الدراما العربية من الوسائل المؤثرة في التنشئة الثقافية والتركيبة الاجتماعية، ولها جمهورها الواسع في كل بيت ومن هنا أطلت بعض الفضائيات العربية في شهر رمضان ، بعدد من الأعمال الدرامية المتنوعة ومنها _للأسف _ ما يمرر فكرة التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي ، والتعايش معه فبعد أن كان التّطبيع على شكل اتصالات ، ومشاركات رياضية، تطور فطال الدراما العربية إدراكاً لكونها قوة تغيير ناعمة ،تؤثر على المشاهد العربي ، و نهجا مدروسا لتمرير الأفكار بوعي المشاهد ، أو دون وعيه ؛ وبالتالي فإن التطبيع من خلال الأعمال الفنية وخصوصاً في الميدان الثقافي هو المؤهل القادر على تلويث الفكر العربي والثقافة الشعبية الوطنية، وضخ المفاهيم والتصورات المشوهة لقيمه ومبادئه .
في ذات السياق تأتي بعض الأعمال الدرامية الخليجية لهذا العام _"أم هارون" و"مخرج7" _ _ درباً تمهيديا ً لفرض قبول التطبيع فمسلسل أم هارون الذي حظي بإنتاج سعودي ضخم يحكي قصّة امرأة يهوديّة تتعرّض للمتاعب بسبب ديانتها، ويصوّر المسلسل حياة الجالية اليهوديّة في الخليج تحديداً، فترة الأربعينيّات من القرن الماضي، ويظهرهم بموقف المظلوم بالإضافة لما اشتمله من مغالطات تاريخية جسيمة كقيام دولة اسرائيل عند انتهاء الانتداب البريطاني على أراضي اسرائيلية وبهذا ينفي الوجود الفلسطيني كلياً وحقه في أرضه ، وقد دافعت الممثلة "حياة الفهد" عن العمل على اعتبار الوجود الحقيقي لليهود في الخليج وفي كل مكان.
هذه الدراما تُحدث خلخلة فكرية تغير مسار النقاش وتحوله من واقعة الاحتلال الصهيوني كمحتل إرهابي إلى وضعية الأقليات الدينية، وهو ما لم يكن مُشكلاً في تاريخ الشعوب العربية وخصوصا في تلك الفترة ، كما ان المسلسل عمل على تزوير التاريخ اليهودي وتقديمهم بصورة المتعايشين ، الذين عانوا تهجيراً قسرياً، تمهيداً للقبول بالوضع القائم في دولة فلسطين المحتلة. في جانب آخر، تطرق "مخرج 7" من بطولة ناصر القصبي ونادر الشمراني _ الذي يُعرض بأسلوب ساخر _ في إحدى حلقاته، إلى العلاقات مع إسرائيل، وتأييد إقامة علاقات اقتصادية ، وتوجيه إساءة واضحة للشعب الفلسطيني بل ذهب المضمون إلى حد التشكيك بالقضية الفلسطينية وموقفها من السعودية .
في احدى الحلقات برز حوارً مستفزا بين الفنانين عن الفلسطينيين حيث سأل القصبي: "تريد تعمل بزنس مع الإسرائيليين؟ ليرد الشمراني إن العدو هو الذي لا يقدّر وقفتك معاه، ويسبّك ليل نهار أكثر من الإسرائيليين، مضيفًا ”كل تضحياتنا لأجل فلسطين، دخلنا حروب لأجل فلسطين، قطعنا النفط لأجل فلسطين، وعندما أصبح عندهم سلطة ندفع تكاليفهم ورواتبهم وإحنا أحق بالفلوس، وما يصدقون أن يلاقوا فرصة حتى يهاجمون السعودية " كآبة هذا المشهد التطبيعي الذي كشف النتاج المسخ لأفكار هذه الأعمال الدرامية بالإضافة الى اكذوبة الروايات التاريخية المتعلقة ببدايات وجود اليهود والهولوكوست وقضايا الاستيطان وعار المجازر هي محاولة حقن التطبيع بحياتنا اليومية بأساليب ومسلسلات متنوعة لتدخلنا في دوامة صراع مع من لا يرى في التواجد اليهودي في فلسطين مشكلة، متجاهلاً أنه احتلال وأنه يمثل التجسيد الديموغرافي للفكرة الصهيونية في أرض فلسطين .
التطبيع الثقافي بصوره والوانه قد يكون أخطر نتائج اتفاقيات التسوية بين النظام العربي الرسمي وإسرائيل و مصطلح التطبيع ، وجعله طبيعيا متداولا وتعزيز ثقافة الحوار الليبراليّة بمداميكها: التسامحُ مع "الآخر" ، وكأنّ المحتلّ محضُ "آخر، ظهر في مسلسلات عربيّة طُرحت في الآونة الأخيرة وتناولت حياة اليهود بصورة خاصة مثل مسلسل باب الحارة الجزء السابع، "حارة اليهود " الذي عُرض في رمضان 2015 من إخراج "محمد جمال العدل" وهو ذاته الذي أخرج مسلسل "أم هارون" الذي يُعرض حالياً.
وجود مثل هذه المسلسلات و الحنان المصطنع ، والكذب المهتريء من نشطاء الاعلام العبري على هذه الدراما وما يعرض عبر شاشات التلفزة ودعمهم لها لحفر التطبيع مرفوض قطعا .
كما أن الأفكار التطبيعية في الخطاب البصري و الفحوى الثقافي العربي لدى البعض لا يُعمم على المجتمع العربي وافراده ،فمواقف الدول العربية اتجاه قضيتنا عديدة ومشرفة نفخر بها وبدعمها التام لقضيتنا ؛ الا أن الإشارة لمثل هذه المضامين سيفيد كثيراً مع أجيال قد لا تتوفر لها المناعة النضالية ، وان التصدي لمحاولات التزوير في تاريخنا واحقيتنا بأرضنا في الدراما وغيرها بمنهجها الخفي والمعلن يرسخ الثوابت التاريخية والدينية والحضارية التي تمرر من خلال الفن المكتوب و المسموع و البصري .
ميساء سلامة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت