ليست العزلة بأمر طارئ على غزة.
فقد عاش سكانها تحت قيود مشددة على حركة الأشخاص والبضائع لعقد ونصف العقد من الزمان، ما شلَّ اقتصادها وطالت آثاره جميع مناحي الحياة، فعزلت غزة عن أرجاء المعمورة. الجديد أنها الآن تعيش بين عزلتين، عزلتها المفروضة عليها، وعزلة إضافية حين انغلق العالم على نفسه، وأغلقت الدول حدودها في سباقها مع الزمن للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد.
وجد معظم السكان في قطاع غزة في شبكة الإنترنت، لا سيما وسائل التواصل الاجتماعي، جسرًا افتراضيًّا يحملهم للعالم الخارجي، ولكن هذا لم يبدد شعور الغالبية منهم بأن اقتصاد القطاع الذي يختنق ليس لديه سوى القليل مما يستطيع أن يقدمه للمستقبل. في العام الأخير فُتح معبر رفح الواصل بين غزة ومصر، مما سمح لأعداد محدودة من السكان بالسفر للعلاج أو الدراسة أو العمل في الخارج والعودة بعد انتهاء سبب السفر.
استقبل أهل غزة الأخبار عن جائحة كورونا بحس الفكاهة الممزوج بالمرارة، حين بدأوا بسماع مصطلح الحجر الصحي لأربعة عشر يومًا، تداول الكثير من رواد وسائل التواصل الاجتماعي المنشورات أو الرسائل النصية «أربعة عشر يومًا من الحجر الصحي؟ غزة نظيفة من الفيروس فقد عاشت أربعة عشر عامًا في حجرها الصحي المفروض عليها»، لم تدم هذه الفكاهة طويلًا عندما أعلنت السلطات الصحية في القطاع عن أول إصابتين بين القادمين من الخارج.
حدا انتشار الأخبار عن إصابتين بفيروس كورونا المستجد بين العائدين المقيمين في مراكز الحجر الصحي بالسكان إلى أن يأخذوا الإجراءات الوقائية التي وضعتها السلطات على محمل الجد. في حين أغلقت المدارس، والجامعات والمطاعم ودور العبادة، لوحظت حركة خفيفة للسيارات في شوارع غزة المزدحمة.
يدرك الجميع أن أي انتشار للفيروس في هذه البقعة التي تعد من بين أعلى الكثافات السكانية في العالم، سيكون كارثيًّا. فالنظام الصحي الهش والمنهك أصلًا بفعل القيود المفروضة، والخلافات الفلسطينية الداخلية ونقص الأدوية والمعدات، لن يكون قادرًا على الاستجابة للجائحة. هذا دعا السلطات في غزة إلى إحالة كل العائدين بمن فيهم من أنهى علاجه خارج القطاع، لأحد مراكز الحجر الصحي الثلاثين التي أعدت لإبقاء الأوضاع تحت السيطرة.
روان إحدى هذه الحالات التي عادت إلى القطاع بعد أن رزقت بتوائمها الثلاثة في أحد مستشفيات القدس، «واجهت متاعب صحية أثناء الشهر السادس من حملي الأول، وكنت من المحظوظين الذين يتمكنون من الوصول للرعاية الطبية المتقدمة غير المتوفرة في غزة، أشكر الله على نعمه. ما إن وصلت إلى غزة، حتى أخبروني أنني يجب أن أقضي فترة الحجر الصحي حتى 21 نيسان/ أبريل، لقد كانت رحلة مضنية وطويلة، غبت فيها شهرين عن المنزل، والآن سأقضي ثلاثة أسابيع في الحجر الصحي، أعرف أن هذا في صالحي وصالح أطفالي ولكنني أشتاق لعائلتي، لم تكتمل فرحتنا، أريد أن يراهم زوجي». وأضافت: «يتابع الطبيب والممرضون هنا حالة ابنتيَّ وابني وما زلت قلقة عليهم، أتوق ليوم عودتي للمنزل».
تشكل الرعاية اللازمة للمئات ممن يوجدون في مراكز الحجر التزامًا إضافيًّا، ليس فقط من الناحية الاقتصادية وتوفير مواد التعقيم والنظافة الشخصية، ولكن أيضًا توفير الرعاية الصحية للمرضى منهم في ظل نقص في الأدوية والمستهلكات الطبية. ويضع كل هذا الطواقم الطبية مرة أخرى في مواجهة أزمة جديدة بعد أن عملت على مدار العامين الماضيين بكامل طاقتها لعلاج جرحى المظاهرات.
دفع هذا باللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى تقديم مساعدة عاجلة، للسلطات تتمثل في 1000 فرشة و1500 بطانية، وما يكفي 1500 شخص من مستلزمات النظافة الشخصية. كما قدمت شحنة من المستهلكات الطبية ومعدات الحماية الشخصية و20,000 من الكمامات الجراحية لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني.
يمثل دعم النظام الصحي للاستعداد لأي تطور أولوية للجنة الدولية، ولكن الحاجات كبيرة وملحة، وفي ظل انتظار غزة لعودة المئات من العالقين في مصر في الأيام القادمة، والذين سيتم تحويلهم لمراكز الحجر الصحي، تبرز ضرورة بقاء النظام الصحي مستعدًّا.
يروي كل من يخرج من الحجر الصحي قصته للأهل والأصدقاء، ويتناول أهل غزة حكايات عزلة صغيرة، وكأنها تحدث في بلاد بعيدة، بينما يمارسون حياتهم في التعليم واللقاءات الثقافية وتعلم الموسيقى عبر الإنترنت. ويحدوهم الأمل في أن يتفهم العالم الآن معنى عزلتهم، ويأملون أن تتخذ الحكومات قرارات لمجابهة الكورونا، فتتغير الحال ويخرجون من عزلتهم في مرحلة ما بعد الكورونا.