من حكايا أطباقنا الفلسطينية

بقلم: أسامة نجاتي سدر

أسامة نجاتي سدر

 اعتدنا أن يكون لكلّ مثلٍ قصةً نرويها تأكيداً لمعنى المثل أو توثيقاً لمرجعيته وتوضيحا لما فيه من قيم ومفاهيم، ولكن القصة تتغلغل في حياتنا بسلاسة وتدخل في كل مفردة من مفرداتها، وكل زاوية من زواياها لتُضفي لها نكهةً خاصة وطعماً مميزا، واسألوا بذلك العم أبو فرحان الجيعان خير من قال حكاية عن أكلاتنا الشعبية وقدم لها بالشرح والتبيان.
على الإفطار وضعنا الفلافل وللذته كدنا على آخر حبة بعضنا نقاتل فقال: لو تعلمون أن كثير من تخاصموا حول أصل الفلافل وحسبه، العراقيين واللبنانيين والمصريين والفلسطينيين، وبالرغم من قوة حجتهم جميعا وخاصة من ربطوه بأقباط مصر وترجموا (فا لا فل) ذات الفول الكثير ودلعوه بالطعمية لشدة طعامته إلا أنهم اعترفوا لأم الفلافل مدينة عكا الفلسطينية بالسبق والأصالة وعائلة فلافل تسكنها وتقف كالحارس الأمين على تراثنا وأكلاتنا الشعبية، وبالرغم من كل محاولات الاحتلال سرقته عبر دخول المسابقات والادعاءات بلا دليل إلا أنه أكلة كنعانية لا غبار عليها، حسنا خسرت الحبة الأخيرة لكنني اكتشفت أنه طعام أجدادي.
 وقامت والدتي العزيزة بتحضير المقلوبة على الغداء وبها الزهر البلدي الأصفر يزيّنها كما تزين الشمس السماء، فلما رآها العم أبو فرحان سأل لِمَ لَم تضعوا بها الباذنجان، هذه الباذنجانية طعام الفاتحين طبخها أهل القدس للقائد صلاح الدين الأيوبي حين دخلها فاتحاً وهو من سماها المقلوبة، وقيل بأنها صنعت على الساحل الفلسطيني وطبخت بالسمك بدل اللحم والدجاج فأجابته الوالدة: هذه الصيادية يا أبو فرحان الجيعان والله بكرة غير أطبخلك مسخن وأشوف شو رح تحكيلنا عنه.
أفطرنا كأساً من الشاي وزيتاَ وزعتراَ من جبال نابلس وكأنه زعتر حلبيّ وطعم زهرة السماق فيه مثل الليمون، واستغرق العم في طعامه ولم يتكلم فتفاجأت والدتي وقالت: "عليك الأمان يا أبو فرحان من غير كلامك فش للطعم عنوان" فقال: تأكلون وسام الأبطال ورائحة الشجاعة والإقدام عند الرومان، دواء السم والطاعون وأكثر ما استفادت منه البطون، يضاف إليه مزيج من المردقوش واكليل الجبل والسماق والسمسم والأصالة والعزة والكرامة، وبه نفحة من تل الزعتر وزعترة وقبس من عائلة زعيتر النابلسية الأصيلة وحكاية حب مروية، عمّن عشقوا الجبال وخرجوا فجراً ليجمعوه ويبيعوه لربات البيوت لتصنع فطائر الزعتر، وللمطاحن كي يصنعوا الدّقة ويستفيد منها الصانع والتاجر، ولولا يد المحتل وجبروته ومكره لكان الزعتر ألذ ويملأ مائدتنا فلا تخلو منه.
 واتفقت مع العم أبو فرحان أن يخبرنا عن قصة المسخن قبل المائدة، فكيف لي أن أجمع لذة القصة مع طعم المسخن الفلسطيني؛ رجع أبو العبد إلى بيته خالي البطن بعد نهار طويل وهو يحصد بيدره ويُذَرّي القمح ويخزنه، ولكن الحاجة خضرة لم تجهز الطعام بعد لأنها حاولت أن تكمل تطريز ثوب عرس ابنتها، فأوقدت الصاج ووضعت فوقه خبز الصباح الجاف فوجدته لا زال جافا، فأضافت له الزيت وأضافت إليه السماق ليضفي نكهة لا يعلمها إلا من جربها وذهبت لتطل على أبو العبد فإذا هو نائم، فرجعت للمطبخ وطهت الدجاج بالبصل وأضافته للخبز وقدمته لأبو العبد فانتشر المسخن في بلادنا وعُرف بنا وعُرفنا به؛ أتُرى والدتي تقتنع بأنك لن تتكلم حول طبقها لهذا اليوم؟؟؟
 وسألت العم أبو فرحان حول المنسف؛ الخبز واللبن واللحم؛ ها قصدك قصة الملك المؤابي ميشع (855-810) ق.م الذي أراد أن يدخل معركة هامة ضد اليهود في فلسطين ولكنه من خشي من تغلغل اليهود في دولته، وأراد أن يكشفهم ويتركهم لشعبه كي يتخلصوا منهم، فعلم أن بالتوراة نصا يحرم على اليهودي أن يأكل لحم جديٍ طُبخ بلبن أمه، فصنع المنسف لجميع أبناء شعبه، فمن أكلها بَرِئ من ملة اليهود، فأصبح المنسف رمزا من رموز الهوية العربية الفلسطينية شرق النهر وغربه. وفجأة دخلت الوالدة: حياك الله يا أبو فرحان والعشا خبيزة؛ إممم شختورة ولا مغمومة ولا حوسة ولا بحبوثة ولا؛ ما ضل غير يكون للخبيزة قصة؛ مرّ شابٌ بصبية تبقل خبيزة ... تجمع الورق ... فعايرها بفقرها: "اهدر يا دست الخبيزة مالك بلحم الغصيب نصيب" ولما تكررت القصة تبعته الصبية إلى بيته فوجدت أنه أفقر منها فسألت أمه "كيف توقدين النار" فردت: "بَنسِل من الحصيرة كل يوم شوي" فقالت: "بوكل خبيزة وبستر عرضي، ولا بأكل لحم الغصيب وأعيب"؛ ومر عليها الشاب في اليوم التالي فقالت له: "رحنا على داركم شفنا حوالكم لقينا قش الحصيرة الكم وقيد". "الله يسترنا من حكاويك يا أبو فرحان الجيعان بكرة غداك مفتول، ونشوف شو ضل عندك قول"، المفتول ليوم الجُمعة ولا يؤكلُ إلا بجَمعة، وفي عيني أرق سيدنا سليمان العظيم عليه السلام وما يذهبه عني إلا ما صنعه له الجان: "المفتول" و"حبات مخلل من قاع القطرميز" وضل يا إم الخير من القول قول وكل أكلة في بلادنا مجبولة بحكاياتنا وتراثنا وأيامنا وسلامتكم. تم كتابة المقال ضمن متطلبات التخرج لدبلوم التراث الشعبي الذي أطلقته أكاديمية دراسات اللاجئين.

أسامة نجاتي سدر

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت