نظام الرعاية الصحية الفلسطيني: هل يمكن زيادة تمويله ورفع جودة خدماته؟

بقلم: جهاد حرب

جهاد حرب

أصدر المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية الورقة رقم 2 للعام 2020 من سلسة أوراق سياساتية نقدية تحت عنوان :

نظام الرعاية الصحية الفلسطيني: هل يمكن زيادة تمويله ورفع جودة خدماته؟ 

 

جهاد حرب

مما لا شك فيه أن انتشار فيروس كورونا "كوفيد 19" أعاد الاهتمام بالجهاز الصحي الفلسطيني وبنيته وامكانياته وقدرته على الصمود أثناء الكوارث، وطبيعة نظام التأمين الصحي المعتمد والتكافل القائم عليه. إن تحسين جودة الخدمات الصحية هو هدف النظام الصحي الفلسطيني، لذا تحاول الحكومة تقديم خدمات صحية متنوعة في مؤسسات وزارة الصحة أو شراء الخدمة الصحية من خارجها من خلال "التحويلات الطبية" الداخلية والخارجية. وفي الوقت نفسه فإن الحصول على أفضل الخدمات هي غاية كل مواطن يحتاج إلى الطبابة. إن الوصول إلى هدف الحكومة ورغبة المواطن يحتاج إلى تطوير الموارد المالية المتاحة للنظام الصحي الفلسطيني سواء مساهمة الخزينة العامة أو الاشتراكات المنتظمة من قبل المواطنين التي تمنح الديمومة له وتحسن من الخدمات الصحية التي يقدمها وتنوعها.

إن نظام الرعاية الصحية في فلسطين على مفترق طرق في ظل تزايد الطلب على الخدمات الطبية من قبل المواطنين، واضطراد عدد المرضى المحولين إلى خارج نظام الصحة العامة أي إلى مزودي الخدمة سواء في فلسطين أو الدول المجاورة كالأردن ومصر وتركيا وإسرائيل. فقد ارتفع عدد التحويلات من 6052 تحويلة طبية عام 1996 إلى 109,818 تحويلة عام 2018.[1] وذلك ناجم عن عدة عوامل منها: عدم توفر الكثير من الخدمات الثالثية، "المستشفيات والعيادات التخصصية"، لدى وزارة الصحة، ووجود نقص كبير في موظفي الرعاية الصحية المؤهلين أو ضعف نسبة الاخصائيين المتاحين مقارنة بعدد المرضى، والتباين في توزيع موظفي الرعاية الصحية المؤهلين، وأن المهارات المختلفة لدى موظفو وزارة الصحة لا تلبي احتياجات الرعاية الصحية الحالية والمستقبلية، وأن العديد من المؤسسات الصحية تفتقر إلى المعدات والأجهزة والبنية التحتية لتقديم الخدمات عالية التخصص، ومحدودية أسرة المستشفيات المتاحة لتقديم خدمات الرعاية الصحية الثالثية، ونقص في الادوية الضرورية الذي يحدث بشكل غير متوقع مما يقوض تقديم الخدمات في القطاع العام.[2]      

تهدف هذه الورقة إلى تقديم توصيات للحكومة ومجموعة العمل القطاعية الصحية لتقوية نظام الرعاية الصحية في فلسطين، وضمان استدامته بتبني نظام تأمين وطني شامل يعزز مبدأ التكافل بين المواطنين الفلسطينيين، ويضمن المساواة والانصاف في تلقي الخدمات الصحية في إطار تحسين جودة خدمات الرعاية الصحية المقدمة للمواطنين واستعادة ثقة المواطنين بجهاز الخدمة الصحي.

 

الخدمات المقدمة من وزارة الصحة

تتولى وزارة الصحة وفقا لقانون الصحة العامة الفلسطيني رقم 20 لسنة 2004 ثلاثة مهام رئيسية؛ فهي الجهة الإشرافية على جهاز الخدمات الصحية في فلسطين والتي تضع السياسات الصحية، وهي الجسم المنظم للجهاز الصحي الذي يصدر التراخيص، وهي تقدم الخدمات الطبية عبر مؤسساتها؛ حيث تقدم الخدمات الصحية الوقائية والتشخيصية والعلاجية والتأهيلية، وتنفذ التأمين الصحي الحكومي.

 ركزت أجندة السياسات الوطنية في أولويتها التاسعة على رعاية صحية شاملة ذات جودة ومتاحة للجميع، وشملت هذه الأولوية على ضرورة توفير خدمات الرعاية الصحية الشاملة للجميع، من خلال مجموعة من التدخلات على رأسها إصلاح نظام التأمن الصحي العام.

 

} يتطلع كافة الشركاء في القطاع الصحي إلى نظام شامل متكامل يوفر الخدمات الصحية الأساسية لكافة الموطنين بجودة عالية، ويتضمن النظام الصحي المتكامل توفير الخدمات الصحية الشاملة عالية الجود، توفير الأدوية والعلاجات والتقنيات العلاجية والصحية، توفير الكفاءات البشرية الصحية، توفير البنية التحتية الملائمة، توفير المعلومات للمواطنين وأصحاب القرار، وتوفير التمويل اللازم لضمان استمرارية القطاع وتوفير القيادة الرشيدة للقطاع. إن النظام الصحي الشامل والمتكامل يهدف إلى تحصيل مبادئ المساءلة، والكفاءة، والجودة، والوصول إلى الخدمات والاستدامة، والانصاف. ويسهم في الاستجابة لحاجات المجتمع والمواطنين وتحسين وتعزيز وضعهم الصحي، وتوفير الحماية لهم من المنحى المالي.{ المصدر: الاستراتيجية الصحية الوطنية 2017-2022، ص 9.

 

تقوم "الاستراتيجية الصحية الوطنية 2017-2022" على سبعة مبادئ منها: حصول المواطنين على الخدمات الصحية دون عوائق أو تمييز، وضمان استدامة النظام الصحي الفلسطيني بما فيه الخدمات والموارد البشرية والتمويل، والالتزام الوطني بالعمل نحو التغطية الصحية الشاملة، وتقديم خدمات صحية آمنة ذات جودة عالية. يحدد نظام التأمين الصحي والعلاج خارج الوزارة رقم (11) لسنة 2006 آليات الاستفادة من سلة الخدمات الصحية التي تقدمها أو توفرها وزارة الصحة سواء داخل المراكز الصحية التابعة لوزارة الصحة أو خارجها. على الرغم من وجود نصوص واضحة في نظام التأمين الصحي تحدد طبيعة حزمة الخدمات المتاحة وتختلف بين نوع وآخر من التأمين الا أن التطبيق وسريان مفعول التأمين لطالما تم تجاوزهما عبر الاستثناء. كما تؤمن وزارة الصحة الفلسطينية، في حال عدم توفر الرعاية الصحية اللازمة للمريض في مرافقها الصحية، إمكانية التحويل إلى مؤسسات صحية خارج مؤسساتها متعاقدة معها الوزارة باتفاقيات مسبقة.

لكن هذه الخدمات الصحية لا تحظى برضا واسع من الجمهور الفلسطيني، فقد أشارت نتائج استطلاع الدورة الخامسة من "الباروميتر العربي" الذي تم اجراؤه عام 2019 إلى أن 48% من المواطنين غير راضين عن نظام الرعاية الصحية في البلاد.[3]

 

إشكالية تمويل الإنفاق على قطاع الصحة

يشير تقرير الحسابات الصحية الفلسطينية للعام 2017 إلى أن مجموع النفقات الجارية على الصحة بلغت 1,466.7 مليون دولار. كما تظهر البيانات أنه من بين وكلاء التمويل، والتي تعرف بأنها الوحدات المؤسسية التي تقوم بإدارة المشاريع الصحية من خلال جمع العائدات وشراء الخدمات والسلع، فإن الحكومة المركزية شكلت أعلى نسبة مساهمة في العام 2017، حيث بلغت 42.4%، وبلغ تمويل قطاع الأسر المعيشية 41.8%، في حين بلغ تمويل المؤسسات غير الهادفة للربح وتخدم الأسر المعيشية 12.4%. أما ما تم تمويله من قبل شركات التأمين الخاصة فقد بلغ 3.4% فقط.[4]

يُظهر ارتفاع النفقات الصحية الشخصية، أو "الاسر المعيشية"، عدم توفر الحماية لدى المواطن الفلسطيني ضد الصدمات المالية الناجمة عن التطورات في الأوضاع الصحية، وأن الفئات الفقيرة بشكل خاص هي الأكثر تضررا حيث أن النفقات الصحية الشخصية تستهلك الجزء الأكبر من مجموع الدخل، حيث تمثل النفقات الصحية الشخصية على أدوية الامراض المزمنة وعلى الرعاية الصحية الثالثية في العيادات الخارجية أهم النفقات الشخصية.[5] 

إن ارتفاع تكاليف الحصول على خدمات صحية للأسر والافراد يعيق إمكانية حصول المواطنين عليها. كما أن زيادة النفقات الحكومية على الخدمات الصحية دون وجود نظام تأمين صحي إلزامي وتكافلي يضمن ديمومة الإيرادات لهذا الجهاز سيزيد من عجز الخزينة العامة في ظل محدودية أو سوء توزيع الموارد المالية للحكومة الفلسطينية.    

في المقابل فإن نسبة إيرادات وزارة الصحة (المساهمات المتأتية من رسوم وأقساط التأمين الصحي باختلاف انواعه، (التي تبلغ 238.6 مليون شيكل) والمساهمة في ثمن الدواء و/ أو صور الاشعة و/ أو الفحوص المخبرية (التي تبلغ 58.6 مليون شيكل)) تشكل حوالي 17% من إنفاق وزارة الصحة الفلسطينية (أو 297 مليون شيكل من اجمالي 1,767 مليون شيكل مجمل نفقات وزارة الصحة في العام 2018). في المقابل ارتفعت مساهمات المواطنين (المساهمة في ثمن الدواء و/ أو صور الاشعة و/أو الفحوص المخبرية) من حوالي 24 مليون شيكل عام 2014 إلى 58 مليون شيكل في العام 2018، ويعزى ذلك لرفع الوزارة أسعار الخدمات (أي مساهمات المواطنين) التي تقدمها في مؤسساتها. تشير بيانات وزارة الصحة الفلسطينية للعام 2018 أن تكلفة شراء الخدمة من خارج مؤسساتها بلغت حوالي 725 مليون شيكل، أو ما يشكل 41% من مجمل انفاقها لنفس العام وهي النسبة الثانية بعد رواتب العاملين في الوزارة.

إن الفجوة بين قيمة الإيرادات المتأتية لوزارة الصحة من رسوم ومساهمات وبين متطلبات الانفاق الصحي تؤثر على قدرات وزارة الصحة وعلى مستوى الخدمات المقدمة للمؤمنين ونوعيتها. كما أن أغلبية المواطنين غير مشتركين في التأمين الصحي الحالي، أي "التأمين الصحي غير الالزامي"، حيث يشير التقرير السنوي لوزارة الصحة للعام 2018 أن حوالي 309 آلاف أسرة فقط مؤمنة في الضفة الغربية (منها حوالي 86 ألف أسرة تدفع الحكومة مساهماتها) من مجمل 594 ألف أسرة يعيشون في الضفة الغربية وفقا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني للعام 2017، فيما تم اعفاء المواطنين في قطاع غزة (335 ألف أسرة) من دفع رسوم التأمين الصحي، باستثناء الموظفين الحكوميين الذي يتلقون رواتبهم من الحكومة في الضفة الغربية، ويحصلون على الخدمات الصحية مجانا. وبالرغم من الدعم الدولي لتوفير شبكة أمان وحماية كافية في هذا القطاع الا أن الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية التي تلت اندلاع الانتفاضة الثانية وعدد من السياسات التي تم اتخاذها لحماية وتخفيف أعباء المرض على المواطن الفلسطيني في حينه قد استمرت في التأثير سلبا على قدرة القطاع الصحي على التعافي وتوفير الإمكانيات وجذب التمويل الكافي. لا شك أن الاستمرار في تنفيذ هذه السياسات (والتي تتصف بالحساسية السياسة المفرطة، كونها تتعلق بفئات اجتماعية وسكانية معينة ولكونها قد فتحت باب الانخراط المجاني لنظام التأمين الصحي لقطاعات واسعة من المتضررين والعاطلين عن العمل والحالات الاجتماعية بالإضافة الى المواطنين في غزة) سوف تطرح أسئلة جدية حول استدامة إنفاق وزارة الصحة وسبل تمويل نظام التأمين الصحي الحكومي.

أدت هذه الفجوة إلى اضطرار وزارة الصحة للاعتماد على شراء خدمات طبية من خارج القطاع الرسمي الامر الذي يثقل كاهل وزارة الصحة والخزينة العامة ويبقي نظام التأمين الصحي غير قادر على توفير الديمومة لنظام الرعاية الصحية حيث بلغ الدين المتراكم على الوزارة للمستشفيات التي تشترى منها الخدمة (التحويلات الطبية) ولشركات الأدوية حوالي 1.5 مليار شيكل في نهاية عام 2019،[6] ما يفرض تدخلاً سريعاً لإقرار نظام صحي وطني شامل يساهم فيه الجميع اضافة لما توفره الخزينة العامة.

 

الخيارات المتاحة أمام تمويل التأمين الصحي

إن تحقيق الغايات المحددة في أجندة السياسات الوطنية 2017-2022، والأهداف المرسومة في "الاستراتيجية الصحية 2017-2022" تكمن في نظام تأمين صحي إلزامي "شامل" تكافلي يشارك فيه جميع المواطنين، ويوسع الخدمات الصحية، ويحسن جودتها، ويخفف تكاليف الرعاية الصحية للأفراد. لتحقيق ذلك، أمامنا أربعة خيارات.

 

 

الخيار الأول: الإبقاء على نظام التأمين الحكومي غير الإلزامي

يتمثل هذا الخيار بالإبقاء على نظام التأمين الحكومي القائم غير الإلزامي إلا على فئة محددة، وهم موظفو القطاع العام. إن أحد اهم ميزات هذا النظام هو الدخول السهل للمواطنين الفلسطينيين للخدمات الصحية المقدمة من قبل وزارة الصحية مباشرة مع دفع قيمة الاشتراك السنوي لغير الموظفين الحكوميين، كما أن خدمات وزارة الصحة تغطي الرعاية الأولية بما فيها التطعيمات ومكافحة الأوبئة والامراض السارية بالإضافة إلى أمراض الأورام "السرطان" وغسيل الكلى. في المقابل، هناك ضعف في الخدمات التخصصية في المستشفيات، وعدم كفاية الأسِرة فيها مما يؤدي لشراء الخدمة بتحويل المرضى لمستشفيات القطاع الخاص والأهلي أو دول أخرى. وفي نفس الوقت، لا يوفر التأمين الصحي الحكومي إيرادات كافية لتغطية النفقات الصحية الامر الذي يشكل عبءً على الخزينة العامة يؤدي إلى عدم ديمومة نظام الرعاية الصحية ويضعف من جودة الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين المشتركين في هذا التأمين.  

  

الخيار الثاني: تبني نظام التأمين الحكومي الإلزامي

يعتمد هذا النظام على قيام الحكومة بتغطية تكاليف الخدمات الصحية من خلال الضرائب، وتقديم الخدمات من خلال المرافق الصحية الحكومية من عيادات ومستشفيات، أو تقوم الحكومة بشراء الخدمات التي لا تتوفر في مرافقها من مؤسسات القطاع الخاص الصحية. هذا النوع من التأمين يلزم جميع المكلفين "كل من يخضع دخله لضريبة الدخل" بالانضمام للتأمين الصحي، وتكون الدولة قادرة على تحصيل الإيرادات من المصدر، أي من رواتب المكلفين وفقا لنسبة أو مبلغ محدد من رواتبهم، كما هو الحال في ضريبة الدخل. يعزز هذا النوع من التأمين التكافل الاجتماعي في تغطية تكاليف الخدمات الصحية، وتتحمل الحكومة "الخزينة" مسؤولية توفير جميع الخدمات أو ما ينقص من إيرادات مالية لتقديم الخدمة الصحية. هذا النوع من التأمين جرى نقاشة في العام 2009 من خلال مشروع قانون التأمين الصحي الذي طرحته الحكومة آنذاك.

تنص المادة (27) من مشروع قانون التأمين الصحي المقترح على أن "الاشتراك بنظام التأمين الصحي إجباري لكافة المواطنين المكلفين وفقاً لأحكام هذا القانون، ولكل مواطن الحق في الانتفاع من خدمات التأمين الصحي الوطني سواء أكان مشتركاً أو منتفعاً وتحدد آلية الاشتراك، ومن هو المنتفع بنظام يصدر بموجب أحكام هذا القانون".

في المقابل فإن مثل هذا النوع من التأمين الصحي الالزامي يواجه صعوبات تتعلق بالأوضاع الاقتصادية للفلسطينيين حيث يبلغ حجم البطالة، وفقا لجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 25% وتفاوت واسع في ذلك بين الضفة الغربية وقطاع غزة (13% و43% على التوالي)، وأن عدد كبير من العمال غير مسجلين في سوق العمل الرسمي كالعمل في إسرائيل وعمال المياومة، بالإضافة إلى ضعف شديد في قدرة الحكومة على حصر المكلفين لضريبة الدخل. كما يحتاج إلى توفير شبكة الخدمات الاجتماعية "الضمان الاجتماعي" كإطار مساند للخدمات الاجتماعية ومساعد لحصر المكلفين ودخولهم. يضاف إلى ذلك معارضة أطراف متعددة لأسباب مختلفة مثل تخوف البعض من رفع وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين يدها عن تقديم الخدمات الصحية للاجئين في حال جرى تبني نظام التأمين الالزامي، والتعقيدات التي اثارها سكان القدس خاصة العاملين منهم في الضفة الغربية والذين لديهم تأمين اسرائيلي، ومعارضة القطاع الخاص الطبي. كما ازداد الامر تعقيدا باتخاذ قرار بإعفاء سكان قطاع غزة من دفع الضرائب والرسوم وفقا لقرار رئاسي عام 2007 لأسباب سياسية. أضف لذلك احتجاج نقابات العمال بسبب رسوم التأمين. كذلك أبدت شركات التأمين تخوفها من هيمنة الحكومة على قطاع التأمين الصحي، ناهيك عن عدم وجود رغبة لدى المستوى السياسي في الدخول في خضم النقاش حول مسألة الزامية التأمين الصحي الوطني.[7]

 

 

 

 الخيار الثالث: التأمين الصحي الاجتماعي

يعتمد هذا النوع من التأمين على تجميع مساهمات الرعاية الصحية من جميع العاملين، سواء أكانوا موظفين حكوميين أو يعملون في القطاع الخاص أو الأهلي، في صندوق أو صناديق. يقوم النظام على دفع المواطنين إلى أحد صناديق التأمين الصحي، والتي قد تكون حكومية أو مؤسسة خاصة كشركات التأمين. ولا يمكن تحقيق التغطية الشاملة عن طريق هذا النظام التمويلي إلاّ إذا قام كل السكان بدفع ما عليهم من مساهمات بشكل إلزامي، وفق تحديدٍ لحجم المساهمات، ووفق القدرة الفردية على الدفع. تقوم الحكومة في هذا النظام بدفع مساهمات الأشخاص غير القادرين على سداد مساهماتهم.[8]

يتمتع هذا النظام بمزية حرية الاختيار للمواطنين في شراء الخدمة الصحية، أي الاشتراك في أي من الصناديق، وكذلك فتح الخيارات أمام أنواع متعددة من الخدمات الصحية التكميلية وفقا للظروف الاقتصادية للأفراد. كما يساعد القطاع الخاص، وبخاصة شركات التأمين، على الاستثمار في القطاع الصحي. ويضمن مساهمة القطاع الحكومي في هذا التأمين من خلال تغطية الفقراء، ويضمن النظام مشاركة أرباب العمل في تغطية تكاليف التأمين بنسبة موازية لما يدفعها العاملين، ويقلل بالتالي من التكلفة الصحية على الأفراد.

لكن في المقابل يحتاج هذا النوع من التأمين الصحي إلى استقرار سياسي واقتصادي يقلل من المخاطر الاستثمارية بحيث يمكن شركات التأمين والقطاع الخاص من استثمار أموال كبيرة في قطاع الصحة وبنفس الوقت يحقق عوائد مالية للمستثمرين. كما أن قدرة الإلزام في هذا النظام ستبقى محدودة في ظل وجود نسب بطالة عالية، ومحدودية قدرة الحكومة على الإلزام ناجمة عن محدودية السيطرة الأمنية وفرض القانون في مناطق متعددة في الضفة الغربية، وغياب ثقافة دفع الاشتراكات في التأمين إلا عند الحاجة، بالإضافة إلى أن قطاع غزة خارج نطاق السيطرة للحكومة الفلسطينية.

 

الخيار الرابع: التأمين الصحي الشامل

يجمع هذا النظام بين نظام التأمين الحكومي الالزامي والتأمين الصحي الاجتماعي أعلاه، أي الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص. يقوم هذا النظام على أربعة ركائز: (1) عمومية التغطية من خلال نظام حكومي يغطي المخاطر والتعويضات؛ (2) حرية الاختيار للمريض؛ (3) التعاون بين القطاعين الحكومي والخاص فيما يتعلق بالمستشفيات وتمويل الخدمات الصحية؛ (4) وإدارة مستقلة لمؤسسة التأمين الصحي. يتيح هذا الخيار حرية الاختيار للمستفيد في الذهاب للمستشفيات والأطباء بأنواعهم وأطيافهم بدون حدود وبدون تحويل، على أن يدفع المريض التكلفة عند زيارته للعيادات التخصصية فيما يتم تعويضه من مؤسسة التأمين الصحي أو شركة التأمين حسب التأمين الخاضع له، بحيث يشارك المريض في التكلفة بنسبة محددة، وتقدم بعض الشركات (أهلية وخاصة) تأمين تكميلي بنسبة أخرى، فيما تدفع مؤسسة التأمين الصحي قيمة الأدوية. يمول التأمين الصحي الإلزامي حسب هذا الخيار من خلال مساهمة أرباب العمل والمساهمات الاجتماعية العامة والاقتطاع من الرواتب.[9]

يتمتع هذا النظام بمزايا عديدة منها وجود نظام صحي إلزامي وآخر تكميلي. كما يحافظ هذا التأمين على نظام الرعاية الصحية القائم ويوزع طبيعة الخدمات الصحية وتخصيصها، خاصة أن خدمات وزارة الصحة تغطي الرعاية الأولية بما فيها التطعيمات ومكافحة الأوبئة والامراض السارية، وتخصيص بعض العلاجات في مستشفياتها بشكل حصري مثل أمراض الكلى وغيرها. ويساعد القطاع الخاص، وبخاصة شركات التأمين القائمة، على الاستثمار في القطاع الصحي وزيادة تخصصه في مجالات معينة. ويضمن هذا النظام مساهمة القطاع الحكومي في تقديم الخدمات الصحية، ويبقى على خدمات وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين التي في أغلبها خدمات الرعاية الأولية وتوفير ادوية الأمراض المزمنة، ويضمن مشاركة أرباب العمل في تغطية تكاليف التأمين بنسبة موازية لما يدفعها العاملين، ويقلل من التكلفة الصحية على الأفراد، ويساعد على توفير موارد لنظام الرعاية الصحية في البلاد، كما يساعد على تحسين الحوكمة في قطاع الصحة بتوزيع عادل للمستشفيات وفقا لاحتياجات المناطق الجغرافية.

في المقابل، فإن هذا التأمين يحتاج إلى إرادة سياسية من قبل الحكومة بإصدار قانون التأمين الالزامي لجميع العاملين وتمويل جزء من نسب التمويل لتأمين الأسر سواء العاملين غير المسجلين او العاطلين عن العمل، وإعادة النظر في قرار إعفاء السكان في قطاع غزة من رسوم التأمين الصحي، والعمل على معالجة غياب ثقافة دفع الاشتراكات في التأمين الا عند الحاجة.

 

 

خلاصة:

إن خيار التأمين الصحي الشامل، كما جاء في الخيار الرابع أعلاه، يتيح شراكة بين مقدمي الخدمات الصحية الحالية، ويساهم في تطوير الخدمات الصحية وتخصصها بتوزيع الأعباء وفي تقليل التكلفة على الاسر المعيشية، ويتيح زيادة مشاركة القطاع الخاص في الانفاق الصحي، ويعمل على توفير العدالة بين المناطق الجغرافية. لكن هذا ليس كافيا لتقوية نظام الرعاية الصحية حيث أن هناك حاجة لخطوات إضافية:

أولا: تطوير برامج توعوية وتثقيفية، أي القيام بحملة تسويق، تساعد على اقناع فئات واسعة من المواطنين بأهمية الانضمام للتأمين الصحي الشامل ودعم فكرة التكافل في تحمل الاعباء.

ثانيا: اصدار قانون "التأمين الصحي" بشكل يحدد آليات وإجراءات العمل المؤسسية لهذا التأمين بفصل "مؤسسة التأمين الصحي" عن وزارة الصحة التي تقدم الخدمات الصحية باعتبارها أحد الممولين لنظام الرعاية الصحية.

ثالثا: ضمان استمرار شبكة الأمان ومنع انهيار قطاع الخدمات الصحية بحيث تولد معدلات المشاركة فائضا كافيا يتجاوز الحاجة إلى تمويل المنافع الطبية المتحققة وتغطية تكاليف الإدارة والالتزامات غير المتوقعة.

رابعا: الاهتمام بتحديد منافع وسلة الخدمات المتاحة للمؤمن مرتبطة بتحديد سقف المشاركة.

خاسا: ينبغي إعادة النظر في الخدمات الصحية ونوعها في المؤسسات الحكومية وفي الكادر الطبي الذي تحتاجه الوزارة والخدمات الطبية.

سادسا: الاتفاق مع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين على تحديد سلة الخدمات التي تقدمها للاجئين المنتفعين من خدماتها.

سابعا: تشجيع القطاع الخاص وشركات التأمين الخاصة على الاستثمار في قطاع التأمين الصحي وفي المؤسسات الصحية لتقديم خدماتها لمن يرغب في شراء خدمات تكميلية لا تقدمها مؤسسة التأمين الصحي.

 

 

[1] تقارير وزارة الصحة السنوية http://site.moh.ps/index/Books/BookType/2/Language/ar

[2] الخطة الشاملة لتنظيم التحويلات الطبية إلى مزودي الخدمة المعتمدين خارج القطاع العام المعتمدة بموجب القرار (06/ 120/ 17/ م.و/ ر.ح) لسنة 2016 الصادر بتاريخ 27/ 9/2016.

[3] انظر: موقع الباروميتر العربي /www.arabbarometer.org/ar/survey-data/data-analysis-tool/

[4] الجهاز المركزي للإحصاء، وزارة الصحة، تقرير الحسابات الصحية الفلسطينية 2017، رام الله،2019، ص 28.

http://www.pcbs.gov.ps/Downloads/book2428.pdf

[5] الخطة الشاملة لتنظيم التحويلات الطبية إلى مزودي الخدمة المعتمدين خارج القطاع العام المعتمدة بموجب القرار (06/ 120/ 17/ م.و/ ر.ح) لسنة 2016 الصادر بتاريخ 27/ 9/2016.

 

[7] انظر: جهاد حرب، بيئة النزاهة والشفافية والمساءلة في التحويلات للعلاج التخصصي خارج مؤسسات وزارة الصحة، رام الله: الائتلاف من اجل النزاهة والمساءلة، 2014، ص 5.

[8] انظر: فتحي أبو مغلي، نحو نظام تأمين صحي شامل، رام الله: الائتلاف من اجل النزاهة والمساءلة (أمان)، 2018، ص 18،

 

--

Jehad Harb
Researcher in governance & policy issues
المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت