بالصدفة وجدت في رمضان العام الماضي(1440هـ، 2019م) حلقات برنامج قرأت عنه وهو برنامج: على مائدة الإفطار، الذي قدمه الشيخ علي الطنطاوي –رحمه الله- على شاشة الرائي(هي الكلمة التي اقترحها الشيخ الطنطاوي بدل كلمة التلفزيون) السعودي ولكن لم أتابع إلا بضع حلقات متفرقة؛ غني عن القول أن الحلقات مرفوعة على (يوتيوب) ولكن هذا العام وفي رمضان الجاري فقد عزمت لمّا علمت أن شهرنا الآن مختلف تماما في بلادي وسائر بلاد المسلمين، وبلاد العالم أجمع بسبب جائحة كورونا؛ فهناك تعطيل للأعمال، لا تقليص لساعات الدوام كما العادة، ولا صلاة في المساجد، ولا تواصل عائلي واجتماعي، وغير ذلك مما رأينا من مظاهر لم يعرفها حتى أجدادنا من حيث انتشارها وتشارك الناس فيها؛ بناء على ذلك قررت أن أتابع الحلقات على يوتيوب بانتظام، وإذا حدث أن فاتتني حلقة ففي اليوم التالي أتابع حلقتين.
كثيرة هي البرامج الدينية خاصة في هذا الشهر المبارك، ولا تخلو من فائدة، ولكن خطر لي كيف أن لهذا الرجل(الشيخ علي الطنطاوي) بركة مستمرة متواصلة، بحيث أن مثلي يهتم ويتابع برنامجا قديما له وقد بدأ عرضه قبل أن أولد ولما كنت طفلا استمر.
وازداد تقديري للشيخ عندما طرح في حلقات عدة مسألة أريق في تناولها من شتى النواحي بحر من المداد، ونظمت حولها كثير من الندوات والمحاضرات، وبالطبع كان لها دور في تفجير خلافات وصراعات ونتج عنها أحايين أخرى اقتتال ودماء، وما تزال تتفاعل حتى الآن ونعيش تبعاتها، ألا وهي كيفية تعامل المسلم مع الحضارة الغربية...هذا نقاش خاض فيه مثقفون و(متثاقفون) وعلماء و(متعالمون) ولكن الشيخ بلهجته الشامية المحببة الممزوجة مع الفصحى(والشيخ علم من أعلام لسان الضاد) اختصر كثيرا وفي وقت قصير كل ما يمكننا قوله، وكافة ما قلناه وكتبناه نحن ومن سبقنا:-
وبرّد الشيخ قلبي حينما تحدث عن مسألة يظن المهزومون نفسيا من العلمانجيين والليبرالجيين من أبناء جلدتنا أنهم جاءوا بما لم يأت به سحرة فرعون، وهي مسألة استخدام الأدوات والمخترعات الغربية.
لا أريد أن أسهب كثيرا فمن أراد الاستزادة فأمامه الحلقات، وليتمتع بفاكهة لذيذة على مائدة فطره؛ فالشيخ وإن كان ديكور الاستوديو الذي بث منه حلقات برنامجه الجميل اتسم بالبساطة، ولازمته سلة فاكهة تبدو بلاستيكية للمظهر التجميلي، فإنه يمدّ أبناء وبنات الأمة ممن ضاعت بوصلتهم بفاكهة شهية من الفكر والأدب والثقافة ، كيف لا و علي الطنطاوي هو فقيه الأدباء وأديب الفقهاء:-
في ظلال القرآن...كأنه الآن!
دأبت منذ مدة على قراءة صفحتين أو ثلاثة فقط من كتاب(في ظلال القرآن) أوسع وأهم ما سطّره سيد قطب-عليه رحمات الله– بطريقة قراءة الدارس المتأمل، لا الاطلاع المُجمل، لأسباب يعرفها من عايش مرقومات سيّد قطب في شبابه أو كهولته، وقد قررت في رمضان أن أتوقف عند بعض الصفحات في ظلال القرآن، وأنا أدرك أنه خير الظلال، وأن أمان النفس سأجده هناك، وأيضا إضاءات حول الخدع القديمة-الجديدة...ولا أدري أهي صدفة أن أتأمل هذه الأيام بالذات ما خطّه سيد قطب حول قول الله تعالى في سورة آل عمران، آية 72(وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
يقول السيّد(سيّد):... إن لهذه القوى اليوم في أنحاء العالم الإسلامي جيشا جرارا في صورة أساتذة وفلاسفة ودكاترة وباحثين-وأحيانا كتاب وشعراء وفنانين وصحفيين يحملون أسماء المسلمين، لأنهم انحدروا من سلالة مسلمة وبعضهم من "علماء" المسلمين.
هذا الجيش من العملاء موجه لخلخلة العقيدة في النفوس بشتى الأساليب، في صورة بحث وعلم وأدب وفن وصحافة.وتوهين قواعدها من الأساس.والتهوين من شأن العقيدة والشريعة سواء.وتأويلها وتحميلها ما لا تطيق.والدق المتصل على "رجعيتها" ! والدعوة للتفلت منها.وإبعادها عن مجال الحياة إشفاقا عليها من الحياة أو إشفاقا على الحياة منها...وهم بعد مسلمون!أليسوا يحملون أسماء المسلمين؟وهم بهذه الأسماء المسلمة يعلنون الإسلام وجه النهار .وبهذه المحاولات المجرمة يكفرون آخره...أ.ه.
وكأن سيد قطب يعيش أسوأ ما في واقعنا مع هذه (العينات) من الناس، فيخبرنا عنهم وهو بجسده ليس بيننا، ويحذرنا من الزيغ والضلال، و يفضح بعمق التحليل الكاشف المعزز بالدليل الواضح، والشاهد القائم، فكرة تزيين هدم الشريعة المؤدي حتما إلى هدم العقيدة...نحن نتحدث عن رجل خط هذه الكلمات قبل حوالي ستة عقود، ولو عرضتها الآن على من ليس له سابق عهد ومعرفة به وبها، لظن أنه أمام سطور تتحدث عن واقعنا الآن...إنه فعلا عطاء الله –سبحانه وتعالى- للمرء ونور القرآن العظيم وظلاله الوارفة.
وفي رمضان وهو شهر القرآن كما نعلم، ليس أروع من قراءة الكتاب العزيز، وإذا شئت أن تعيش في الظلال فانظر حولك وأنت تتصفحها...سيغنيك كثيرا عن (طحن) وسرديات المثقفين!
مجموعة الشريف الطيار
جهد طيّب قام به الشيخ د.محمد بن حسن عقيل موسى الشريف –حفظه الله– بإصداره كتاب (مقالات الإسلاميين في شهر رمضان الكريم) وقد صدرت الطبعة الأولى عن دار الأندلس الخضراء في جدّة عام 2001م ، أي منذ عقدين تقريبا، ولكن كما قلت لكم في البداية فإن رمضان الحالي مختلف، ويحبذ الاطلاع على مثل هذه الكتب.
والجميل في الكتاب أنه مبوّب ومفهرس ويحوي حوالي 870 صفحة؛ فإذا شئت مقالات عن وجوب الصوم وفضله وجدت، وإذا شئت مقالات عن رمضان والتاريخ وجدت، وإذا شئت القراءة عن شهر رمضان والجهاد وجدت بغيتك؛ فالكتاب تجميع وتنسيق لمقالات علماء ودعاة ومفكرين وأدباء وسياسيين وغيرهم من عصور مختلفة؛ فيهم من قد تحب ومن قد لا تحب، ومن يعجبك أسلوبه وبيانه، ومن قد تشعر بالملل من كتابته، وكل هذا يرجع إلى ذوقك بالطبع، فأمامك الفهرست اختر منه ما تشاء؛ فتجد النووي والحنبلي والبنا والرافعي والغزالي والزحيلي وغيرهم وغيرهم؛ أسماء تنتمي إلى حقب تاريخية مختلفة وإلى مدارس متعددة، ولكن رمضان جمعها إلى تسطير مقالات تسلط الضوء على هذا الشهر من زوايا شعائرية أو روحية أو اجتماعية، وقد جمعها الشيخ الشريف، ويبدو أن الأثر غير المباشر لمهنته (هو طيّار مدني إضافة إلى تخصصه في العلوم الشرعية) كان له دور في محاكاة إصداره؛ فقد (طار) بين الكتب والصحف والمجلات والدوريات والنشرات الصادرة في أزمان وبلدان مختلفة، والتقط لنا هذه المادة الموجودة بين دفتي كتابه...وأحب هنا أن أنوّه إلى أن الكتاب يحتوي على الفكاهة، فرمضان شهر ارتبط أحيانا ببعض المواقف الفكاهية، وفي الكتاب حديث عن القطايف والكنافة (صفحة 829).
رمضان جمع الفوائد
علي الطنطاوي الدمشقي الذي بث برنامجه من التلفزيون السعودي، وسيد قطب المصري الصعيدي، ومحمد الشريف الحجازي...بمثل هذا تتوزع الفوائد والمنافع في شهر القرآن، من الشام ومصر والحجاز...أليست هذه صورة مضادة لصورة أخرى نعرفها صارت علامة يجري دوما عرضها في هذا الشهر الكريم؛ فحش وتفاهة وانحلال خُلقي وتمجيد للظلمة وتشويه للتاريخ..وآخر التقليعات هي التشجيع على التطبيع مع الصهاينة وتعزيز العنصرية بين شعوب العرب والمسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأيضا تلك (التجميعات) من أقطار عربية شتى؟بلى، فليختر (الرمضانيون) ما ينسجم مع بركات شهرهم...تقبل الله منا ومنكم.
،،،،،
بقلم:سري سمّور
تم النشر الجمعة 8 رمضان 1441هـ ، 1/5/2020م
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت