تمثل رواية "أورڤوار عكا" للكاتب والروائي الفلسطيني علاء حليحل إحدى الإبداعات الروائية الفلسطينية التي خاضت في حقل الرواية التاريخية، ليس لأنها تروى بطريقة شيقة إحدى أهم الأحداث التاريخية على أرض فلسطين، وليس لأنها تصدت عكا لحملة وحصار نابليون فحسب وإنما أيضا لأنها حملت في باطنها نصًا أدبياُ مدهشاُ يفتح أكثر من نافذة ويدق أكثر من جرس تاريخي بلغة الأدب وليس بلغة التاريخ.
تتمتع هذه الرواية الصادرة عن دار الأهلية عام 2014 بإمكانيات مميزة في جذب انتباه القارئ وتزيل الغبار عن واحدة من أهم الوقائع التاريخية في الشرق وتمنح الحافز والشرعية للرواية التاريخية أن تأخذ مكانها وتشق طريقها في الأدب العربي الحديث.
فقد ازدهرت في العقود الأخيرة الرواية التاريخية في الأدب العربي عموماُ وفي الأدب الفلسطيني على نحو خاص، ومن اللافت للانتباه أنّه كان لمدينة عكا مكانًا ونصيبًا مميزًا في مثل هذا النوع من الرواية.
برزت عكا في عدد من الروايات التاريخية منها (تاريخ الحروب الصليبية) للروائي اللبناني أمين معلوف وأيضاً في رواية (عكا والملوك) للروائي الفلسطيني أحمد رفيق عوض وكذلك رواية (قناديل ملك الجليل) للروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله وها هو علاء حليحل يقدّم لنا هذه الرواية عن عكا ويتكئ على إحدى أهم الوقائع التاريخية قبل ما يربو عن قرنين حيث تصدرت عكا وصمدت في وجه حملة نابليون العنيدة وشاءت لها أقدارها أن تشكل عقبة في وجه هذه الحملة وكان من شأن هذا الصمود أن فشل نابليون ومشروعه في السيطرة على الشرق.
تحاول الرواية أن تلخص هذا المشهد والصراع الدائر في ذلك الحين بين القوى الاستعمارية الناشئة المتمثلة ببريطانيا و فرنسا في السيطرة على العالم والمناطق الحيوية الاستراتيجية كما وتصور لنا ضعف الإمبراطورية العثمانية والاستبداد والصراع الدموي الذي كان قائماُ على السلطة ومعاناة عكا وأهل فلسطين عموماُ وهي تقع تحت وطأة أكثر من محتل وطامع ومستبد.
ما يميز هذه الرواية التي التقط حليحل حدثها التاريخي وسردها بلغة الأدب، لا بلغة التاريخ الجافة، أنها تملك حساُ أدبيًّا وتاريخيًّا وإنسانيًّا ينبض بين سطورها كما وتكشف لنا الرواية عن المشهد السياسي والاجتماعي في ذلك العصر.
لغة الرواية هي مزيج رائع ما بين اللغة العربية الفصحى واللغة الدارجة في تلك المرحلة فضلا عن عدد من المفردات التركية والفرنسية وهو ما ينطوي على الجهد الذي بذله الروائي في بحثه التاريخي لبناء هذا النص الأدبي الرائع.
يمسك علاء حليحل بزمام نصه جيدا ولم يسمح له بالانزلاق إلى مربّع التهويل، المبالغة والتكلف بل اكتفى برواية الأحداث كما هي وكان أسلوبه سلسًا ومحفّزًا للمتابعة مبتعدًا عن الجفاف الذي يكتنف بعض الروايات التاريخية وهي تقع في بعض الأحيان في مصيدة السرد التاريخي بدلا من الأدب.
ركّزت الرواية على عكا من الداخل وعلى شخصية أحمد بن باشا الجزار تحديدًا وبطانته القريبة وصورت الدسائس والمؤامرات السياسية وسلطت الضوء على الدور الذي لعبه الضابط الفرنسي (دي فيليبو) الذي وضع نفسه في خدمة الجزار بدافع الانتقام من نابليون.
كما وسلّطت الضوء على الدور الذي لعبه الإنجليز في مد يد العون للجزار والمساهمة في إحباط مشروع نابليون ولحرمان فرنسا من أئمة عكا من اية مكاسب تحرزها عل الارض.
تروي الرواية الأحداث بواقعية من دون اتباع أئمة بطولات خارقة وتركز على العامل الإنساني في الصمود والثبات إلى جانب العوامل المادية الأخرى من آلات وأسلحة سواء، غير أنها لم تسلط الضوء الكافي على الأوضاع الاجتماعية السائدة ومعاناة أهل عكا ودورهم في مثل هذه المعركة.
وكما في مختلف الحروب كان وباء الطاعون هو أحد العوامل الحاضرة في هذا الحصار إذ تفشى الوباء في الجيش الغازي كما تفشى في أهل المدينة المحاصرة وكان أحد العوامل التي ساعدت على تقويض نابليون ليلجأ إلى قصف المدينة بالمدفعية وتدميرها فوق رؤوس أصحابها قبل أن يفر منها عائدا إلى مصر في صيف العام 1799 ومنها عائدا إلى فرنسا.
كما أن الرواية لم تسلط الضوء على الجيش الفرنسي وقائدة الأسطوري في هذا الحصار مع أنها تحدثت بشكل واضح عن طموح هذا القائد العسكري في أن يصبح مثل الاسكندر الأكبر فاتحا للشرق وللغرب.
لم تنبه الرواية إلى مفارقة غريبة وهي أن نابليون المسكون بالفتوحات والانتصارات وتقليد القادة البارزين (هانيبال) الذي سبقه بأكثر من ألف عام؛ ملخص هذه المفارقة أنه وفي سجلّ من الصراع الطويل بين قرطاج وروسيا على السيادة على البحر الأبيض عمد القائد القرطاجي هانيبال الى احتلال اسبانيا وأراد ان يفاجئ الرومان فقرّر أن يخوض إحدى أهم المغامرات العسكرية في التاريخ وقيادة جيشه عبر جبال الألب الشاهقة الوعرة متسلقا بذلك قارة أوروبا ليفاجئ روما من الخلف ومحاصرتها لفترة طويلة وكادت أن تسقط في أيدي القرطاجيين غير أنّ طول الحصار وتفشّي الطاعون في جيش هانيبال وتراجع امكانياته المادية اضطرته للانسحاب ليشكل هذا بداية النهاية لقرطاج ونهايتها المأساوية المعروفة.
وبعد أكثر من ألف عام سيلجأ نابليون إلى تقليد هانيبال في هذه المغامرة، فتسلّق جبال الألب وفاجأ روما سنة 1798 وتمكّن من احتلالها ليسارع في العام 1799 لقيادة حملة على الشرق واحتلال مصر ومنها يواصل غزوه لفلسطين فيحتل غزة ويافا وعددا من المدن الأخرى إلى أن يصل إلى مشارف عكا في ربيع ذات العام ويحاصرها حصارا طويلا وكما أعجزت روما هانيبال قبل ألف عام، انتقمت عكا واستعصت على نابليون الذي اندحر عنها مهزوما وانتهى مشروعه إلى الأبد.
لقد كانت عكا وصور وصيدا هي موطن القرطاجيين الأصلي فكان لاندحار نابليون عن عكا دلالاته ومفارقاته التاريخية البارزة.
تلخص عكا حكاية المدن في التاريخ التي تعرضت للتدمير أكثر من مرة على أيدي قادة طغاة يبنون أمجادهم الشخصية على العذابات الإنسانية، فليس كل فاتح لمدينة بطلا وليس كل مدافع عن مدينة بطل أيضا، فالأبطال الحقيقيين هم أهل هذه المدن وجنودها اللذين يدفعون أثمانًا باهظة في هذا الصمود ووحدها هذه المدن وأهلها هم الشاهدون على مثل هذه الفظاعات وهم من يصنعون البطولات الحقيقية.
رحل إسكندر ورحل الرومان ورحل الصليبيون ورحل ريتشارد قلب الأسد ورحل نابليون ورحل أيضا أحمد باشا الجزار عن عكا وبقيت شامخة رغم تقلّب العصور وتبدّل الفاتحين والمغتصبين ولن يكون مصير المغتصبين والمحتلين الصهاينة سوى الهزيمة والانحدار.
في (أورڤوار عكا) تكمل المفارقة التاريخية؛ فقد ودع نابليون عكا مهزوما لتكتمل المفارقة التاريخية بعد أن دمرها وعاد إلى فرنسا متتبعا إثر زوجته الرائعة (جوزفين) التي دأبت على خيانته ودأب هو الآخر على خيانتها كمل رحل الجزار عن عكا تاركا إياها تئن تحت وطأة جراحها النازفة متتبعا هو الاخر بقايا رائحة عشيقته (دارينكا) زوجة شقيقه التي دأب على خيانة شقيقه معها ففي كلا الحالتين تفوح رائحة الخيانة، فنابليون لم يقع في حب مدن الشرق، لقد كانت هذه المدن بالنسبة له أشبه بالنساء اللواتي كان يقضي وتره منهن ويمضي، أما الجزار فلم تكن تعني له عكا سوى مجدا شخصيا ينبغي له أن يدافع عنه وحينما تحققت له هذه الغاية خان عكا وبقيت عكا ونهضت ثانية من تحت الركام لتسقط في قبضة محتل جديد بعد أقل من قرنين.
يضيف حليحل في هذه الرواية لبنة جديدة في صدع الأدب الفلسطيني المقاوم وهو يبحث عن عناصر جديدة للصمود والمواجهة من بني ركام التاريخ وإنّ هذه الأرض التي ابتلعت القلاع والامبراطوريات لن يُعجزها أن تبتلع القلعة الجديدة وستبقى ويبقى أهلها امتدادا لتاريخ كان قدره أن يقاوم ويتحدى وينهض كالعنقاء من وسط الرماد.
بقلم الاسير الفلسطيني الكاتب كميل أبو حنيش
سجن ريمون الصحراوي
***من الجدير بالذكر أنّ الرواية وصلتنا خلف القضبان، مع روايات ودواوين أخرى، من
خلال مشروع "لكلّ أسير كتاب" للمحامي الحيفاوي حسن عبادي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت