أبو ذر الغفاري رضي الله عنه نشأ في قبيلة غفار الشطار تعيش على الغزو وقطع الطريق وسلب الفرسان والسُّيار، ولقد كان من أشجع قومه وأكثرهم سلبا، كان يدخل إلى خيم الناس يسلبها بكل سهولة وفيها آلهتهم التي يعبدونها ويذبحون لها كي تحميهم من أمثاله فلا تحرك ساكنا، فازدراها وكفر بها واختار أن يعبد رب هذه الأصنام وخالق كل شيء، فكان يصلي لله وحده من بعد العشاء حتى يغلبه النعاس وينام حتى تعلوا الشمس، وكان يتجه حيث اتجه فحيثما تولّو فثم وجه الله، وكان قومه يستحلون الأشهر الحرم فيغزون القوافل وينهبونها، فأنكر عليهم هذا ولما فاض بهم وفاضوا به خرج من عندهم مع أنيسٍ أخوه وأمه إلى قبيلة خاله.
أصبح خاله في منعة من قومه ورهبة فعنده فارس غفار المشهود له بالبسالة والقوة، فحسده قومه وحسدوا أبا ذر وأخوه بالخير الذي يرونه عند خالهم، فأشاعوا بين الناس أن أنيسا يدخل على أهله إذا خرج من عندهم، فلما صارحهم الخال أبوا إلا أن يفارقوه لمكان قرب مكة، وكانت مكة تجمع الحجيج من كل مكان وفيهم من غزاهم أو سلبهم وله ثأر معهم، واستأذن أنيس بالذهاب إلى مكة فعاد هذه المرة ووجهه ينبض بالسرور.
- ما صنعت.
- لَقِيتُ رَجُلًا بِمَكَّةَ عَلَى دِينِكَ ، يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ.
- فَمَا يَقُولُ النَّاسُ.
- شَاعِرٌ، كَاهِنٌ، سَاحِرٌ؛ ولَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ، وَلَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشِّعْرِ فَمَا وجدت بأنه يصلح على موازين الشعر أبدا، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ.
- فَاكْفِنِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأَنْظُرَ.
وصل مكة فبحث عن رجل من عامة الناس يسأله عن بُغيته فإذا بالرجل يصرخ ويجتمع عليه الناس ويضربونه حتى أغمي عليه دون أن يسألوه عن اسمه حتى، فلما أفاق، تخفى وتوجه إلى بئر زمزم فاغتسل وأصلح شأنه، وبدأ يراقب الكعبة ليلا ونهارا، فمر عليه يوما علي بن أبي طالب مساء وأحسب أنه حضر ما حصل له يوم وصوله إلى مكة لكنه تركه حتى يتأكد أن قريش لا تطلبه فقال: "كأن الرجل غريب"، قال: "نعم"، فأشار إليه أن يتبعه فتبعه دون أن يحدّث أحدهما الآخر فاستضافه وأكرمه وبات عنده حتى الصباح ثم خرج أبو ذر إلى مكانه في الكعبة يترقب، حتى إذا جاء المساء أتى علي فقال: "أما آن للرجل أن يعلم منزله لينام" فأخذه إلى بيته وأكرمه وعاد أبو ذر إلى الكعبة دون أن ينام، ومرت امرأتين تطوفان بالكعبة وتناديان يا إساف يا نائلة، واقتربتا منه فقال:" أَنْكِحَا أَحَدَهُمَا الْأُخْرَى" فتسمرتا في مكانهما وكأنهما لوحا خشب فلما رآهما اختبأ أبو ذر وبدأت المرأتان تصرخان وتولولان وتقولان: "لَوْ كَانَ هَاهُنَا أَحَدٌ مِنْ أَنْفَارِنَا" تستنجدان به عليه، وخرجا من المسجد فتلقاهما رسول الله وأبو بكر بالباب فسألهما النبي عليه السلام ما بهما فأخبرتاه برجل يسب الآلهة ويحتقرها في الكعبة، فتركهما عليه السلام وتوجه إلى الحجر الأسود وبدأ يطوف حول الكعبة مسبحا ومهللا فعرفه أبو ذر ومضى إليه وقد بدأ يصلي وقال: السلام عليك يا رسول الله وكان أول من حيا النبي بتحية الإسلام، وعندما أنهى صلاته قال له عليه السلام: - وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ؛ مَنْ أَنْتَ؟ - مِنْ غِفَارٍ)فَأَهْوَى عليه السلام بِيَدِهِ فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ وكأنه تذكر حادثة الرجل الذي سأل عنه فضربه الناس).
- كَرِهَ أَنِ انْتَمَيْتُ إِلَى غِفَارٍ!!! (قالها في نفسه).
- مَتَى كُنْتَ هَاهُنَا؟ - قَدْ كُنْتُ هَاهُنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ بَيْنَ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ.
- فَمَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ؟
- مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي وَمَا أَجِدُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ.(لم يعد لدي سمنة ولكنه لم يشعر بالجوع أبدا)
- إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ فقال أبو بكر: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي طَعَامِهِ اللَّيْلَةَ وفي هذه الأثناء حضر رجال من قريش فخرج الثلاثة معا وتفرقوا وبات أبو ذر في بيت أبي بكر فقدم له من زبيب الطائف ووضع له الطعام، ولكنه لم يكلمه بشيء، وبالصباح خرج أبو ذر إلى الكعبة متخفيا من قريش يرجو أن يلقى الرسول مرة أخرى، ومر عليه عليٌ مساء فأخذه معه وأكرمه ثم تحادثا:
- ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟
- إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدنّي فعلت، وأخبره بقصته. - فإنه حق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء (أو قال كأني أربط حذائي) فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي. ففعل فانطلق في الصباح يتبعه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه فسمع من قوله وأسلم مكانه فأوصاه النبي.
- إِنَّهُ قَدْ وُجِّهَتْ لِي أَرْضٌ ذَاتُ نَخْلٍ، لَا أُرَاهَا إِلَّا يَثْرِبَ، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّي قَوْمَكَ؟ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَنْفَعَهُمْ بِكَ وَيَأْجُرَكَ فِيهِمْ. فرجع أبو ذر لأخيه أنيس فقال:
- مَا صَنَعْتَ؟
- صَنَعْتُ أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ.
- مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكَ ، فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ. وقالت أمهما مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكُمَا ، فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ.
ورجعوا إلى قبيلتهم فَأَسْلَمَ نِصْفُهُمْ وَكَانَ إمامهم أَيْمَاءُ بْنُ رَحَضَةَ الْغِفَارِيُّ وَكَانَ سَيِّدَهُمْ .أما نِصْفُهُمْ الآخر فقالوا نسلم إذا انتصر محمد عليه السلام وجاء إلى المدينة أسْلَمْنَا، فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وأَسْلَمَ نِصْفُهُمُ الْبَاقِي ولحقت بهم قبيلة أَسْلَمُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِخْوَتُنَا ، نُسْلِمُ عَلَى الَّذِي أَسْلَمُوا عَلَيْهِ، فَأَسْلَمُوا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا ، وَأسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ. وفاح عطر صحابيّنا في الدنيا وعلا صيته في الكون حتى بات نوراً يضيء الدنيا وينشر الحق والعدل من سراج المصطفى عليه الصلاة والسلام.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت