرز من ستعالج ومن لن تعالجه! هذا يعني تجريد الإنسان/ الطبيب من إنسانيّته، وهي حالةٌ لها عواقب وخيمةٌ على الطاقم الطبّيّ والمجتمع والنخب السياسيّة.

النخب السياسيّة في كلّ الدول تواجه معادلةً صعبةً ومعقدّةً جدًّا، فإمّا أن تقوم بإجراءاتٍ راديكاليّةٍ تطال الحياة اليوميّة للبشر وتمسّ حرّياتهم الشخصيّة، وأيضًا الحياة الاقتصاديّة بكلّ أبعادها، وإمّا ألّا تصنع شيئًا، وتترك الأمور جاريةً كما يرجو أصحاب فكر المؤامرة.

إن لم يتمّ اتّخاذ أيّ إجراءاتٍ فالسيناريو واضحٌ للخبراء: مئات الملايين سيصابون بالمرض، وسيتفشّى الوباء ويذهب ضحيّته الملايين من البشر، كما حصل سنة 1918 بتفشّي وباء "الإنفلونزا الإسبانيّة" الذي بدأ في كاليفورنيا وانتشر في العالم، وحصد أرواح حوالي 50 مليون إنسانٍ.

إن أقرّت النخب الحاكمة مواجهة الوباء فأمامها ثلاث استراتيجيّاتٍ أساسيّةٍ، كلّها تهدف إلى منع انهيار القطاع الصحّيّ، وكسب الوقت الذي يحتاجه العلماء لإيجاد علاجٍ للمرض أو حتّى مصلٍ للتطعيم وتوفير مناعةٍ للبشر، إذ قد يطول هذا الواقع المؤلم أشهر وقد يبلغ في أصعب الأحوال عامين أو أكثر.

المناعة هي الكلمة السحريّة التي تتمحور حولها الاستراتيجيّات الثلاثة الممكنة، وقد نصل للمناعة عبر إيجاد مصلٍ أو بطريقةٍ طبيعيّةٍ، أي بعد أن يصاب إنسانٌ بالوباء ويتعافى فإنّه يمتلك مناعةً لفترةٍ زمنيّةٍ لا يستطيع العلماء تحديدها حتّى الآن. آخذين بعين الاعتبار أنّ حوالي 80% من المصابين لا يشعرون بأعراض المرض أو فقط بشكلٍ بسيطٍ جدًّا، لكنّ البقيّة تحتاج إلى علاجٍ وحياتهم معرّضةٌ للخطر، ومن المعلوم أنّ المصل ليس متوفّرًا لغاية هذا الوقت، وقد يستغرق وقتًا طويلًا لاكتشافه وتوفيره.

يتفشّى الوباء بنسبةٍ طرديّةٍ، والعلماء يقولون إنّ أيّ شخصٍ مصابٍ سينقل المرض إلى ثلاثةٍ آخرين، وأنّه في غضون أيّامٍ قليلةٍ ستخرج الأمور عن حدّ السيطرة، كما يبيّنه الرسم التوضيحيّ الآتي:

 

 

 

وصل العلماء إلى معادلةٍ تمكّن من السيطرة على انتشار الوباء، وتعتمد المعادلة على افتراض أنّه إذا استطعنا أن نصل إلى نسبة 60 -70% من الناس الذين يحملون مناعةً (جرّاء إصابتهم بالمرض بعوارض بسيطٍ وتعافيهم منه) نستطيع بهذا محاصرة الانتشار. انظر الرسم التوضيحيّ الآتي:

السؤال الذي تطرحه النخب السياسيّة على نفسها هو: أيّ استراتيجيّاتٍ ينبغي أن نقوم بها للوصول إلى هذا الوضع، دون أن ينهار القطاع الصحّيّ ونصل إلى الوضع الإيطاليّ.

 

 

الاستراتيجيّة الأولى؛ تسطيح الدالّة (flatten the curve

تسطيح الدالّة (الدالّة التي تصوّر انتشار الوباء) يعني انتشار الوباء بمسارٍ مسيطرٍ عليه ولفترةٍ زمنيّةٍ طويلةٍ، أو بكلماتٍ أخرى تقليل عدد المصابين يوميًّا، حتّى يتسنّى للعلماء اكتشاف علاجٍ للمرض وتبقى الأمور ضمن سيطرة القطاع الصحّيّ فلا ينهار. تستدعي هذه الاستراتيجية إجراءاتٍ عديدةً، فالعدوى تنتشر ولكن ببطءٍ وعلى امتداد فترة زمنيّةٍ طويلةٍ، وللوصول إلى مثل هذا الوضع يجب تقييد الحياة العامّة وإغلاق المدارس والجامعات ودور العبادة وحظر الاحتفالات وكلّ أنواع التجمّعات البشريّة… أي تقليل التواصل الاجتماعيّ المباشر بين المواطنين، فكلّما قلّلنا التواصل منعنا ارتفاع نسبة انتشار الوباء. هذه الاستراتيجيّة تحتاج وقتًا طويلًا جدًّا، يجرّ معه مشاكل اجتماعيّةً واقتصاديّةً هائلةً لا تستطيع المجتمعات والدول تحمّلها لأشهرٍ طويلةٍ، والنتيجة ستكون كارثيّةً في مجالاتٍ حيويّةٍ للدولة والمجتمع.

إضافةً إلى ذلك، يقول العلماء إنّ التحكّم في صعود الدالّة، كي لا ينهار القطاع الصحّيّ، ليس أمرًا سهلًا؛ لأنّ نتائج أيّ إجراءٍ من قبل الحكومة تتوضّح نتائجه بعد أسبوعين أو أكثر، وإن وقع خطأٌ إجرائيٌّ معيّنٌ فمن الممكن أن تصعد الدالّة وينتشر المرض مرّةً أخرى. هذه الاستراتيجيّة لن تحلّ المعضلة، وسيموت بسببها عددٌ كبيرٌ من الناس، لكن في مدى وقتٍ طويلٍ.

 

الاستراتيجية الثانية؛ إيقاف الدالّة (stop the Curve)

 

الاحتمال الأفضل هو تسطيح الدالّة أكثر فأكثر، ثمّ إيقافها، فالعلماء يفكّرون في إيقاف العدوى وليس في تقليل عدد المصابين فقط.

هذه الاستراتيجيّة التي بدأت بها ألمانيا وبعض الدول الأخرى عبر إجراءاتٍ صارمةٍ جدًّا تخلّلتها عمليّة تجميد الحياة العامّة كاملةً، ومنع التجمهر لأكثر من شخصين اثنين، وحظر التجوال وإيقاف التصنيع والتجارة والمرافق العامّة كافّةً وبشكلٍ شبه كاملٍ.

يتوقّع العلماء منع انتشار العدوى وإيقافها من خلال هذه الاستراتيجية، فبمساعدة الفحوص يمكن كشف المصابين وعزلهم عن بقيّة البشر. الإشكالية في هذه الاستراتيجيّة أنّها تحتاج وقتًا طويلًا جدًّا وأنّ أحدًا لا يعرف كيف ستتصرّف الجماهير، وما هي العواقب التي ستلحق بالاقتصاد والحياة العامّة، وخطر ذلك كلّه محدقٌ على وجود الدولة. الأمر الآخر هو تخوّف بعض الخبراء من عدم استطاعة القطاع الطبّيّ اكتشاف كلّ الحالات المصابة عبر الفحص بسبب الإجراءات الصارمة. هنا، يتمّ طرح التساؤل عمّا سيحصل عند رفع الإجراءات وعودة الحياة إلى مجراها الطبيعيّ، باحتمال وجود إصاباتٍ لم يتمّ اكتشافها، وفي هذه الحالة سيعود الوباء بشكلٍ وحشيٍّ ومتسارعٍ جدًّا، خصوصًا أنّ عزل البشر الكامل وفق هذه الاستراتيجيّة وإيقاف العدوى يعني عدم إصابة أحدٍ به، وعدم حصانة أحدٍ منه مستقبلًا، ممّا يعني تأجيل انتشار الوباء لفترةٍ لاحقةٍ وحسب!

 

الاستراتيجيّة الثالثة: مدّ وجَزرٌ (Waves strategy)

 

تذهب هذه الاستراتيجيّة إلى التعامل مع انتشار العدوى والحدّ منها عبر إجراءاتٍ صارمةٍ بطريقة المدّ والجزر، أو على موجاتٍ متعدّدةٍ ولفترةٍ زمنيّةٍ طويلةٍ، إذ تبقى الإصابات ضمن قدرة القطاع الصحّيّ على الاستيعاب والتحمّل.

يتمّ وفق هذه الاستراتيجيّة تنفيذ إجراءاتٍ صارمةٍ تتعلّق بالحياة العامّة والحياة الاقتصاديّة، كما هو الأمر في الاستراتيجيّة الثانية للحدّ من الانتشار وإيقافه، وبعد فترةٍ زمنيّةٍ يتمّ رفع الإجراءات، فتعود الحياة إلى مجراها الطبيعيّ لمدّةٍ، ويعود معها انتشار الوباء أيضًا، لأنّ شريحةً واسعةً من الناس لم يكتسبوا المناعة اللازمة لهزمه، فتعود الدولة مرّةً أخرى للإجراءات ذاتها، ويستمرّ هذا المنوال فترةً زمنيّةً طويلة الأمد. هذا يعني حتميّة تحمّل الشعب الوضع المذكور والإجراءات الصارمة مدّةً أطول قد تصل إلى عامين.

هذه الاستراتيجية مرتبطةٌ، مثلها مثل الاستراتيجيّات الأخرى، بعددٍ كبيرٍ من الضحايا.  

كلّ الاستراتيجيّات هدفها ربح الوقت الذي يحتاجه العلماء لإيجاد علاجٍ أو حتّى مصلٍ للوباء، وتطوير أساليب الفحص للمصابين، خصوصًا وأنّ الأكثريّة الساحقة لا تعلم بإصابتها. في هذا الوقت من المهمّ أيضًا أن يجد العلماء فحصًا للكشف عن توفّر المناعة لدى الإنسان أم لا؛ لأنّ الدولة تحتاج وبالضرورة إلى كمٍّ من البشر الذين يحملون المناعة اللازمة، إذ تستطيع خلال عمليّة اكتشاف الدواء تقديم الخدمات المختلفة؛ كي لا تنهار الدولة بكلّ مؤسّساتها، وفي مقدّمتها القطاع الطبّيّ والأمنيّ.

 

 

 

الكاتب والمحلّل والمفكّر السياسيّ د. رائف حسين

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت