يعيش العالم في هذه الأيام ظروف وأوضاع استثنائية معقدة من جراء انتشار فيروس كورونا " كوفيد 19 " ، والذي صنفته منظمة الصحة العالمية بالوباء العالمي الذي غزا معظم دول العالم ، مما أصاب أكثر من أربعة مليون إنسان حتى الآن وأودى بحياة ربع مليون شخص ، والى تراجع كبير في كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وكانت بدايات انتشاره في مدينة " ووهان " الصينية ، وهنا نسجل كل الاحترام والتقدير لحكومة الصين الشعبية ، والتي انطلقت من قدسية الإنسان وحمايته والحفاظ عليه وتعاملت بجدية عالية ، وفق خطة وبمنهجية عالية من خلال جملة من الإجراءات القاسية من عزل وحجر وحملات التعقيم المستمرة ، واستخدام كل الوسائل التكنولوجية من روبوتات وطائرات مسيرة وبرامج التوعية والإرشاد وتشييد المستشفيات الميدانية والميزانيات التي تم رصدها لذلك ، بالإضافة إلى متانة وقوة جهازها الصحي مما أدى إلى السيطرة والحد من انتشار الفيروس بشكل كبير ، وإدارة الأزمة بحكمة واقتدار وهذا بشهادة منظمة الصحة العالمية ، ولم تبخل في تقديم يد المساعدة لكل الدول لمواجهة هذا الفيروس الزاحف على هذا العالم .
في إطار مقارنة التجربة الصينية في مواجهة هذا الوباء مع التجربة الأوروبية لم يكن هناك استجابة فورية منذ بداية انتشاره ، وإتباع لسياسة الانتظار والترقب أدى ذلك إلى تأخير في الإجراءات وغياب التنسيق والتعاون بين أعضاء الاتحاد وإغلاق الحدود وإتباع سياسات تتناقض مع منظومة حقوق الإنسان ، مثال " مناعة القطيع " و " البقاء للأقوى " والتي تسببت في هذا الانتشار الواسع للمرض الذي أدى إلى ارتفاع كبير في نسب الوفيات ، مثل ايطاليا واسبانيا وغيرها ، وكذلك انتشاره الواسع في أمريكا ، ويرجع هناك لعدم الجدية والاستهتار وسياسة التخبط والتأخير في اتخاذ الإجراءات والافتقار إلى التخطيط والإعداد وعدم اتخاذ قرارات استباقية والتباطؤ في اتخاذ الإجراءات وعدم الجاهزية ونقص في المستلزمات الطبية ، وحرصت على استمرار عجلة الاقتصاد على حساب الإنسان وصحته رغم التحذيرات المتكررة من قبل منظمة الصحة العالمية ، والذي واجهته إدارة ترامب بالاستهزاء وكيل الاتهامات للصين والانسحاب من منظمة الصحة العالمية منتقداً إدارتها للازمة وتبين من خلال هذه الأزمة هشاشة الدول الكبرى والغنية وعدم قدرتها على المواجهة .
وأود هنا في هذا المقال تسليط الضوء على التجربة الفلسطينية وذلك لأهميتها منذ بدايات الأزمة ، حيث اصدر الرئيس مرسوماً أعلن في حالة الطوارئ في البلاد ، والتي استندت إلى قاعدة أساسية انطلقت منها ( درهم وقاية خير من قنطار علاج ) حيث باشرت الحكومة بتنفيذ المرسوم وما يعنيه ذلك أن رأس الهرم السياسي أشرف مباشرة على الوضع واتخذت جملة من الإجراءات والتدابير الاحتياطية ، تراوحت بين تشكيل لجان طوارئ في كل التجمعات ، تشمل كل المكونات وتجهيز أماكن للحجر الصحي والعزل وإغلاق المدارس والجامعات والمساجد والكنائس وإلغاء التجمعات وإغلاق المدن ومنع الحركة بين المدن ، وتنظيم حركة العمال دخولهم وعودتهم ، على الرغم من أن دولة فلسطين دولة تحت الاحتلال تعاني من أشكال القهر والإذلال والحصار والسيطرة على المعابر والحدود وسياسة الاحتلال في عدم اتخاذ إجراءات للوقاية وعدم الانتشار سواء في صفوف العمال أو بين الأسرى في السجون ومحاولات الاحتلال نشره بين أبناء شعبنا ، وكان لتداعيات هذه الأزمة تراجع كبير في الاقتصاد وارتفاع منسوب البطالة وانكشاف لكثير العائلات ولعبت وزارة التنمية الاجتماعية في ذلك للتخفيف من معاناة شعبنا وتقديمها لكل أشكال المساعدات المادية والمعنوية كذلك " صندوق وقفة عز " والتحضيرات لتقديم المساعدات للعمال الذين فقدوا مصدر دخلهم ، واتسمت السياسة الفلسطينية بالتدرج والتوازن ما بين الإجراءات الصحية والاقتصادية .
ونسجل في هذا الإطار كل التثمين والتقدير لجهود الطواقم الطبية والأجهزة الأمنية ومتابعاتهم المتواصلة ، واستغلال الاحتلال لهذا الوضع لتمرير سياساته من استيطان وضم وتوسع عنصري وسباق مع الوقت لرفض الأمر الواقع الاحتلالي على الأرض الفلسطينية المحتلة .
تبين مما سبق أن تجربة دولة فلسطين في إدارتها لأزمة " كورونا " كانت ناجحة بكل المقاييس وحمّت شعبنا من تداعيات هذا الوباء العالمي الفتاك ، وهذا بشهادة منظمة الصحة العالمية واعتبرت إجراءاتها الاحترازية متقدمة على العديد من الدول بعكس دول كبرى تهاوت وانهار نظامها الصحي في ظل تداعي أسس إدارة شؤون تلك البلدان التي انكشفت عورتها أثناء مواجهتها الهشة للكارثة الإنسانية المعاشة .
حكم طالب *
كاتب ومحلل سياسي فلسطيني
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت