*مجتمعنا اليوم هو مجتمع "ما بعد الرأسمالية" يحتل فيه "المجتمع المدني" مكانا حاسما *

رؤية فلسفية: ازمة اليسار هي ازمة استيعاب التحولات العميقة بعالمنا المعاصر

بقلم: نبيل عودة

نبيل عودة

عالمنا يشهد تحولات عاصفة، بعضها لم يبرز بعد بكل قوته ودوره، ويؤسفني ان أقول ان بعض الذين يطرحون أنفسهم كماركسيين هم أقرب للسلفية الدينية في مستوى فهمهم للماركسية. بعضهم متمسكون بأفكار لم يعد هناك ما يربطها بالواقع الذي بدأ يتبلور في العقود الأخيرة وخاصة منذ بداية الألفية الجديدة. ورأيي ان المشكلة ليست بالنظرية الفلسفية والاقتصادية لماركس بل بأسلوب تطبيقها الذي افرغها من مضمونها ولم يسمح بتطويرها. من هنا رؤيتي ان الواقع الراهن لليسار عامة يبرز عجزه عن نقد تجربته وإقرار مسار جديد، وهذا يبرز بقوة في واقع الأحزاب الشيوعية التي لا تزال عاجزة عن إعادة صياغة مشروعها السياسي في الظروف التاريخية الجديدة التي أعقبت انهيار التجربة الاشتراكية. ما يجري هو تفكك تنظيماتها وفقدانها قوتها السياسية.

نجد الكثير من الطحن والقليل من الفعل. حتى تعبير يسار باتت ضرورة لمراجعة الفكرة وتطويرها، لأنه يبدو ان التطور الذي نفذ وانجز بإطار النظام الرأسمالي لم ينفذ ويتطور بنفس النجاح بإطار النظام الاشتراكي. الثروة التي انتجتها الرأسمالية تفوقت بأضعاف كثيرة عما انتجه النظام الاشتراكي. حصة الفرد في النظام الاشتراكي من الناتج القومي الإجمالي كانت بحدود 20% من مثيلتها في العالم الرأسمالي. لذا التوزيعة الاجتماعية للثروة تجاوزت النظام الاشتراكي. والنظام الرأسمالي هزم النظام الاشتراكي بالمنافسة الاقتصادية.

لا اتحدث عن التطبيق الديموقراطي. حيث تمتع مواطني الأنظمة الرأسمالية بحرية لا تقارن مع ما ساد النظام الاشتراكي من نفي (الغولاغ السيبيري مثلا حيث نفي مئات الألوف بتهم تافهة او كاذبة، وحتى اليوم لم يفتح هذا الملف الرهيب) وممارسة سياسيات القمع والابادة للملايين بحجج واهية وبلا رقابة وبمحاكمات شكلية. طبعا هذا لا ينفي ان المجتمع الاشتراكي قدم خدمات لم يكن شبيه مجاني لها في النظام الرأسمالي. لكن بالتلخيص الأخير لم يرقى المجتمع الاشتراكي بمستوى الرفاه والحريات الشخصية والخدمات الى مستوى ما كانت عليه الحريات الشخصية والخدمات ومستوى الحياة بالنظام الرأسمالي.

ان رؤيتي لضرورة تطوير الماركسية، وتطوير التجربة، لا اقصد منها رفض فلسفة ماركس، لكن لا يمكن البقاء داخل رؤية لم يعد هناك ما يربطها بالتحولات العاصفة التي يشهدها عالمنا.

مأساة الشيوعية واليسار عامة، في الشرق الأوسط خاصة، وفي أوروبا ومختلف انحاء عالمنا، انها منذ انهيار التجربة الاشتراكية، انهاروا تنظيميا وفكريا وقيادات. هناك مفكرون ماركسيون من المستوى الأول، يقولون بوضوح انه حتى قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، بدأت الحركة الشيوعية تغوص رويدا رويدا في مستنقع الجمود والتكرار والاجترار وتكفير الفلسفة والفلاسفة الذين أطلقوا عليهم تسمية الفلسفة والفلاسفة البرجوازييين، بحجة ان فلسفة ماركس ألغت ما قبلها ولم تنجح أي فلسفة بتجاوز الماركسية، تماما مثل الفكر الديني السلفي، ورثوا نهجا وعادات من واقع لم يعد قائما، لكنهم يصرون ان يعيدوا عالمنا للخلف عشرات السنين.انا شخصيا أرى بالفلسفة تراثا شاملا رغم تناقضاتها، ولولا تناقضاتها لفقدت قيمتها كثقافة تنويرية. ان التقسيم الطبقي للثقافة والفلسفة خاصة اثبت انه يفتقد للمنطق العقلي البسيط.

لا بد ان انوه لمسألة هامة قليلا ما نتناولها في مراجعاتنا للفكر الماركسي حسب النهج السوفييتي الذي ساد كل الحركة الشيوعية. الماركسية عرفت بتيارين مركزيين. وبالتالي الكثيرين من دارسي الماركسية في فترة الاتحاد السوفييتي الذهبية، وجدوا أنفسهم في مواجهة صدامية بين جبهتين نظريتين. ويمكن الاشارة ان ما يعرف ب "الشيوعية الأوروبية" (الشيوعية الحرة) كانت نتاج ذلك الصراع الفكري.

تشكلت جبهة الشيوعية الحرة من مفكرين ماركسيين رفضوا فكر السيادة المطلقة للدولة السوفييتية، وانطلقوا بنضال عنيد من أجل "ماركسية صحيحة" ثورية إنسانية، ضد التشويهات التي شهدتها الماركسية في الشرق والغرب. وبرز خلال سنوات العديد من المفكرين الماركسيين من خارج النهج السوفييتي، أمثال جيورغ لوكاتش (هنغاري) وكارل كورش (ألماني) وانطونيو غرامشي (ايطالي) وارنست بلوخ ( ألماني) وروجي غاروديه (فرنسي) وغيرهم.

السؤال الضروري متى يفهم قادة الحركات الشيوعية، واليسار الوطني عامة، الحقيقة البسيطة اننا في عصر العولمة لم يعد من الممكن طرح مواقف وأفكار بعقلية القرن التاسع عشر دون فهم ان بعض الأطروحات تجاوزتها مجتمعاتنا وعفي عنها الزمن، او لم تثبت صحتها او تنتشر خارج أوروبا مثلا (موضوع البروليتاريا كنموذج؟). لو فتحوا كتابا واحدا في الفلسفة أو الفكر الحديث (حتى ما يطلقون عليه صفة فلسفة برجوازية واقتصاد رأسمالي) هل كانوا يواصلون العيش بالوهم الذي يسيطر على تفكيرهم اليوم؟ مضحك ومؤسف انه من شدة انغماسهم في غياهب الوهم الذي كان، ما زالوا يتمسكون بأوهام انه يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. يمكن القول أضحوا ماركسيين سلفيين لا يفقهون مبنى النظرية الماركسية ولا التحولات الثورية التي تجري في النظام الرأسمالي وتساهم بتغيير نهجه المبني على سلطة واقتصاد. الى نهج تسوده قوة اجتماعية سياسية وإدارية وعلمية هائلة هي قوة المجتمع المدني!!

هناك عدة نقاط يجب ان تؤخذ بالحساب:

1 - ان عصر العولمة بسلبياته وايجابياته واقع تاريخي غير مسبوق يفرض على الجميع أن يتعاملوا معه بوعي كامل.

2 -  مهمة التغيير في العالم لم تعد مهمة الطبقة العاملة وأحزابها.. التغيرات العاصفة أفقدتها دورها كطبقة ستقود التغيير الاجتماعي والسياسي محليا وعالميا. لكنها طبقة لها دورها الهام إلى جانب أوساط وفئات اجتماعية واسعة جدا. وأنها كطبقة جرى ويجري تغيير وتطوير حاسم بتركيبتها ومكانتها الاجتماعية والسياسية والادارية بمجتمعاتها، وتجري تحالفات واسعة وجديدة ليست على أساس طبقي فقط.

 3-نحن امام تحولات عميقة في مبنى النظام الرأسمالي، انا اسميه "نظام ما بعد الرأسمالية"، الرأسمالية قامت على قاعدتين مركزيتين، السلطة والاقتصاد. اليوم فقط الأعمى لا يرى التطور في مبنى المجتمع الرأسمالي. هناك قوة جديدة نشأت نتيجة لتطور الطبقة العاملة وتغيير مضمونها الجوهري، الاقتصادي، الاجتماعي، العلمي، الوظيفي والسياسي، وأعني تطور "مجتمع مدني" من شبكة واسعة على أسس فكرية وسياسية متحررة من المفاهيم القديمة. باتت تشكل ضلعا ثالثا في مبنى النظام الرأسمالي. بحيث أصبح دورها في النظام الرأسمالي الجديد، او ما بعد الرأسمالية الكلاسيكية يتشكل من ثلاث قواعد (1-سلطة 2-اقتصاد 3-مجتمع مدني). يشكل المجتمع المدني قوة لا يمكن تجاهلها وتجاهل وزنها الحاسم سياسيا واجتماعيا، في إطار النظام الرأسمالي، في إدارة الاقتصاد والمجتمع والسياسة وكل المؤسسات الرسمية وليس فقط استعمال المنجل والشاكوش.  وملاحظة هامة تطور المجتمعات المدنية في العالم قاد الى تصفية مكانة الأحزاب السياسية واضمحلالها، هي تنظيمات تطورت بالقرن التاسع عشر بواقع سياسي واقتصادي واجتماعي وفكري وتنظيمي وسلطوي يختلف تماما عن واقع المجتمعات البشرية اليوم.  وهذا التفكك نراه أكثر بروزا في الأحزاب الشيوعية وطبعا سائر الأحزاب تأثرت وبدأت تفقد تأثيرها السابق لذا نراها تنتقل الى شكل من اشكال تجمعات لمجتمع مدني، وليس تنظيمات ذات أيديولوجيا منغلقة على قديمها: أي نظام مبني على "سلطة واقتصاد" كما في الرأسمالية الكلاسيكية، لذا لا مفر امام التنظيمات الحزبية جميعها من رؤية تنامي القوة الهائلة للمجتمع المدني وبدء احتلاله لكل اشكال الإدارة والتأثير السياسي والوعي الاجتماعي والوظيفي على قاعدة مجتمع مدني مشارك بالثروة الاجتماعية ومقرر بتوزيعتها وليس على قاعدة أيديولوجيا رأسمالية صرف: سلطة واقتصاد. من هنا أطلقت تسمية "نظام ما بعد الرأسمالية". ولعل أحد الاقتصاديين يجد التسمية الأنسب.

لا أرى اليوم ان الأحزاب الشيوعية العربية وغير العربية تقوم بدور سياسي أو اجتماعي مهم، لا يمكن إنكار انها تعتمد فكرا ثوريا عاما بمضمونه (الفكر الماركسي) وتجربة كبيرة، لكن هناك تحولات غيرت طابعنا الاجتماعي، كما بينت أعلاه، إذا لم تؤخذ بالحساب لن تنجح بالعودة إلى ساحة النضال كقوة مؤثرة.

حُلم رفاقي القدماء من مختلف الأحزاب العربية، الذين أتحدث معهم بصراحة هو أن تتمكن أحزابهم من استعادة دورها السياسي ومكانتها الاجتماعية التي تضاءلت شيئا فشيئا خلال العقدين الماضيين دون ان يثير ذلك الصحوة الضرورية المبكرة لدى قادة الاحزاب. فقدوا كل مواقعهم الهامة في مجتمعاتهم، انفضت عنهم حتى قواعد أحزابهم المقربة. هل فكروا في أسباب هذه الضربات؟

طرحوا بعض الشعارات، ليكن الله بعون الشعارات!!

 طبعا الجميع متهمون إلا هم. الحل قاب قوسين من انوفهم: التحول الى تنظيمات مجتمع مدني، والتخلص من فكر البروليتاريا الذي مللنا سماعه وسماع تخريفاتهم عنه.

كل ما يقومون به اليوم هو محاولة تهميش، ذم وإلصاق تهم بكل من ينتقد سلبياتهم، بينما هم في حالة تهميش بالغة الخطورة بنتائجها عليهم وعلى احزابهم وربما على مجتمعاتهم أيضا.

نبيل عودة

[email protected]

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت