رحم الله من رحلوا بالكورنا، وبغيرها.. وشفى المصابين في كل مكان..
"رحّ نحكي قصّة ضيعة؛ لا القصّة صحيحة ولا الضيعة موجودة، بس بليلة هوّي وضجران، خرطش إنسان عَ ورقة، وصارت القصة وعمْرت الضيعة!"
هكذا، افتتحت فيروز فيلم "بياع الخواتم"، الذي أخرجه يوسف شاهين عام 1964، وهو أول فيلم غنائي عربي.
في الفيلم، يخترع المختار في ضيعة متخيلة، شخصية اعتبارية اسمها راجح، زاعماً أنه يعادي الضيعة، وأن صدامه مع المختار ينتهي دوماً بانتصار المختار. لذلك فهو يحمي الضيعة، ويمنع الأذى عن الأهالي. يعترف المختار لابنة أخته ريما أنه اخترع هذه القصة لكي يسلّي أهل الضيعة، ولكي يؤثر فيهم. ريما التي لم تكن مرتاحة للقصة، اقتنعت أنه بكذبة بيضاء صغيرة، لن يحصل أذى خطير. إلا أن فضلو وعيد، هذين اليافعين المحبين للأذى، شكّا بمصداقية القصة، وقررا استغلالها لتحقيق مآرب شخصية، وضعا قائمة بجرائم تدعو للشفقة، على أن ينفذاها ويضعان اللوم على راجح. لذلك أطلقا الماعز من المزارع، عبثا بالحدائق، وسرقا أشياء صغيرة، بالإضافة إلى إطلاق المزيد من الشائعات عن راجح بين أهالي الضيعة، وصولا في النهاية الى ظهور راجح الحقيقي، في منتصف حفلة "عيد العزابي"، حيث طلب لقاء المختار، وعند لقياه، تبين أنه بائع للخواتم، وأنه قصد الضيعة من قبل، ليقدم هدايا من بضاعته للعرسان الجدد، وبالمقابل طلب يد ريما لأحد أبنائه. انكشفت لعبة عيد وفضلو، وعوقبا من قبل المختار. حكم على عيد أن يتزوج زبيدة، وأن يعمل فضلو لحسابها، حتى تستعيد كل أموالها المسروقة.
ريما قبلت عرض راجح، وكان تبريرها، أنه كان عليها أن تقبل، حتى تبقى كذبة راجح كذبة. بعد مباركة خالها، غادرت مع راجح، وتزوجت بابنه.
ولعل ذلك الفيلم قد أغرى الراحل شاهين لإخراج فيلم "عودة الابن الضال"، وهو فيلم مزيج من الدراما والغناء، خاصة مع بدايات الفنانة ماجدة الرومي، ومع أن ظهور الفيلم كان عام 1976، أي بعد 12 عاما على إخراجه لفيلم "بياع الخواتم" إلا أنني خلال بحثي عن السينما وهزيمة عام 1967، وجدت أن فكرته نبعت بعد الهزيمة، ولكن الظروف السياسية كانت عائقا، ولكن التحولات فيما بعد شجعت يوسف شاهين والشاعر الغنائي صلاح جاهين، على المضي قدما، من باب أن التحولات فيما بعد نصر أكتوبر 1967، سمحت بنقد المرحلة السابقة، لتثبيت الحكم الجديد، بما قوي به من مشروعية العبور.
كان فيلم عودة الابن الضال"، بطابع الملحمي، مجالا فرّغ فيه كل من يوسف شاهين وصلاح جاهين مشاعرهما ونقدهما لما سبق، وهو ما قاد الى الهزيمة 1967، وما زلنا متذكرين لمشهد النهاية الذي تلا المشهد الدموي، حين يودع الأب، الذي أدى دوره باقتدار عال المرحوم محمود المليجي، تفيدة وإبراهيم، الذاهبين لمواصلة التعليم، في رمزية بليغة تحمل الأمل، وأن على الجيل الجديد، البدء من جديد، للبقاء وتحقيق الأحلام، وتلك فرصته وفرصة الشعوب.
بالرغم من شهرة أغاني الفيلم بصوت "ماجدة الرومي"، التي صارت نجمة من نجمات الأغنية العربية، وبالرغم من ترديدنا للأغاني التي ألفها صلاح جاهين: الشارع لنا، ساعات أقوم الصبح وغيرها، إلا أن الفيلم نفسه لم يتم عرضه سوى مرات محدودة، ولم يظهر على الشاشة الفضية إلا متأخرا، ربما قبل بضع سنوات فقط!
كلا الفيلمين، بالرغم من نقدهما الحاد للنظم السياسية، إلا أنهما منحا الأمل بالغد، من خلال الحب، سواء الذين كان بين ابن راجح وريما، أو بين إبراهيم وتفيدة.
- الحب؟
- .......
هو الدافع لاكتشاف الذات والجماعة، وهو الدافع للعمل والإنتاج، ولعل حب الوطن بالذات مرتبط جدا بعاطفة الحب بين اثنين، وأشهر من ربط بينهما الشاعر محمود درويش.
كان ما كان ويكون، ودوما يعيد الزمن نفسه، بجائحة أو حرب، أو تسلط، ويظل (المرض والجهل والفقر) كما قيل أكبر أعداء المجتمع.
في هذه الجائحة-كورونا، والجائحة المعنوية النفسية والثقافية والاقتصادية والسياسية المرتبطة بها، نرى أنفسنا نلوذ بالأدب والفن، لنقوى بهما، في عمق الشعور والتفكير معا. وسيكون بالتالي إعادة اعتبار الفرد لنفسه، وأسرته، ولأدوات الإنتاج، من زراعة، وصناعة، وتعليم، وصحة.
هل من زرقاء الكون وليس فقط لليمامة؟
يروى أنه في إحدى الحروب، استتر العدو بفروع الأشجار وحملوها أمامهم، فرأت زرقاء اليمامة ذلك، وهي التي كانت بمثابة الرادار لقوة بصرها، فأنذرت قومها فلم يصدقوها، فلما وصل الأعداء إلى قومها أبادوهم وهدموا بنيانهم.
وسواء كانت الرؤية البصرية أو القلبية، فإننا سنتفق مع من رأى أن ميزتها الأساسية لم تكن قوة البصر، بل البصيرة، وسيزيد ذلك اليوم، في ظل تكنولوجيا المعلومات.
لذلك، وفي ظل انتظار ما ستأتي به زرقاء اليمامة، فإننا مدعوون ومدعوات لتقوية بقائنا على هذه الأرض، أرضنا، بكل ما تعني به الأرض من دلالات، بدءا بالأرض موطن الزرع، وانتهاء بأرض المعرفة.
وفي ظل تمسكنا بحماية أنفسنا من المرض، من العدوى، علينا أن نحمي أنفسنا من أمراض أخرى هي أشد فتكا بوجودنا، وهي كل ما يتعلق بالاحتلال والاستلاب والغزو والاستبداد.
ولا ننسى أولا وأخيرا، سلاح الحب الأمضى في محاربة المرض والشر، والفقر والجهل والقبح والادعاء والتكلف وتوظيف الحوادث للخلاص الفردي الشخصي.
رحم الله من رحلوا بالكورنا، وبغيرها.. وشفى المصابين في كل مكان..
ومن بغيرها أكثر بكثير، ناهيك عن الموت خوفا، أو الخوف حين يصير منهاج حياة..
فرق بين الحذر، وتجنب المرض والخوف..
وفي ظل انتظار ما ستأتي به زرقاء اليمامة، في الأدب والفكر والفن، حول ما يمكن أن يكون، ستظل الشعوب هي الضمانة، للبقاء..
- والحب؟
- ومن غيره وهو السبيل للبقاء؟
- و؟
- ورحم الله يوسف شاهين، ومنح الباقين الصحة والسرور..
- و؟
- تلك قصّة ضيعة؛ "لا القصّة صحيحة ولا الضيعة موجودة، بس بليلة هوّي وضجران، خرطش إنسان عَ ورقة، وصارت القصة وعمْرت الضيعة!"
وهكذا نلوذ بالأدب والفن، وسنظل كذلك، أيام الحرب وأيام السلم، نلوذ بهما، ونستلهم منهما روح العمل والإنتاج والحماية، ليتعمق نظرنا دوما لدورنا في إعمار بلادنا والكون..
وتلك هي وظيفة الأدب والفن..
تحسين يقين
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت