قبل أكثر من 100 عام، اغتيل الأرشيدوق فرانز فرديناند وريث عرش الإمبراطورية النمساوية- المجرية في سراييفو. واستجابت القوى العظمى بسلسلة من القرارات نمت عن سوء إدارة جيوسياسية، مما أدى إلى الحرب العالمية الأولى.
إن العالم اليوم يوجد بالفعل في عمق "حرب" عالمية. وعلى الرغم من أن العدو هذه المرة هو فيروس غير مرئي ولم يعرف من قبل، إلا أن شبح الألعاب الجيوسياسية الخطرة لا يزال يحلق عاليا، ويخاطر بجعل "الحرب" أكثر فتكا.
بالنسبة إلى الصين، الدولة التي تدرك جيدا ويلات فيروس كورونا الجديد، فإن مساعدة المحتاجين هي استجابة طبيعية بسيطة تنبع من الطبيعة البشرية.
لكن بعض السياسيين والنقاد الغربيين لا يرون الأمر بهذه الطريقة. في روايتهم الجيوسياسية، تحاول الصين أن تدق إسفينا بين العواصم الأوروبية الكبرى وواشنطن بالأقنعة وأجهزة التنفس الصناعي، وتقوض ما يسمى بالنظام العالمي الليبرالي، وتمهد طريقها للهيمنة العالمية في عالم ما بعد الوباء.
لقد وصل العالم بالفعل إلى عتبة تغيير كبير، لكن أصحاب العقليات صفرية المحصلة في الغرب بحاجة إلى إعادة النظر في طريقتهم في النظر إلى هذا المجتمع العالمي المنكوب بالفيروس والسريع التغير. وهناك صور نمطية عديدة للعقليات التي يتعين رفضها.
أولا، التركيز على الغرب. الحقيقة هي أن مركز القوة العالمي، الذي شهد تحولات مستمرة، لم يبدأ الانتقال إلى الغرب إلا بعد الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر.
وفي العقود الأخيرة، مع الصعود الجماعي للدول النامية واقتصادات الأسواق الناشئة، شهدت السياسات العالمية تغيرات جديدة. وقد علق هنري كيسنغر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق وخبير الجغرافيا السياسية الكبير، قائلا: "نحن نعيش في بيئة دولية جديدة، عالم متعدد من مراكز القوى".
ثانيا، طبيعة العلاقات الدولية بأنها لعبة صفرية المحصلة يكون فيها ربح طرف على حساب خسارة الآخر. فقد عفا الزمن بالفعل على هذه العقلية حيث أصبحت الدول في جميع أنحاء العالم مرتبطة بشكل كبير ومترابطة بشكل متزايد.
وتقدم المعركة المستمرة ضد جائحة كوفيد-19 دليلا آخر غير قابل للجدل على أن أفضل طريقة للحفاظ على مصالح بلد ما في عصر العولمة هذا هي حماية المصالح المشتركة للبشرية.
ثالثا، الانقسامات الأيديولوجية لا يمكن تجاوزها. الحقيقة هي أنه في ظل الحاجة إلى السعي وراء المصالح المشتركة، لا توجد فجوة واسعة جدا لا يمكن تجاوزها.
هذا هو الحال عندما قررت الصين والولايات المتحدة تطبيع علاقاتهما الثنائية خلال الحرب الباردة، وعندما اجتمع ممثلو ما يقرب من 200 دولة ذات معتقدات أيديولوجية مختلفة في باريس في عام 2015 ووقعوا على اتفاق مناخي لخفض انبعاثات غازات الدفيئة وتخفيف حدة أثر تغير المناخ.
وبالنسبة إلى هؤلاء المتعصبين ضد الصين وغيرهم، فإن الوباء الذي ما زال مستعرا يمثل فرصة لهم للتعرف على أوجه القصور في النظام العالمي الحالي والتقاط موجة المستقبل.
هناك شاغل رئيسي يتمثل في العيوب المتزايدة في الحوكمة العالمية، فوسط جائحة كوفيد-19، لم تفشل الولايات المتحدة حتى الآن في تحمل مسؤوليتها الواجبة لحشد أو دعم حملة عالمية منسقة ضد هذا التهديد المشترك فحسب، بل حاولت أيضا تقويض جهود الآخرين عن طريق تسييس الوباء والتهديد بقطع التمويل عن منظمة الصحة العالمية.
إن مثل هذا السلوك بعيد كل البعد عما يتوقعه العالم من قوته العظمى الوحيدة في هذه اللحظة الصعبة في وقت تشتد فيه الحاجة إلى التضامن والتعاون العالمي للتعامل مع ما يسميها الكثيرون "الأزمة الأكثر تحديا" منذ الحرب العالمية الثانية.
هذا ليس حديثا مثيرا للهلع. فقد حذر الحائز على جائزة نوبل وعالم الأحياء جوشوا ليدربيرغ ذات مرة من أن "الفيروس هو أكبر تهديد لاستمرار هيمنة الإنسان على هذا الكوكب".
مع ذلك، الأمراض المعدية ليست التحديات الرئيسية الوحيدة التي تواجه الجنس البشري، فقضايا تغير المناخ والإرهاب والجريمة المنظمة عبر الوطنية، وغيرها، تتطلب تنسيقا عالميا أقوى ونظام حوكمة عالمي أكثر فعالية.
وكما قال الرئيس الصيني شي جين بينغ في برازيليا العام الماضي في قمة بريكس، كتلة الأسواق الناشئة التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، إن الشؤون الدولية ينبغي أن تعالج من خلال مشاورات مكثفة بدلا من أن تقررها دولة واحدة أو دول قليلة.
ولهذا السبب تدعو بكين إلى عالم أكثر ديمقراطية ومتعدد الأقطاب يرتكز على نظام دولي أكثر عدلا وإنصافا.
صحيح أن العالم بعد الوباء لن يكون هو نفسه أبدا، لكن يجب على الدول في جميع أنحاء العالم أن تتحد لجعل هذا التحول منعطفا باتجاه الأفضل. ويبدو التخلي عن الألعاب الجيوسياسية من بين الأمور التي يجب القيام بها.