أصبحت الأمور أكثر إتضاحا مما سبق، فكل المفكرين السياسيين والإقتصاديين والعلماء يتحدثون عن جائحة كورونا "كوفيد-19" وبما يوحي لعدم وجود حلول قريبة من خلال إيجاد دواء أو لقاح يقضي على المرض الذي يتفشى الآن في كل العالم، بل إن السياسيين المخضرمين كَ "هنري كيسنجر" يرى أن العالم ما بعد "الكورونا" تغيّر للأبد، وطرح في مقالة له في "وول ستريت جورنال" ثلاث قضايا عاجلة، أولها تطوير البحث العلمي العالمي في مواجهة الأمراض المعدية، والثاني معالجة الإقتصاد العالمي جراء تفشي الوباء بشكل سريع في حالة لم يسبق أن شهدته البشرية، والثالث حماية مباديء النظام العالمي الليبرالي من مفهوم "التسوّر" والإنغلاق الذي فرضه تفشي الوباء، "كيسنجر" في مقاله ركّز على مفهوم تطوير مشروع "مارشال" الإقتصادي (إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية) ومشروع "مانهاتن" (مشروع للبحث العلمي والتطوير الذي أنتج أول قنبلة ذرية)، وهنا يحّث "كيسنجر" جكومة الولايات المتحدة على التفكير بخطة عالمية للنهوض الإقتصادي وبعمل وتعاون عالمي في البحث العلمي لمواجهة الأوبئة ككل وعلى رأسها وباء "كورونا". ضمن السياق أعلاه، أعتقد أن على الحكومة الفلسطينية والدكتور محمد إشتية كخبير إقتصادي أولا ورئيس وزراء
ثانيا أن يبدأ بعمل خلية أزمة جديدة هدفها وضع الخطط للتعايش مع الوباء المُستمر فلسطينيا وبما يُقلّل من الخسائر المترتبة على الإجراءات التي إتخذت ووفقا لمعايير جديدة ونمط معيشي وحياتي جديد، فلا يُعقل أن يستمر الإجراء الحالي لفترة طويلة، لأن ذلك سيُفقر المجتمع إقتصادياً وعلمياً وستسود حالة لا يمكن السيطرة عليها مستقبلاً. واقع الحال يقول: كلّ ما تم حتى الآن جيد جداً وسيؤدي العمل به وبحزم لتقليل المخاطر ودرءها وتبطيء إنتشار الوباء بما يتيح للجهاز الصحي لترتيب نفسه لكي يستطيع الإستمرار بالعمل بشكل منطقي ويُمكّنه من القدرة على القيام بمهماته بشكلٍ دائم ودون معوّقات خطيرة، وهذا يتطلب العمل الحثيث على تطوير قطاع الصحة ولتكن له الأولوية القصوى من حيث البنية التحتية والعدد الكافي من الطواقم الطبية والإدارية.
الحكومة الفلسطينية عليها أن تَعْمَدْ فوراً لوضع خُطط قصيرة الأمد ومتوسطة المدى لمعالجة الآثار المترتبة على تفشي الوباء والخطوات التي إتخذت لمواجهته، لذلك علينا أن نعمل على ترتيب الأولويات بحيث نستطيع تجاوز هذه المِحنة بأقل الخسائر، فالتعليم أولوية قصوى، والإقتصاد أولوية الأولويات، وكل الجهد يجب أن ينصبْ على ذلك، وهذا مع الأخذ بعين الإعتبار أن جائحة كورونا لن تنتهي قريباً، لذلك فالتركيز على الزراعة مثلا أصبح أولوية قصوى.
أغلبية العلماء والمختصين لا يزالوا غير متأكدين من زمنٍ مُحدد للقضاء على الوباء، بل إنهم لا يستطيعون قراءة المُستقبل الحقيقي للسيطرة على "الفيروس" كعلاج ولا كمدة صلاحية، فهم الآن يقومون بالبحث في إتجاهين، البحث العلمي لإيجاد لقاح ودواء ويرافق ذلك إجراءات للوقاية أولا، ومفهوم التجربة والخطأ ثانيا مُعتقدين أن التغيّر المُناخي في درجات حرارة عالية قد تقضي على "الفيروس" دون علاج، مع العلم أن هذا غير مؤكد لكنه قد يُخفف من ظاهرة الإنتشار السريع، وبعضاً من العلماء يرى أن "كورونا" سيعود بقوة في شتاء عام 2021 بقوة أكبر من هذا العام.
الحياة لا بدّ أن تستمر، والتجارب العالمية أمامنا، "الصين" مثلا قمعت "الفيروس" لكنها لم تقضي عليه، و"السويد" عزلت الكبار في السن وإهتمت بهم صحيّاً ومنعت التجمع لأكثر من خمسين شخصاً وأبقت على كل شيء كما هو مع الأخذ بالوقاية الشخصية والعامة، في حين دول أخرى لم تفعل شيئا فتفشى الوباء وأصبح يُشكل كارثة حقيقة، عليه، على الحكومة الفلسطينية أن تبدأ فوراُ بدارسة كل التجارب وتضع الخطط بما يُعيد الحياة لطبيعتها ضمن سياق أن "كوفيد-19" باقٍ ويجب التعامل معه وفقا لمعطيات جديدة أساسها الوقاية وأسلوب حياة مرتبط فيها من البيت إلى المدرسة إلى الشارع إلى العمل.
أخيراً، المخاطر دائما ستبقى، لكن الحياة يجب أن تستمر، وإستمرارها في ظلّ وباء لا نعرف المدى الزمني للسيطرة علية تتطلب منا أن نكون جاهزين لكيفية العمل على العيش في ظلِّ تواجده بيننا، وهنا يكمن الإبداع، وهنا تكمن القوة الحقيقية للمجتمع، القوة في التعاون والتعاضد والإلتزام والنظافة وملاحقة الفساد بكافة أشكالة ومنع مظاهر ليلة غير ذي أهمية لنا والتي تُعبّر عن رفاهية كاذبة، ومنع التجمعات وتحديد عددها، ووقف مثلا الأسواق الشعبية المكتظة، وإقتصار عدد محدد لكل جامع للصلاة، ومنع القدوم من التجمعات الريفية لمراكز المدن بشكل كثيف...الخ، هذه مُجرد أفكار عامة، لكن الواقع يتطلب وضع خطة عامة تُحاكي الواقع الجديد للمجتمع ككل يكون أساسه الوعي والإلتزام الذاتي والمشاركة المُجتمعية.
الإسراع في وضع الخطط ومناقشتها مجتمعيا عبر الإعلام لترسيخ مفهوم التشارك والتعاون لإعادة عجلة الحياة الإقتصادية والمجتمعية ولو بشكل تدريجي أصبح ضرورة مُلحّة، فلتكن الحكومة الفلسطينية سبّاقة وتضع في حسبانها أن "كورونا" قد يستمر أشهر طويلة!!! فما بعدَ الوباء ليس كما قبله، كلّ شيء تغيّر وسيتغير، والسؤال هو ماذا بَعْد؟!!!!
بقلم: فراس ياغي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت