كيف أسلموا الحلقة الخامسة

بقلم: أسامة نجاتي سدر

أسامة نجاتي سدر

 (خديجة بنت خويلد وزيد بن حارثة)

أسلم جميع البشر بعد البعثة إلا خديجة آمنت بمحمدٍ واتبعت دينه قبل أن ينزل الوحي، ونصرته وآزرته وهو لا يعلم بأنه المبعوث رحمة للعالمين، واستحقت أن تكون سيدة من سيدات العالمين وأول أمهات المسلمين، كانت تلقب قبل الإسلام بالطاهرة وكان لها مكانة في مكة لا ترقى إليها أي امرأة في قريش، وهي ذات عقل راجح وعلم غزير وقلب طيب، وكان لها تجارة خاصة بها إلى بلاد الشام واليمن تستأجر لها الرجال وتشرف عليهم بنفسها، وقد اتخذت في حياتها قرارات غيرت مسار الزمن وحققت للإسلام للصمود والتمكين.

كان لخديجة علاقة خاصة بابن عمها ورقة بن نوفل حيث كانت تجلس إليه وتنهل من علمه وتقتدي به، تبعته حين ترك عبادة الأصنام واتبع(الحنيفية) دين إبراهيم الخليل عليه السلام، ولقد حدثها ورقة عن نبيٍّ يبعث قريبا يرفع الله على يديه الظلم عن العباد وتنتهي في عصره عبادة الأصنام والأوثان، فبدأت تسأل عن علامات وصفاته أين ينزل وكيف ومن سيكون أصحابه ومن سيعاديه، ورغبت بأن تكون بقربه وتسانده بكل ما أوتيت من قوة، وكان بمكة شاب من بني عبد المطلب اشتهر بين الناس بلقب الصادق الأمين، فأرادت أن تختبره لعله النبي الذي تبحث عنه فأرسلت إليه واستعملته على قوافلها نحو الشام وأرسلت معه غلامها ميسرة، وبقيت في مكة على أحر من الجمر لعودته ليس للأرباح وإنما للبشرى بوعد الله.

وعاد ميسرة محملاً بعجائب شهدها مع محمد لم يرها في حياته كلها، الغيمة التي صاحبته في حله وترحاله، وحديثه مع راهب بالشام اسمه نسطورا رأى محمد استظل بشجرة بأنه لا ينزل في ظلها إلا نبي، ثم سأله عن حمرة في عينيه ليتأكد، وتاجر بالسوق يختلي بميسرة ليقسم بأن صاحبه(محمد) نبي يحدِّث عن قرب بعثته أحبارهم ورهبانهم، وأشاد بصدقه وأمانته والبركة التي حصلت بين يديه والأرباح الكبيرة التي حققها في رحلتهم؛ فكرت خديجة كيف تحتضن هذا الرجل وتعينه على ما خلق له، فبعثت إليه امرأة اسمها نُفيسة بنت مُنية برغبتها بالاقتران به دون أن تعبأ بما قد يقال عنها، وهي السيدة الأولى في مكة تقترن بشاب فقير، ولكنها كانت متأكدة بأنها نالت حظا كبيرا وشرفاً عظيماً، وذهبت خديجة لابن عمها ورقة تخبره بما سمعت من ميسرة وما فعلت، فطلب منها أن توافيه بأخباره وأن تخفي عنه حتى يكرمه الله بالنبوة.

لم يعد محمد للتجارة بالشام وبقي في مكة يتاجر بمالها، لربما لتحميه من اليهود كما فعل عمه أبو طالب حين مر ببحيرا الراهب، وكان يكبر في عينها يوما بعد يوم بخلقه وعطفه وكرمه، فتحرص على أن تقوم بدورها كزوجة على أفضل وجه، وقد رزقهما الله زينب ورقية وأم كلثوم، ثم القاسم وبعد البعثة عبد الله وكانت البنات أكثر بنات مكة جمالا وخلقا، يتسابق شباب مكة للظفر بهن كي يكونوا أصهار محمد وخديجة.

عرض ابن أخي خديجة حكيم بن حزام على عمته عبداً فتياً تظهر على ملامحه الشرف والقوة اسمه زيد بن حارثة فاشترته بأربع مئة درهم، وأصبح زيد لا يفارق سيدته في أي مكان وربما سمع حديثها مع ورقة أو حدثته بما تظنه بزوجها، فتاقت نفسه لصحبته ولاحظ ذلك محمد أيضا فسأل خديجة أن تهبه إياه ففعلت، ورافق زيد محمداً فأحس به رأفة ورحمة واستقامة ما عرفها في غيره فأحبه حتى رفض أن يفارقه حين خيّره بالعيش معه أو العودة مع عمه وأبيه، فخرج محمد إلى الناس معلنا بأن زيدا ابنه يرثه ويورّثه.

وتمضي السنين سريعا وكان محمد يرى الرؤى فتتحقق وكأنها فلق الصبح، وأصبح من عادته أن يخصص رمضان للعبادة، يبدأه بالطواف حول البيت الحرام وإطعام الناس في الحرم ثم يوزع الصدقات العظام، ثم يخلو بنفسه في غار حراء يتعبد حتى آخر ليلة فيه كما كان يفعل جده عبد المطلب، وكان زيد يزوره أحيانا ليوصل الطعام والماء، وتأخر محمد عليه السلام عن وقت عودته فأرسلت فاطمة زيداً إلى مكة لتطمئن عليه، لأن من عادته أن يطوف بالبيت قبل أن يعود لبيته، لكن لم يره أحد وعاد زيد إلى البيت ليجده ينتفض تحت الفراش ويقول زمّلوني ... زمّلوني، وخديجة تخفف عنه وتهون عليه، فلما زال عنه الروع أخبرها ما حصل في الغار: صوت اقرأ يخترق سمعه وروحه ويرد ما أنا بقارئ ثلاثا ثم تلك الكلمات التي ملأت فكره وعقله "اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان مالم يعلم"، وخرج من الغار ليجد جبريل ما بين السماء والأرض في كل الاتجاهات وصوت يخترق السكون ليقول له "أنا جبريل وأنت نبي هذه الأمة" وينتفض عليه السلام وهو يقول "لقد خفت على نفسي" فتطمئنه خديجة ويدها تمسح على رأسه " كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا، والله إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الدهر" وتبقى بقربه حتى تهدأ نفسه ويغط في النوم، فتتركه في رعاية زيد وهو يرتعب خوفا على أبيه وتذهب إلى ابن عمها ورقة لتزف له الخبر فيقول لها: " قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده إن كنت أصدقتني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي لموسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له: فليثبت." فتعود إلى البيت وتسهر بقرب زوجها حتى الصباح، فتخبره بما أخبرها به ورقة وتطلب منه أن يخبرها إذا حضر جبريل، قالت: أي ابن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك إذا جاء؟ قال: نعم، فجاءه جبريل، فقال: يا خديجة، هذا جبريل، قالت قم فاجلس على فخذي اليسرى، ثم قالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت فتحول إلى اليمنى ففعل، ثم قالت: تحول فاجلس في حجري ففعل، ثم ألقت خمارها وتحسرت وهو في حجرها وقالت: هل تراه؟ قال: لا، قالت: اثبت، فوالله إنه لملك وما هو بشيطان.

ودعت خديجة محمدا صلى الله عليه وسلم أن يلقى ورقة ويخبره بما حصل معه ليسمع منه وهو العالم بكتب السابقين من اليهود والنصارى فلقيه النبي في الطواف وأخبره فقال: والذي نفس ورقة بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي كان يأتي لموسى ولتكذبنّه، ولتؤذينّه، ولتخرجنّه ولتقانلنّه، ولئن أدركت ذلك اليوم لأنصرنّ الله نصراً يعلمه، ثم دنا من رسول الله صلى الله فقبل رأسه.

وعاد النبي إلى بيته مطمئن النفس مرتاح البال، وبدأ دعوته بآل بيته خديجة وزيد وعليا ليعلن للعالم بولادة الإسلام فتيا غضا يحرسه محمد صلى الله عليه وسلم وأهله.

أسامة نجاتي سدر

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت