الكورونا صورةٌ مُشابِهة للاجتياح ! ..والشيء بالشيء يُذْكَر !

بقلم: المتوكل طه

المتوكل طه

***

لعل الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة قد اعتاد على "منع التجوّل" الذي طالما فُرِض عليه من قبل قوات الاحتلال ، ووجد غير آليّة ليتغلّب من خلالها على هذا الإجراء القاتل ، وبالتالي فهو ، اليوم، الأكثر قدرةً على احتمال "الحَجْر" ومنع التجوال الذي تفرضه مخاوف الكورونا المتفشّي في الأصقاع . وأسوق هنا مقطعاً للكيفيّة التي كان عليه شعبنا أيام الاجتياح الإسرائيلي للأرض المحتلة من آذار – أيار العام 2002 .

لم نكن ، حينها، جميعنا أبطالاً مقدودين من الصخر، بل ارتعدت فرائص الكثيرين، وعلا النشيج الجماعي غير مرّة في غير موقع ، وراح معظم الجمهور يسدّ رمّانة البيت على نفسه وأهله ويسدل الستائر ، واحتضنت الأمهات أولادهن ، وبحثن عن أكثر الزوايا سلامة في المنزل ، وخبأنهم هناك ، وتسابق الناس ، قليلاً ، إلى محلات البقالة والخضار والأفران ، وابتاعوا كميات كبيرة من الشموع وبطاريات المذياع " الترانزستور " غير الكهربائي ، واقتصدوا في الطعام والغسيل ، وأطلقوا ذقونهم ، حتى لم تعد ترى أحداً إلاّ ولحيته قد نبزت وطالت – وربما لم يحلقوا وجوههم كسلاً او حداداً أو احتجاجاً غير مُعلَن على كل شيء – وازدادت المجادلات بين الأزواج ، والخلافات بين الأطفال ، وبدأت الأصوات تعلو بالمُداخلات السياسية الركيكة بين رجال الحيّ ، الذين تجمّعوا بعد أن اطمأنوا لابتعاد رتْل الدبّابات وصمت فوهاتها وانطفاء نثار قذائفها . وراح الرجال يدلحون حسراتهم وأمنياتهم على مصاطب كلام الليل. وتكاد ترى ذلك الخيط المشدود أو النزق في لسان المتناقشين الذين انتبهوا لتوّهم للأخطاء والثغرات والنواقص التي التي أدت إلى اجتياح الاحتلال لأرضنا، واتّسعت الموضوعات، وراح الحديث في كل اتجاه، أليس الحديث ذا شجون؟! لكن شجون الناس هنا حقيقية، وبارقة بالوجع والدمع والشتائم والمدائح، أيضاً. وربما تواطأ الجميع على أن يقبلوا المبالغات في تصوير هول ما جرى، أو تصوير بطولة أجمعوا على إطرائها والابتشاش لها، ما كان يخلق شيئاً من التوازن النفسي والرضا والاطمئنان، كلّما وصلت أخبار المواجهة وإلحاق الخسائر في صفوف الاحتلال. وربما أعاد الناس لأنفسهم القصص ذاتها مرة إثر مرة، ويصلون بعد كل سرد لها إلى نتيجة حاسمة، يبنون عليها تصوّراً كاملاً وسيناريو لما سيحدث. كما استحوذت البرامج المقدّمة عبر شاشات الفضائيات على جزء كبير من اهتمام الناس، فتراهم يؤكّدون الثناء على هذه القناة الفضائية ، ويسبّون تلك التي تعرض الرقص والعري أو تنكر الشهادة على الشهداء.

مثلما كانوا، وكلما سمعوا صوت انفجار أو صدى قذيفة، أو رأوا دخاناً يصّاعد من ذلك الحيّ او تلك الضاحية، يهرعون إلى هواتفهم المحمولة للاتصال بأحد معارفهم أو أصدقائهم للاستفسار عمّا جرى، وتدور الألسن بالتفاصيل والتهويل والتحذير، فينكمش المستمعون ويردّون بواباتهم خلفهم، ويتمترسون أمام التلفاز بحثاً عن جديد، أو بليّة تقع على رؤوس الناس، غير أن موضوعاً بعينه كان فاتحة الكلام ومنتهاه بين كل المجتمعين، وهو الأنظمة العربية ودورها الغائب الفاضح.

وقد يكون طبيعياً أن تزجي الرجال أوقاتها في لعب الورق "الشدّة"، حيث يتحلّقون في أحد بيوت الجيران، وينشغلون ساعات وساعات في فتّ الورق وعدّ حسابات اللعبة إثر اللعبة . وكالعادة، يعلو الصراخ والاحتجاج والشتائم الوديّة ، ويكثر التدخين وشرب القهوة والشاي..

والتوقّف أحياناً إنْ وردت أخبارٌ تفيد بسقوطها شهداء او اجتياح مدينة أخرى!

صمت ثقيل :

لم نكن جبابرة كلّنا، لكن الحصار خلّصنا من أوهام كثيرة خطرة، كانت تعشّش في أقفاص صدورنا، وأستطيع أن أجزم بأن حاجز الخوف قد تخطّاه كلُ الناس دون استثناء، لأن حجم الاستباحة الإسرائيلية جعل المواطنين يشعرون، ولأيام متواصلة وثقيلة، بأن الحياة تساوي الموت، وبالتالي لا خوف من إبريق ماء ينسكب على رؤوسنا، فكلّنا في بحرٍ هائج.

ولا يخلو الأمر من مُفارقات مضحكة، فأسباب البكاء لا تُعدّ ولا تُحصى ، بل لم يعد الرجال يخجلون من البكاء أمام زوجاتهم وأولادهم . ومن المضحك المُبكي أن الأحاديث كانت تصل أحياناً إلى ترديد النكات والطرائف، وكان بعضهم يعلّق على الآخر بتلميحات بريئة، فيضحك الجميع! لكن الغريب أنه وكلّما ضحك الرجال انتهى ضحكهم إلى صمت ثقيل، كأنهم يُكَفّرون عمّا اقترفوه من فرح! ولعلّي أذكر ذلك الانشغال البادي على وجه أحد جيراني، ولما سألته عمّا يشغله، تردّد بادئ الأمر، ثم أسرّ لي بأنه يواجه مشكلة عويصة مع زوجته! فما هي يا جاري العزيز؟ صمت مُحرجاً !! فقلت له : اصبر يا جاري.

لعله لم يرد لزوجته أن تحمل، لأنها لن تجد سيارة إسعاف تحملها إلى المشفى، فتنزف وتموت مثلما ماتت جارتها الصغيرة .

قعدوا واستراحوا!

وثمة ضحايا غير مرئيين لم تذكرهم وسائل الإعلام أو يوضعوا على قوائم الشهداء والجرحى والمعتقلين، وأعني بهم مجموع مئات الألوف من الفلسطينيين الذين كانوا يرون أطفالهم وهم يرتعشون مثل الشجر العاري أمام ولولة العواصف النابحة ، أو أولئك الذين رأوا الشظايا وهي تحزّ بطون أمهاتهم ، أو تفتح جروح فلذات أكبادهم ، وهي تتّسع في ليل غير رحيم. أو ذلك الزوج الذي جاء المخاض بيته، فماتت الوالدة والوليد اختناقاً بالدم والأوجاع. أو ذلك الرجل الذي منعوه من الوصول إلى غرفة غسيل الكلى في المستشفى القريب، فاختنق بسموم ماء خاصرتيه أمام أولاده وزوجه. وهل أنسى ذلك الصراخ المروّع لبضع نسوة في آخر الشارع، والذي جعل الحارة برمّتها تفتح نوافذها وتخرج على غير حساب، لترى ثلاث جثث هم رجل وولداه، حاولوا منع جنود الاحتلال من الاعتداء على النساء، فسال دمهم وتجمّع حتى أصبح بركة، غمست النساء كفوفهن فيها ، ولطمن وجوههن بهذا الحنّاء ، الذي راح يتخثّر على وجوه نساء الحارة ، على مشهد من الصغار ، الذين خرجوا دون إذن أهاليهم ، والذي انشغلوا بتلك الجثث التي ظلّت خمسة أيام أمام النواح والانكسار والحسرات!!

وبالتأكيد، أعني، أيضاً آلاف البيوت التي تمّ اقتحامها وتحطيمها وحرقها ونهبها وتخريب كلّ ما فيها، أمام أحداق الصغار المفزوعة، وارتعاد النساء الجامدات من الهلع والخوف على كل شي! وهل أعني تلك الخسارات الثقيلة التي طالت المحلات والمركبات والأبنية والأملاك العامة، حتى أصل إلى العذاب الحقيقي الكامن في كل خطوة مغامرة تسير من مكان إلى مكان ، وهي مهددة بإطلاق النار وقصف الطائرات التي تفتت الصخر والرؤوس والنوافذ ، وفي منع المريض من الوصول إلى العبادة ، أو الابن إلى صَفّه المسالم ومدرسته التي أصبحت معسكراً للجنود؟

وهل سأعني الآلاف المؤلفة من الآباء الذين مُنعوا من العمل، وأصبحوا على مدار عامين لا يجدون قرشاً أوكأس حليب أو رغيف شعير؟

إذاً، لا داعي للتنويه إلى الإحصاءات المرعبة لعدد الذين أصابتهم الجلطة أو القرحة أو السكري أو الضغط ، أو الذين يتناولون المهدّئات، عدا الذين ماتوا فجأة، مثل أشجارهم المخلوعة من شروشها العميقة، احتجاجاً صامتاً على هذا الجنون الكامل. وياليت أرتال الدبابات الإسرائيلية اجتاحت المدن وخرجت منها، فعندها ستتم إعادة نصب أعمدة الكهرباء، ومواسير المياه، وربط خطوط الهاتف، وإصلاح البيوت ، والطرقات ، وإزالة السيارات المعجونة عن الدروب ، وإيصال الأموات إلى مقابرهم ، والنساء إلى غرف الولادة ، والأطفال إلى المدارس، والرجال إلى العمل والحقول القريبة.

ياليتهم استباحوا وراحوا، لكنهم هذه المرة قعدوا واستراحوا، وفرضوا نظام منع التجوّل على المدن التي أصبحت أصلاً سجوناً كبيرة، محاطة بالأسلاك والدبابات والطائرات الهادرة ليلاً ونهاراً ..فقط.

ويُسمح للمواطنين الخروج أسبوعياً من عتمة بيوتهم المُغلقة الفارغة من الطعام والدواء والماء والكهرباء بضع ساعات .. للتزوّد بالطعام وشراء ما يلزم، والسؤال : مِنْ أين يأتي أرباب العائلات بالنقود ليشتروا حاجياتهم؟  وما مصير التعليم والتطبيب والتنقل من مكان إلى مكان؟ وأين سنحتفظ بموتانا ومخاض نسائنا، وكيف سيحتملنا الجدار البيتي ونحن نبحلق فيه منذ سته أشهر دون أن يكرهنا ؟ أليست الإلْفة تولّد الاستهتار، مثلما يُوَلّد الجوعُ الكفرَ والجنون؟

أسابيع ممضّة وطويلة من الاجتياح، والمدن عبارة عن معازل مغلقة على نفسها، والبيوت منغلقة على ساكنيها ، وعمليات " التطهير" الإسرائيلية لم تتوقف عن قتل هذا ، وقصف عُمر هذا، واعتقال هذا، ونسف بيت هذا ، وقلع حقل هذا ، وإبعاد هذا، وتأديب هذا، ومنع التجول هذا، واختبار هذا، وحرمان هذا، وتجويع هذا ، وإذلال هذا، واحتقار هذا ، وضرب هذا.

***

نستيقظ متأخرين ، الشوارع خالية ، ولا صوت يندّ  في الطرقات ، غير صرير عجلات الدبابات ، وزعيق الأبواق ، وصدى قنابل الصوت والدخان  ورشات متقطعة من البنادق هنا وهناك ، تتجاوب بين ساعة وأخرى . ربما حاولنا ، بكل الطرائق ، أن نكسر الرتابة وروتين ساعات الرمل الخانقة ؛ تتناول فنجان القهوة ، وتمجّ سجائرك ، وتتكلّس  كالصنم أمام التلفاز الذي يضربك على صدغيك بشواظ سياطه وتحذيرات الإدارة الامريكية أو تصريحات قادة الاحتلال ، وتشعر بأن رمّانة صدرك ستنفرط أو تنفجر وتُصاب بأزمة قلبية ، ويضيق قفص صدرك حين تسمع بعض المسؤولين العرب الذين سيشاركون أمريكا في ضرب العراق !

تبدّل وجه الشاشة الصغيرة، وتبحث عن قناة فضائية أخرى، فتطالعك رقصات خليعة وأغان فاقعة وإبهار بصري سطحي ثرثار .. ولولا بعض الكلمات العربية لاعتقدت أن هذه الأغاني قادمة من عمق مرابع الليل الغربي المهوس العاري . ربما تكون تلك الأغاني منسجمة مع طبيعة الغرب وخصوصيته، بل هي ابنة مكانها وزمانها وناسها، لكنها ، بكل تأكيد، ليست منّا، ولسنا منها، وتضغط على جهاز التحكّم عن بُعد  "الروموت كنترول" بحثاً عن قناة أخرى فتأتيك أخبار سقوط الشهيد هنا ، وهدم ثلاث بيوت هناك واعتقال خمسين ! ثم تلفحك برودة تصريح لمسؤول يردّ بأناقته الأنثويّة على إجراءات الاحتلال المجنونة التي تفوق التصوّر، بالكلمات نفسها ، وبالنغمة التصالحية النذلة ذاتها، تلتقط صحيفة "بايته" منذ ثلاث أيام تتصفّحها ، فلا تجد شيئاً غير أخبار ملكة جمال سويسرا، والهندي الذي ينام على المسامير مدّة جعلته يدخل كتاب "غينيس للأرقام القياسية" وكان حريّاً بالصحفية أن ترشّح أكوام القمامة المتراكمة في المدن لكتاب "غينيس" هذا، لمنع البلديات من جمعها منذ شهرين ، ويظهر أمامك عنوان يقول إن تكاليف الحرب مع العراق ستكلف أمريكا بين مئة ومئتي مليار دولار! تخيّلوا، لو صرف هذا المبلغ لمحاربة الأمراض والفقر والنهوض بالمجتمعات المتخلّفة ، كيف سيكون وجه العالم ؟ وثمة خبرٌ عن رجل من اليمن تزوجّ امرأة صمّاء بعد أن ملّ من صراخ زوجته ، جنباً إلى جنب مع خبر يصرّح فيه رئيس أركان جيش الاحتلال حول نيّة إسرائيل الاستمرار في عدوانها السافر، وصفحتين للرياضة الغربية، وصور  بعض الموتى ، ومقالات مكررة، أفضلها يشبه ماء الشتاء الجاري ، لا يُسبّب النَجاسة ، لكنه لا يصلح للوضوء. ونلاحظ خبراً يفيد بأن أكثر من مئة ألف رضيع مهددون بالأمراض بسبب عدم تلقيحهم وتطعميهم بالطعوم اللازمة.

وترى عدة مقالات مترجمة حرفياً عن الصحافة الإسرائيلية.. ترجمة حرفية!!فنحن في هذه المقالات " مخرّبون" و" إرهابيون"و" أولاد كلب ". وتستقر عيناك على الصفحة الأولى فترى اللّغة المُهذّبة جداً تجاه الاحتلال الذي تصفه الصحيفة بالقوات الإسرائيلية وليس بقوات الاحتلال، وتقول الصحيفة  وزير الدفاع الاسرائيلي بدل وزير الحرب أو الجيش، وتقول الصحيفة "الفلسطينيين" وليس  الشعب الفلسطيني  - ثمة هندسة مُعدّة سلفاً لبناء كل شيء - ولكن لا بأس ثمة خبر صغير في صفحة داخلية مفاده أن قوات الاحتلال ستقتحم المعتقلات والسجون التي تحتوي على تسعة آلاف معتقل!!

وهناك تقريرعن صور الإذلال التي يمارسها جنود الاحتلال على الحواجز، وصورة عروسين يقطعان الحاجز مشياً .. بين البنادق!

وصورة امرأة تحمل ابنها ، الذي مات ، مسافة ثلاثة كيلومترات، باكية مهدودة!

تُلقي الصحيفة جانباً وتحاول أن تفتح كتاباً لتقرأ، أو تجد فيلماً معقولاً لتزجي ساعتين من هذه النهارات التي لا تنتهي حصاراتها. تجري بعض المكالمات الهاتفية مع الأهل هناك، ومع بعض الأصدقاء هنا، الأخبار نفسها، والضجر ذاته، والقهر والجوع والجنون يزداد  ويزداد، وعند المغرب يجتمع رجال الحارة في أحد البيوت، يؤدّون صلاة المغرب والعشاء جماعة، ليبدأ مسلسل النميمة البريء، أو الانتقاد السطحي أو التحليل السياسي العجيب! فالأحاديث نفسها، والضجر نفسه، والقهر يزداد ويزداد، والشكوى يعلو أوارها ، والكراهية والرفض تلمسهما بيدك، ثم يجدون في أخبار أمريكا والعراق مادة دسمة ليصبّوا جام غضبهم على أمريكا والأنظمة العميلة والعرب النائمين والمسلمين الغائبين والعالم المتآمر الصامت المريب . وفجأة يصمت الجميع كأن على رؤوسهم الطير مدة لحظات، ثم يعود الحديث الصاخب المتداخل البسيط ، بعد أن تيقّنوا أن ذلك الصوت هو لرتل الدبابات والدوريات التي تجوب المدينة والضواحي كل ساعة وأخرى وقد يقتحمون البيت إذا أحسّوا أن ثمة تجمعاً ينعقد داخله، وعندها سيتم اعتقال الشبان الذين تحلّقوا للعب الشدة "الورق"، أو بعض الرجال الذين لهم أسبقيات في النضال والسجون ، وبالتأكيد يحطمون البيت، ويفزعون الأطفال ويعتدون على النساء ، وإذا تجرّأ أحدنا وحاول منعهم من فعل أي شيء فسيتم طرحة على الأرض بعشرات الطلقات، والمبررات جاهزة، ولا مَنْ يسأل!

والحقيقة أننا، نحن الجيران، اكتشفنا بعضنا البعض، وتعرّفت النسوة على خبرات جديدة وأخبار طازجة ، رغم أن مستوى الضيافة قد تراجع، في كل البيوت تدريجياً، بسبب الأوضاع الاقتصادية، والحرص على عدم الإسراف خوف أن يطول منع التجوّل. والملاحظ أن الحواكير الصغيرة وقطع الأراضي المحيطة بالبيوت قد أعيد لها بهاؤها فتمّت زراعتها بالخضار والقثائيات وما تيسّر ، وانشغل أصحابها فيها ساعات وساعات . وراح بعضنا يتحسس ما أرجأه من أعمال ليقوم بها وينتهي منها، في البيت أو على مستوى القراءة أو الكتابة أو ما يتّصل بعمله وتخصصه. وفي الأيام الأولى من الاجتياح ومنع التجوال، لم يكن الناس قد توصّلوا إلى هذا المستوى من نقد السلطة والتعرّض للشخصيات المُتهمة بالفساد والتخريب، وللأجهزة التي لم تمنع أصابع الاحتلال وعملاءه من اقتناص الشرفاء وقصفهم أو اعتقالهم، ولعلي اكتشفت أن كل شيء مكشوف أمام الناس، ومن الصعوبة التمويه على الشعب أو منعه من قول ما يريد، ألا يقولون: ألسنة الخلائق سيوف الحقائق!

وبالرغم من ركاكة الفكر أو البراءة والسطحية التي تلمسها لدى عامّة الناس، فإنهم أذكياء يمتلكون بوصلة لا تخطئ، ويدركون الحدّ بين الصحيح والمعطوب، ويميّزون بين الخطأ والصواب  وقلوبهم الشجاعة تدّلهم على الطريق القويم.

إن الناس مثل المياه تماماً، طاهرة نقية، تخلق الحياة، غير أن المياه بحاجة إلى سدود وقنوات وتصفية "فلترة" ، وإلى تخزين ، حتى تظل مفيدة نقية . أما إذا تُركت المياه فإنها تصبح كالطوفان الذي يدمّر كل شيء، وإذا استقر في مكان يصبح آسناً مضرّاً . ولعل دور أية سلطة يتمثّل في حفظ هذه المياه وتمريرها في قنواتها النظيفة، وضمن خطة وبرنامج ورؤية.. وإلا!!

أما النظرية القائلة بأن قمع الشعوب وتكبيدها الخسائر يؤدي إلى تركيعها والسيطرة عليها، فهي نظرية خاطئة فاشلة، عدا كونها عنصرية ولا تتمتع بأية قيمة أو أخلاق، ولا يبررها منطق. فالناس هنا، وكلّما كوتهم نار الاحتلال، أو مزّعتهم طائراته ومدرّعاته وجاعوا وسفكوا الدمع وامتلأوا بالفواجع، تمسّكوا أكثر بحقوقهم وثوابتهم ، وأدركوا بالفطرة أنهم لم يخسروا ويضحّون بكل ذلك ليحصلوا على الفتات أو العدم.

ربما يضيق الناس ذرعاً ، ويصيبهم بعض التعب ، ويعانون من نقص حيوي أصاب حوائجهم ، وعندها ربّما يتبرّمون ويدعون المسؤولين لتخليصهم من هذا العذاب الذي لا يحتمل. لكنهم ، إذا ما استشعروا أنهم سيخسرون أبجدياتهم وحقوقهم الأولى، فإنهم ينسون جوعهم ودمعهم وجراحهم، وينتفضون كالسباع المجروحة في أبنائها وقلوبها وكراماتها وأعراضها وبيوتها.

إن النتيجة الاكيدة الصريحة الواضحة التي تَخْلُص بها من كل ما يقوله الناس، وما يسلكونه ويفعلونه هو أن الاحتلال يُوَرّث الكراهية ، ويعمّق الحقد والنقمة ، ويولّد الثأر وردود الفعل الحادّة ، ولا يمكن أن يؤدي إلى نتيجة أخرى ، على الإطلاق . كما أن أفضل الطرائق وأقصرها وأجْداها لحكم الناس ومُسايستهم هو العمل من أجل تحقيق أهدافهم وأحلامهم ، وفتح مساحات أكثر اتساعاً لهم، ومصارحتهم وإشراكهم ، ومخاطبتهم بما يحتاجونه ، دون مواربة أو مخاتلة أو ادّعاء أو حذاقة لن تفيد ، ولن تفيد.

ولعلك تلمس لمس اليقين، ليس فقط انعدام الدّخْل واقتراب الفقر، بل الإتيان على المدّخرات المتواضعة، التي كانت تمثّل سلة أمان واحتياط أبيض لهذه الأيام السوداء.

وربما تجدر الإشارة إلى أن نهارات الحصارات المتتابعة تدفعنا إلى تلك المشيات الرياضية ، لنحرك أجسادنا ونظل في لياقة مقبولة، وخلال المسير ، محدود المسافة أو الدائري ، تلمح الصغار الذين يطلقون طائراتهم الورقية في السماء، ومعظمها قد اتخذ شكل العَلَم الفلسطيني، ما أغاظ جنود الاحتلال الذين راحوا يطلقون رصاصهم المتخبّط في أعقاب تلك الطائرات فيضحك الرجال الذين يذرعون الطريق أو النساء اللواتي انضممن إلى هذه الرياضة على خجل، رغم أن بعض الرجال اقتعد رصيفاً، وراح يعدّ سجائره بعد أن تخلّى عن شراء علب السجائر باهظة الثمن.

وما يلفت الاهتمام رقاع الدعوة لحضور حفلات الزواج على تواضعها، حيث يحدد أهل العروسين موعداً، ثم يُثبّتون جُملة باتت تتكرر في كل رقاع الدعوة، وهي : إذا صادف هذا التاريخ يوم إغلاق فإنه يتم إرجاء حفل الزواج إلى أول ساعة من رفع التجول في المكان نفسه.

وقد تلحظ سيارة مسرعة قادمة من مكان بعيد فتعرف أن ثمة من يكسر نظام منع التجول ويتنقل من حارة إلى أخرى، ويصبح بذلك دليلاً للآخرين الذين يتجرّأون على توسيع مناطق تحركهم وتجوّلهم ، ويصدف كثيراً أن يلتقوا بدوريات الاحتلال التي تذيقهم أصنافا معتبرة من الشبح واللطم والركل والحجز لساعات أو لشهور، بعد تحطيم مركباتهم أو هرْسها تحت المجنزرة.

غير أن  سيارات الإسعاف ومركبات الصحافين تستطيع ، غالباً، التنقل ما زاد عدد سيارات الإسعاف التي بات لها مهمات جديدة، منها إيصال الخبز ل"المقطوعين"، وما شابه من خدمات إنسانية تصل أحياناً إلى نقل العروس إلى بيت العريس.

وتتعقّد أمام الناس فرصة السفر خارج المدن بل أصبحت مستحيلة ، وعليه فإن المضطر للسفر إلى الخارج سيجد نفسه أمام مغامرة مُميته يضطر معها إلى قطع عدة كيلومترات مشياً على الأقدام، أو استخدام وسائل النقل الجديدة (الحمير، والبغال، والعربات اليدوية)، وغالباً ما تفشل تلك المحاولات بسبب رصاص الجنود الذي يطاردهم، وهم بين الوحل أو تحت الشمس الحارقة والغبار الخانق، عداك عن مأساة السفر عبر المعابر من رفح أو أريحا، وما تحتاجه تلك المعابر من إجراءات جنونية ومُذلّة ، إضافة الى ما تكلّفه تلك التنقّلات من نفقات باهظة إضافية وحالات استغلال لا تخلو منها الحياة.

المتوكل طه

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت