ذلك الرجل الذي دلف إلى بيته يتميز غيظاً وتتأجج في صدره نيران الجحيم لأنه حاول مع "سيلا" مراراً دون جدوى بينما هو يريدها بأي طريقة بل وكل يوم تزداد رغبته فيها أكثر مع كل مرة تتمنع "سيلا" عنه على الرغم من كل الإغراءات التي يحيطها بها ، حتى أصبح يشعر بأنه يتمزق في كل لحظة تمر عليه وبأنه يريد أن يقتل "سيلا" ، وتلك المرأة التي وقفت أمامه تحترق غيظاً بدورها لأنها تعرف كم يرغب رجُلها ب"سيلا" وبما يحدث له بسببها ، هو لم يصارحها بما يحدث معه وهي لم تصارحه بأنها تفهم جيداً ما يحدث فهي تعرف أن "سيلا" امرأة جميلة جداً تملك سحراً إلهياً عجيباً ومنَعةً تجعلها صعبة المنال بطريقة تغيظ الرجال والنساء على حد سواء ، فكل الرجال والنساء الذين وقفوا يؤيدون محاكمتها في ذلك اليوم كانوا أمثلة منسوخة عن هذين الرجل والمرأة واللذان كانا هما الحاكم وزوجته ، اللذان كادا لها مكيدة راقت للجميع لأنهم مستاءون منها وعلى الرغم من معرفتهم بأنها بريئة إلا أنهم اجتمعوا شامتين ب"سيلا" لمتابعة محاكمتها ، والحقيقة أن "سيلا" لم تكن تؤذي أحداً ولكن معضلتها أنها كانت فاتنة الجمال ، فائقة الذكاء ، مستحيلة المنال ..
وقد قتل الحاكم حب حياتها "بو" بعد أن اشتعلت جذوة الحب بينهما حتى أصبح كل شعبها يتحدث عن حب "سيلا و بو".. ذلك الحب الذي تغنت بطهارته الألسنة ، فلم تكن علاقتهما أبداً عبثية ولا عابرة لقد كان كل منهما وطناً عاش يبحث عنه الآخر لسنين حتى وجده ، وكل ما كانت تفعله "سيلا" طوال علاقتها ب "بو" هو أن تجلس كل يوم أمام البحر وهي تضع رأسها على كتفه وتتحدث دون توقف ، وكذلك كان يفعل "بو"، لقد حافظا ألا يهبطان بمستوى هذا الحب وقدسيته نحو أية علاقة جسدية ، فقد كان بو يعلم أنها من سكان المدينة الفاضلة ولازالت تذكر مقولته التي عاتبها بها ذات مرة ..."ألا تدركين يا سيدتي كم من العمر مضى ولازلت تسكنين تلك المدينة ؟ ألا تدركين كم من العمر مضى ولازلت تقبعين وحدك هناك ؟ في تلك المدينة الخاوية التي هجرها أصحابها ، وماعاد فيها أحد إلا أنتِ ؟ "
"بو" الذي فدا سيلا بروحه عندما كاد الحاكم يقتلها ذات مرة ، فرحل ولم يعرف كم من العمر بقيت "سيلا" تحتضن تراب الأرض وتبكي فوق قبره .. فقد ظلت وحيدة تماماً من بعده ، يأكلها الرجال والنساء بعيونهم المتشفية وألسنتهم السليطة .. ولكنها واجهت كل هذا ببرود وحكمة منقطعة النظير ، "مسترجلة ، تعيش وحدها ، لا أهل لها ، متشردة ، عديمة الأنوثة" الكلمات التي عاشت ترشقها بها النساء دون رحمة غير مباليات بكونها غريبة ووحيدة في هذا البلد الذي اقتيدت إليه منذ طفولتها كسبية حرب ولا بقتل حب حياتها أيضاً ..
بالنسبة للرجال كان ذنب "سيلا" أنها ترفض الزواج من أي رجل حتى الحاكم ، فأوجب الحاكم قتلها أو تزويجها ، ففي ذلك العصر الذي فسدت فيه الأمور وأصبح الحاكم يشكل إلهاً ، وأي أمر يخرج به فهو أمر سماوي ويجب أن يطاع قد ولدت "سيلا" وفي ذلك العصر الذي سكنت فيه النساء الطبقات الدنيا تحت الرجال ووسمن بالطاعة العمياء لأزواجهن نشأت "سيلا" متمردة كفارس مما حذا بالنساء أن ينتقدن رجولتها و فروسيتها بتلك الوردة الصناعية الصغيرة التي لم تكف يوماً عن حملها في غمدها بدل السيف بحجة أنها هدية والدها في صغرها قبل أن يموت .. لينظر مجتمعها لها كمحارب مختلف من نوع آخر .. تلك كانت "سيلا" صاحبة النظرات اللاذعة الصامتة قليلة العلاقات والكلام و لم تكن سيلا تعرف أنها ستقف أمام مجتمعها بعد ثلاثين عاما من ولادتها متهمة ظلماً بسبب مكيدة .. وقفت "سيلا" أمامهم في ذلك اليوم ومن عينيها تنطلق نفس النظرة التي تخترق نواياهم والتي يكرهونها لأنها تشعرهم بأنها تفهمهم جيداً ، وعندما سألها الحاكم عن السبب في رفضها علاقة الزواج رفعت رأسها بكبرياء وقالت بتهكم :- لست أؤمن بهذه العلاقة يا سيدي !! فأنا يا سيّدي الحَاكم لا أُؤمن بالأشْخَاص العَاديين ؛ ولا تشُدّني العلاقاَت العاديّة .. ولا أعترف بتلكَ الرّوابط التي تبدأ وتنتهي بالزّمن وبالظروف..
أنا يا سيدي أؤمن فقط بتلك العَلاقة الأزليّة الابديّة الخالدة التي تبدأ ولا تنتهي ؛ تلك الرابطة التي تبقى متأصلة في أصل الوجود .. والمطْلَقَة فوقَ كلّ القوانين.. فوقَ حدود الزَمان والمَكان..
أنا يا سيّدي الحاكم جئتُ من هُناك .. حيث العلاقات تبقى رغما عن الزمان والمكان والوجود...لم ينبس أحد ببنت شفه ..
كان الحضور يحاولون تحليل ما قالت ففي العصر المادي الانهزامي الغابر لم تكن للنساء كلمة في حضور الرجال ، لكن "سيلا" عندما كانت تتحدث كان يصمت الرجال .. حديثها الجريء المتهكم كان يستفز غضبهم بجرأة ..فلم يكن لكلماتها في ثقافتهم عمقاً ولا معنى ، وقد بدت لهم وكأنها امرأة جاءت من عصرٍ آخر له معانيه ومصطلحاته المختلفة ..
كان يخيم الصمت والدهشة و قلوبهم متأهبة بعد أن يئسوا منها وعيونهم معلقة بها في تشفي ، بينما واصلت "سيلا" حديثها إلى جموع الرجال وقالت بشموخ لم يعتادوا عليه من امرأة :- كل واحد منكم يعلم ببراءتي ، لكنه يكرهني لأسباب يعرفها وأعرفها .. وأخذت تشير إليهم بطريقة عشوائية وهي تقول :- كلكم ، أنت .. وأنت .. وأنت تكرهني نعم ، تكرهني لأني أراك جيداً و أعلم ما أنت عليه عندما تبتسم في وجهي عمداً ،ثم تتابع سيرك متظاهراً باللامبالاة ، لتجعلني أظن بأنك رجل صعب المنال وألحق بك .. تطأطئ رأسك لتبهرني بخجلك الكاذب فحسب ..
نعم تكرهني لأني أفهم ما يدور في عقلك عندما تشيح بوجهك بعيداً عني متقمصاً شخصية الرجل الخلوق المهذب ذو الكبرياء الذي لا ينظر للنساء بينما في داخلك تقول : أعدكِ بأني سأبهركِ إلى أن تركضي خلفي لاهثة ..
تكرهني لأني أكشف نواياك وأعرف ما تريد عندما تنزل عيناك أرضاً و تتنحنح مدعياً الحشمة والوقار وأنت في داخلك تكاد تجن من شده رغبتك بي .. تكرهني لأنك تشعر بصغرك أمامي لمعرفتك بأني أسمع حديثك إلى نفسك وأنت تقول " لو أني أعانقها حتى أحطم ضلوعها !!"
أراك جيداً عندما تتظاهر بأني امرأة لا قيمة لها بينما يحرقك التساؤل : متى سأصل إلى أن أثير اهتمامها ؟ متى ستنجذب إلي سيلا أكثر لأطفئ هذه النار المستعرة في قلبي ؟
إني يا سيدي أسمع جيداً ما تعجز عن قوله حتى لنفسك .. واقرأ جيداً ما تحاول تغطيته ..و أعرف جيداً عندما تتظاهر بأنك ذكي وغامض ظناً منك أنك بهذا تثير فضولي إليك أكثر .. وعندما تتظاهر بأنك لا مبالي ظناً منك أنك بهذه الطريقة تجعلني أركض خلفك ، و عندما تتجاهلني لكي تثبت لي أنك لست بالرجل السهل وفي داخلك تنتظر ركضي خلفك لتستمتع بلعبة انجذابي إليك أكثر .. أفهم جيداً غيظك بعد كل هذه المحاولات لأنك لم تجد معي نتيجة ..
كان الحاكم يفكر بغضب ظناً منه أنه المقصود وقد تحدثت بكل ما يكشف أعماقه وكأنها تراها بمرآة سحرية وكذلك فكر كل رجل في قاعة المحاكمة و فوجئ بها الحاكم تستدير إليه وتكمل بجرأة : - أنا يا سيدي الحاكم أستطيع رؤية كل هذا وأكشف جيداً نهايه ما تريد الوصول إليه ، ثم نظرت إليه نظرة اخترقت أعماقه
وتابعت : - وأعرف أنك تنام كل ليلة في نيران رغبتك بي ، وأن أمنيتك الوحيدة في الحياة هي مضاجعتي إلى آخر عمرك .. فجأة هب الحاكم عن كرسيه مرة واحدة وكذلك زوجته في غضب هادر و ارتفعت الأصوات المحتجة في القاعة ليأمرهم الحاكم بالصمت فوهبته "سيلا" ابتسامة تكشف أعماقه
وهي تتابع : - أنا يا سيدي الحاكم لست امرأة عادية .. لذا أغلقت أبوابي منذ زمن ولكن أبوابي شفافة و أستطيع رؤية كل شيء عبرها ، نعم اخترت أن أقبع خلفها لكني لم أكن عمياء يا سيدي ، لذا يكرهني الرجال ويتمنون موتي لأنهم يا سيدي الحاكم عاجزون عن الوصول إلي أو الاقتراب من حدودي ، ولذا أيضاً تكرهني النساء ويتمنين موتي لأنهن يا سيدي عجزن عن إثارة جنون رجالهن المتولهون بي..
كان الحاكم ينظر بغضب وأنفاس زوجته تهدر كطاحونة هوائية مجنونة وعلا صوته بالحكم مجلجلاً : -"إعدام" فتهللت أسارير الجميع لهذا الإعلان نساءً ورجالاً مما أدهش "سيلا" لشدة كراهيتهم لها كان وجه الحاكم يصرخ غضباً وهو يطالب "سيلا" بأمنية أخيرة قبل موتها ، فصمتت قليلاً ثم تغيرت ملامحها و قالت : - لا أمنية أخيرة يا سيدي الحاكم ، فأنا لن أموت .. عادت أصوات الدهشة والغضب من جرأتها فنظرت إلى الناس المجتمعون في القاعة ممن يكرهونها و يثقون بالحاكم بل ويؤمنون به وخطرت في عقلها فكرة لمعت في عينيها فتابعت حديثها : - فأنا يا سيدي الحاكم لم أعترف لك بعد بأنك كنت مختلفاً عن هؤلاء الرجال ..و حدك كنت مختلفاً .. فتأهبت نظرات الحاكم إليها وعادت ترتفع الأصوات المنادية بإعدامها ولكن الحاكم عاد يأمرهم بالصمت وقد شحذت كلمة "سيلا" حواسه الملتهبة منذ سنين حتى كادت تنطفئ يأساً منها تأمل ابتسامتها تلك التي تفحم قلبه وفتنتها التي تصهره ورآها تنحني أمامه وهي تقول في تبجيل : - أنت الوحيد يا سيدي الحاكم الذي أذاب قلبي عشقاً وما كان قلقي إلا من هؤلاء الرجال الذين كانوا يلاحقوني بلا توقف ..
فنظر الحاكم إلى الرجال الموجودين في القاعة بعد اعترافها عليهم و الذين عادت أصواتهم لترتفع بالاعتراض وهتف بحرسه : "كل الرجال إلى السجن ."
ولم يلحظ ابتسامة "سيلا" التي تختلط فيها السخرية بالمرارة وهي لازالت تنحني أمامه بينما صرخت النساء معترضات على اقتياد أزواجهن وهتفت زوجة الحاكم به : "ماذا تفعل ؟ هل جننت ؟" فاستدار إليها وهتف غاضباً : "كيف تجرؤين على اتهامي بالجنون ؟" ثم أمر حرسه باعتقالها وسط توسلاتها ، وعاد يقترب من "سيلا" التي لازالت على انحناءتها فأمرها بالاعتدال ولكنها ردت دون أن تعتدل : "إن اعتدلت يا سيدي الحاكم فستقتلني هؤلاء النساء الذين اعتقلت أزواجهن ، فكل ما يمنعهن عني هو انحنائي لك ." فهتف بحراسه : "فلتذهب النساء إلى بيوتهن ، أخبروهن أن لا اعتراض على أمر الحاكم" فأخذت النساء يغادرن مولولات بسبب هذه المصيبة التي حلت بهن ، وعاد الحاكم من جديد يأمر "سيلا" بالاعتدال ولكنها بقيت منحنية وهي تقول : " كيف يمكن لامرأة تقدس الحب بهذه الطريقة أن تسقط في حب حاكمٍ حتى نبضات قلبه تكاد لا تكون له وحده ."
فعرف أنها تريد بعض الخصوصية معه و لا تريد وجود الحراس حفاظاً على قدسية هذا اللقاء فبدت على ملامحه اللهفة وأمر حراسه بالمغادرة جميعاً ، ومد يده إلى "سيلا" لتعتدل فأمسكت بيده وهي تعتدل و تقول : - أرأيت يا سيدي كيف تنهار الممالك عندما تصبح كلمة الحاكم سماوية ؟! فنظر إليها مندهشاً ولكنها جذبت يدها من يده وقالت بتهكم : " لقد فاتك شيء يا سيدي الحاكم .. أنني جئت من زمن النساء اللواتي لا ينحنين لأحد ، ولا ينتهين نهاية عادية ؛ تلك اللواتي ينتمين بإخلاصٍ ، ويفارقن بقدسية .." قالت عبارتها وارتفعت يدها الأخرى لتغمد في صدره تلك الوردة التي كانت تحملها على جانبها طوال سنين عمرها والتي اكتشف الحاكم فقط في لحظته الأخيرة أنها كانت خنجراً غادر ...
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت