كيف أسلموا (الحلقة العاشرة)

بقلم: أسامة نجاتي سدر

أسامة نجاتي سدر


 عمار بن ياسر
مكة جُندٌ من جند الله هيأت لنبيه صحبة اختارهم الله لنصرة دينه ورفع راية "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، تملك سرا جمع فيها رجالا شرفهم الله ليكونوا رواداً للحضارة وشعلة للحق إلى يوم القيامة، وكان ياسر بن عامر العنسيّ من اليمن قد افتقد أخاه، الذي ألجأه الفقر والحاجة إلى السعي بعيدا عن قبيلته وأهله وإخوانه لكسب الرزق، فخرج برفقة من بقي من إخوته (مالك والحارث) يطلبه حتى نزل مكة، فإذا بحب مكة يتغلغل في نفسه دون هوادة، ويتملكه حتى ترك أخويه ونسي قبيلته، وبالرغم من أن سمية بن خياط قد استوطنت قلبه وهي أمة عند أبي حذيفة بن المغيرة المخزومي إلا أن سحر مكة أشد من أي أنثى. فقر ياسر ألزمه بأن يغض الطرف عن بنات أشراف مكة وقلبه سلمه لسمية فيرزقهما الله الحريث وعمار وعبد الله، ولقد كان له مكانة عند مواليه جعلت أبا حذيفة يعتق ابنيه عمار وعبد الله أما الحريث فقد قتله بنو الديل ولم يتكلف التاريخ بذكر السبب، أما سمية فقد طلبها وهي على ذمة زوجها الأزرق غلامٌ رومي للحارث بن كلدة، فطلقها ياسر وتزوجته وولدت له سلمة.
 وتنتقل العين لرؤية "عمار" نجم قصتنا فتراه وهو تِربُ رسول الله (بنفس عمره) وصاحبه الذي لا يفارقه لولا وطأة العمل وقهر الحاجة، وكيف لا، وصحبته ترفع مكانة المرء في مكة لأنه من بني هاشم سادة مكة ونجبائها، وصيته انتشر وعمّ بأنه الصادق الأمين وهو الكريم المُأَلف للقلوب يطمع بقربه السادات ولا يخشى من وصله الموالي والعبيد، ومشى النبي مع صاحبه في الصفا مرة فرأتهما الطاهرة خديجة بنت خويلد وأختها هالة، فأسرعت هالة ربما دون تفكير أو تدبير إلى عمار تسأله "أما لصاحبك حاجة بخطبة خديجة؟ فقال: "لا أدري" وكلم عمار صاحبه عليه السلام فوافق وسألها أن تحدد له موعدا ففعلت، فذهب معه أعمامه وطلبوها وتم الزواج. ونزل الوحي على نبينا وعمار يصارع لأجل لقمة العيش والحياة الكريمة، ووصل إليه ما يدعوا إليه من ثرثرة الموالي والعبيد لكنه خشي أن يزوره والناس تتهمه بالشعر والسحر والكهانة، ثم أخبار عذاب بلال والموالي الذين اتبعوه لكنه كان يراقبه من بعيد دائما وقال عن ذلك فيما بعد: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَعَهُ، إِلَّا خَمْسَةُ أَعْبُدٍ، وَامْرَأَتَانِ وَأَبُو بَكْرٍ"، وكان عمار يشفق على والديه من أن إسلامه سيحرمهما من معونته وقد يعرضهما للعذاب، لكن حق الصحبة ويقينه بصدق صاحبه وبراءته من تهمة أعداءه تجعله مجبرا أن يستمع إليه.
بدأ يفكر بالوصول إلى مكانه وليس ذلك صعبا على الموالي والفقراء لأنهم كانوا الأكثر استجابة له، ثم فكر كيف يذهب إليه دون أن يثير ذلك الانتباه فيمن حوله، ولعله خشي من نظرة لوم من صاحبه كيف يعلم ولا يأتي ليستمع منه إن خيرا أصاب منه وإلا فالنصح والقول المعروف، وعزم على أن يطرق بابه في دار الأرقم بن أبي الأرقم فتوجه إليه في ساعة الظهيرة حين يحتمي الناس من حرارة الشمس الحارقة لكنه وجد على الباب صهيب بن سنان الرومي مولى عبد الله بن جدعان فخشي عمار أن يفشي سره فصهيب كان من أغنى الموالي في مكة فسأله في قلق: - ماذا تريد؟ - ماذا تريد أنت؟ فتشجع عمار وقال - أريد أن أدخل على محمد، فأسمع ما يقول. - وأنا أريد ذلك فدخل الاثنان وما لبثا أن أسلما وجلسا يتعلما دينهما الجديد إلى أن حل المساء، فخرجا كل في طريقه وأسرع عمار إلى أمه يعرض عليها الإسلام فوجد أنها مشتاقة لمثل هذا الدين الذي احترمها كامرأة وأمة، وخرج إلى بيت والده فوجده يخشى الموت وهو على الكفر وهو لم يعرف الإسلام بعد.
تعلق قلب عمار بالقرآن وأصبح يتلوه كل يوم في منزله بصوت منخفض، هذا ما كان يحسبه، وبالحقيقة أن حنجرته تخونه إذا اندمج بالقراءة فتصدح به بصوت يُسمع جيرانه والمارين بالطريق، ووصل خبره إلى أبي جهل فبدأ يعذبه أشد العذاب ومن ذلك أنه كان يلبسه درعا من حديد ويتركه بالشمس الحارقة، ويضعه على الرمال والحصى الملتهبة ويثبته بحجر على بطنه، ولما يئسوا منه أحضروا أمه وأبيه وبدأوا يعذبوهم فوجدوهم على الإسلام، وكان في نفوسهم قهر تراكم في أنفسهم عبر السنين من مجتمع لم يرحمهم ولم يحترم إنسانيتهم فعزز انتماءهم للإسلام فصبروا حتى الشهادة ولم ينالوها إلا وقد سعدوا ببشرى النبي عليه السلام "صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة" أما عمار فقد زوده النبي بسلاح يراوغ فيه المشركين حين قال له حين هلوس ببعض ما سألوه من النيل من النبي وقلبه مطمئن بالإسلام "إن عادوا فعد" شرف عظيم أن يكتب لك سطر في ملحمة الإسلام، أما أن تشهد كل السطور بانتمائك وتضحيتك ورفعتك وتجاوزك حقك في سبيل الله فذلك نور من الله غمرك وفاض حتى وسع الكون.

أسامة نجاتي سدر

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت