يمكن النظر إلى انقلاب غانتس على محددات «كاحول لافان»، باعتباره الحجر الأول في سلسلة «أحجار الدومينو»، التي تتهاوى تباعا على وقع ارتدادات سقوط أولها.
وربما من تأثير ذلك،بدأت تتشكل في المشهد الحزبي الصهيوني خريطة تحالفات جديدة، بعدما تأكد بأن جميع الاصطفافات الصهيونية المناوئة لنتنياهو كانت تحالفات انتخابية بحتة، ثم انهارت بعدما ظهرت مؤشرات قوية على تشكيل حكومة وحدة، وبالتالي إقفال باب الانتخابات الرابعة.
ومع توالي انتخابات الكنيست في محطاتها الثلاث السابقة، تشكلت قناعة بأن الخريطة الحزبية القائمة ستستمر على حالها،إلى أن يتم كسر حالة التوازن النسبي بين المعسكرين المتخاصمين، وتتوفر لأحدهما فرصة تشكيل الحكومة بمفرده.
لكن الذي حصل قلب التوقعات مع خطوة غانتس الأخيرة، ليتولى نتنياهو من جديد إدارة اللعبة على وقع تراجع خصومه .. وهجوم «كورونا».
وفي الوقت الذي توقع فيه معظم المراقبين الإعلان عن تشكيل حكومة برئاسة نتنياهو أولا، جاء انفجار المفاوضات الائتلافية ليعيد ملف التشكيل إلى مربعه الأول، مع قرب انتهاء المدة القانونية الأساسية الممنوحة لغانتس. وعاد كل من الليكود و«كاحال لافان» لتبادل الاتهامات عن المسؤولية عن هذا التعطيل.
فهل قلب نتنياهو الطاولة في وجه غانتس وأقفل باب الحوار معه حول تشكيل حكومة وحدة، بعدما أشرت استطلاعات الرأي إلى تعاظم قوة الليكود وإمكانية أن يحصل في انتخابات رابعة، مع باقي أطراف معسكره، على الأغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة، دون الشراكة مع خصم الأمس القريب وشبكة شروطه الائتلافية؟
أم أن انفراط عقد التحالفات التي خاصمته طيلة عام سبق فتح أمام الليكود فرصا لاستقطاب بعض مكوناتها وتشكيل حكومة معها بقيادته المنفردة، دون الحاجة إلى اتفاق تناوب مع حزب غانتس، والذي يمكن وضعه، في ظل هذه المستجدات، ضمن طابور المنضمين إلى الحكومة، وليس الشريك الأساسي في تشكيلها؟
يمكن التعامل مع العاملين السابقين كتفسير واحد ذي شقين لما حصل في المفاوضات الائتلافية. لكن السبب الجوهري هو أن نتنياهو أدرك أن مجموعة من الأسباب قد انعقدت لصالحه:
• فقد اضمحلت حالة الاستقطاب الحاد التي كان يعيشها المشهد الحزبي في إسرائيل لصالح انزياح عدد من المواقف باتجاهه، وبات يحظى بأغلبيه مريحة تؤيد استمراره على رأس المشهد الحزبي والسياسي الإسرائيلي.
• انكشاف الطبيعة الانتخابية للتحالفات الصهيونية المناوئة له، وافتقارها لبرنامج سياسي تطرح نفسها من خلاله كبديل فعلي عن قيادة الليكود وحلفائه لدفة الحكم في إسرائيل. وكل ما تطرحه هذه التحالفات يأتي انسحابا للمواقف التي يتخذها الليكود برئاسة نتنياهو. وكان هذا واضحا أمام جمهور الناخبين، وتجسد على نحو أشد وضوحا خلال الإعلان الأميركي ـ الإسرائيلي المشترك عن الشق السياسي من صفقة ترامب ـ نتنياهو، وظهور رئيس الوزراء الإسرائيلي كشريك فعلي في صياغة الصفقة وبلورة أهدافها. وقد ساهم توقيت هذا الإعلان وإبراز دور نتنياهو في الصفقة بشكل كبير في تعزيز موقع حزب الليكود وزيادة غلته من مقاعد الكنيست في الانتخابات الأخيرة.
• ووضع تفشي فيروس كورونا الصراع على مقعد رئاسة الوزراء في سياق مختلف بعيدا عن عنوان إسقاط نتنياهو وازاحته عن الحياة السياسية، والذي كان هدفا مركزيا أسس لقيام تحالف لا يستهان به ضد بقائه.
فإلى جانب انشداد الجمهور الإسرائيلي نحو خطر كورونا على حساب متابعة تطورات وقائع الصراع بين المتخاصمين، ساهم تسارع تفشي الفيروس في تعطيل عمل الكثير من المؤسسات أبرزها القضاء. ووفق ذلك، تأجلت محاكمة نتنياهو ووضع ملفه القضائي برمته على الرف حتى إشعار آخر، وهذا أفقد خصومه مصدرا رئيسيا من مصادر قوتهم، والذي كانوا يراهنون عليه بشكل أساسي بعدما فشلوا في تحقيق هدفهم عبر صندوق الانتخابات.
ومن هذا المدخل، استبق نتنياهو تكليف غانتس بتشكيل الحكومة، فرد على مطالب تشكيل حكومة وحدة بدعوة «كاحال لافان» للانضمام إلى الحكومة التي ما يزال يقودها، واعتبارها حكومة طوارئ «وطنية» في مواجهة تداعيات تفشي كورونا.
وفق ما سبق تبدو في الأفق القريب ثلاثة سيناريوهات محتملة في مسألة تشكيل الحكومة:
• أن تنجح قوى الضغط متعددة المصادر في استكمال المفاوضات الائتلافية بين «كاحال لافان» والليكود، والتي سيتابع نتنياهو من خلالها الضغط على غانتس، من خلال الانفتاح على أطراف أخرى مثل «العمل» والمنشقين عن تحالفاتهم وأحزابهم لكسب تأييدهم في ملف تشكيل الحكومة برئاسة نتنياهو .. حصرا. وفي هذا السياق سيكون الهدف الرئيسي لنتنياهو العمل على «تقليم» مطالب غانتس، وصولا إلى تشكيل حكومة يكون فيها جزءا وليس شريكا.
• في سيناريو آخر، سيسعى نتنياهو لوضع رئيس الدولة العبرية الذي كلف غانتس بتشكيل الحكومة أمام خريطة مختلفة من المواقف، ربطا بتداعيات انقلاب رئيس «كاحول لافان»، تملي عليه عدم التمديد للأخير وإحالة التكليف إلى نتنياهو، تجنبا لجولة انتخابات رابعة في ظل أوضاع استثنائية مع توسع انتشار فيروس كورونا واستنفار جميع المؤسسات السياسية والأمنية في مواجهة هذا الخطر.
وإذا قام ريفيلين بذلك، فإن نتنياهو سيجد نفسه في حل من عناوين التفاهمات التي تم بحثها بين الليكود وغانتس، وسيعيد مسألة تشكيل الحكومة إلى البداية وضمن قواعد جديدة، مستفيدا من حالة التراجع والتفكك التي يعيشها الخصوم.
• أن يماطل نتنياهو ومعسكره في موضوعة تشكيل الحكومة حتى نهاية المدة الممنوحة لغانتس وحتى بعد تمديدها، والدفع باتجاه انتخابات رابعة يراهن فيها على تحطيم «لافان كاحول» نهائيا، ودخول مكوناته الانتخابات كل بمفرده. وفي الطريق إلى الانتخابات الرابعة، سيسعى إلى استيعاب المنشقين عن «تيلم» وغيرهما في صفوف الليكود، مستفيدا من ارتدادات انقلاب غانتس على مواقف تحالفه.
في جميع هذه السيناريوهات يعمل نتنياهو على تحقيق مسألتين غير منفصلتين:
• الاستمرار على رأس الهرم السياسي والحزبي في إسرائيل وتكريس نفسه كـ«ظاهرة» قيادية تجاوزت من سبقها من حيث فترة الحكم وانعدام من يقدر على منافستها بشكل جدي.
• مواصلة الانفراد في الحكم وإقصاء المنافسين. وقد نجح على امتداد السنوات السابقة في ذلك ، داخل حزبه، وفي الائتلافات الحكومية الذي قادها، ويسعى في هذه الجولة من الصراع إلى هزيمة خصومه وهم على مقاعد المعارضة.
ضمن المشهد الإسرائيلي اليوم،تتحرك ظاهرتان محمومتان: مناورات نتنياهو .. وتفشي كورونا!
محمد السهلي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت