نتفق جميعا حول ضرورة اتخاذ الحكومة الفلسطينية لكافة الإجراءات الحكومية الفعالة لمواجهة آثار فيروس كورونا وضمان حماية الصحة العامة للمواطنين، إلا انه غالبا ما تمثل فرض حالات الطوارئ فرصة للسلطة التنفيذية للتراخي في أداء واجباتها وغالبا ما يتم خلالها تجاهل لحقوق الإنسان والحريات العامة.
فما مدى المخاوف الحقوقية التي يفرضها تفشي فيروس كورونا؟ وما هي التزامات الدولة الفلسطينية في مجال حقوق الإنسان فيما يتعلق بالوباء؟ وماذا عن استجابة الحكومة الفلسطينية وأساليبها التي اعتمدتها لضمان احترام مواطنة وحقوق الإنسان؟
ان الحكومة الفلسطينية ملزمة بضمان ألا تتحول الأزمة الصحية لديها إلى أزمة حقوقية، وباتخاذها خطوات تضمن حصول جميع المواطنين على الرعاية اللازمة دون تمييز، فعدم التفاوت والتفاضل في المواطنة وفي الإنسانية هو الأساس الواقعي لمساواة المواطنين أمام القانون، يقول مونتسكيو " القانون يجب ان يكون مثل الموت الذي لا يستثني أحدا"، كما انه لا يُمكن للدولة فرض قيود على الحقوق إلا إذا كانت لهدف مشروع مع النظر في تأثيرها، وعليه لا ينبغي أن تكون حالة الطوارئ بمثابة غطاء لأي عمل يمس حقوق الإنسان أو استغلالها للقمع تحت ذريعة حماية الصحة العامة، كما ان فرض حالة الطوارئ العامة في الدولة لا يمنع مطلقا قيام الحكومة بواجباتها الأساسية اتجاه مواطنيها. يقرّ قانون حقوق الإنسان أنّ "القيود التي تُفرَض على بعض الحقوق في سياق التهديدات الخطيرة للصحة العامة وحالات الطوارئ العامة التي تهدّد حياة الأمة، يُمكِن تبريرها عندما يكون لها أساس قانوني وتكون ضرورية للغاية، بناءً على أدلة علمية، ولا يكون تطبيقها تعسفيا ولا تمييزيا، ولفترة زمنية محددة، وتحترم كرامة الإنسان، وتكون قابلة للمراجعة ومتناسبة من أجل تحقيق الهدف المنشود." ومن أبرز الحقوق التي تتأثر بشكل مباشر بإعلان حالة الطوارئ في هذه الظروف:
1- الحق في الرعاية الصحية: بقيام الحكومة الفلسطينية توفير المرافق والسلع والخدمات الصحية بالكميات الكافية، وأن تكون متاحة للجميع دون تمييز، وبأسعار معقولة للجميع، ومقبولة أي أنها تحترم أخلاقيات مهنة الطب وعالية الجودة. وضمان حصول السكان المهمشين على الرعاية الصحية دون تمييز أي حصول الجميع على العلاج وعدم حرمانهم من الرعاية الصحية أو الوقائية وألا تمنع الحواجز المالية المواطنين من الحصول عليها. ومع الإشارة لأن القطاع الصحي الفلسطيني يعاني الضعف من قبل حصول الأزمة الصحية العالمية مما دفع الحكومة الفلسطينية لفرض حالة الطوارئ مبكرا واتباع السياسيات الوقائية لتجنب خطر تفشي المرض قدر استطاعتها.
2- الحق في حرية التعبير: إن الحكومة الفلسطينية مُلزمة بحماية الحق في حرية التعبير بما في ذلك الحق في استلام ونشر المعلومات، هناك بعض القيود المسموح بها على حرية التعبير في حالة الطوارئ لأسباب تتعلق بالصحة العامة باعتبار أن البيانات الصحية لها حساسية خاصة، ونشر المعلومات على الانترنت قد يُشكّل خطرا كبيرا على الأشخاص المصابين لا سيما من هم في مواضع ضعف وتهميش في المجتمع، إلا أن هذا يجب ألا يعرّض حق حرية التعبير للخطر او القمع، بحيث يكون الاستخدام المناسب للبيانات الصحية الشخصية محكوما بضمانات قانونية قائمة على الحقوق، فعند اتخاذ الحكومة لتدابير ضدّ الصحفيين والعاملين في الرعاية الصحية، ذلك يقلّل من فاعلية التواصل حول المرض وكذلك يقلل الثقة في عمل الحكومة.
3- الحق في الوصول للمعلومات الهامة: قدمت الحكومة الفلسطينية دورا حسنا بشأن الشفافية وتدفق للمعلومات، كونها المسؤولة عن تقديم المعلومات اللازمة عن فيروس كورونا والتأكد من أنّ المعلومات التي تقدّمها لمواطنيها دقيقة وفي وقتها، وقد أتاحت جميع المعلومات لمختلف فئات الشعب الفلسطيني بلغة سهلة وواضحة، بما في ذلك مخاطبة الأطفال بمعلومات مناسبة لأعمارهم، عدا عن اعتماد الإيجازي الصباحي والمسائي بتقديم التفسيرات والمبررات، بما يعزز الثقة المعلومة ويساعد في عملية اتخاذ القرار المناسب ويعتبر ذلك مهمّ لمعالجة المعلومات الكاذبة والمضلّلة في مثل تلك الأوضاع.
4- الحق في التنقل: كون حرية التنقل أحد اهم الأسباب الرئيسية المتعلقة بنقل عدوى المرض، فقد تعين على الحكومة الفلسطينية أن تلجأ إلى القيود الإلزامية المبررة والضرورية مع تجنب القيود الشاملة والفضفاضة على التنقل والحرية الشخصية، وذلك مع ضرورة قيامها بمحاولات جادة لتأمين آليات لدعم المواطنين المتضررين. كما وينبغي على الحكومة عدم استغلال امتلاكها سلطة واسعة بموجب القانون الدولي لحظر دخول الزائرين من دول أخرى، أو قرارات حظر السفر وتقييد حرية التنقل، ومراعاتها لعدم التعسف أو التمييز.
5- الحق في الحصول على الغذاء والماء والخدمات المجتمعية: بفرض الحكومة الفلسطينية للحجر الصحي أو الإغلاق، تكون مُلزمة بضمان استمرار الخدمات والعمليات الأساسية، بحيث تستطيع المنظمات المجتمعية، ومزودي الخدمات الضرورية الاستمرار في أداء مهامهم الضرورية وتلبية احتياجات المواطنين، مع عمل الحكومة على استراتيجيات بديلة في حال انقطاع الخدمات وتوفّر مصادر طارئة للخدمات المماثلة.
6- الحق في التعليم: اغلاق المدارس وانقطاع تعليم الطلاب فرض على الحكومة الفلسطينية التدخل وإيجاد حلول قائمة على التكنولوجيا والتعلّم عبر الإنترنت للتخفيف من الأثر المباشر لفقدان التدريس المعتاد، ورغم ان العديد من الطلاب يمكنهم استخدام الأجهزة التكنولوجية في المنزل الا ان الاتصال بالإنترنت غير متاح بما يكفي لجميع الفئات الاجتماعية. وعليه نرى ضرورة محاولة تعويض وقت الدراسة الفعلي في المدارس بمجرد إعادة فتح المدارس وتبنّي استراتيجيات لتخفيف الآثار عبر العمل مع المعلمين، ومسؤولي المدارس لوضع خطط لتعويض ساعات التدريس، وآليات الامتحانات، وضمان التعويض العادل للمعلمين وموظفي المدارس الذين يعملون ساعات إضافية.
7- حماية المحتجزين والأشخاص في المؤسسات الرعائية: الخطر يزداد حدة في مراكز الاحتجاز، والمؤسسات التي يعيش فيها كبار السنّ وذوي الإعاقة حيث يستطيع الفيروس الانتشار بسرعة لا سيما إذا كان الحصول على الرعاية الصحية ضعيفا، وعلى الحكومة الفلسطينية ضمان الرعاية الصحية للمحتجزين في هذه المؤسسات الرعائية، وأن تُوازن بين حمايتهم كونهم الأكثر عرضة للخطر وبين حاجتهم إلى العائلة والتواصل.
8- حماية المحتجزين والأشخاص في السجون: المحتجزين في السجون لهم الحق نفسه في الصحة كغير المحتجزين ويستحقون معايير الوقاية والعلاج نفسها، وتوفير اللوازم الصحية اللازمة وضمان التعقيم المنتظم، مع التأكد من قدرة منشأة الاحتجاز على حماية صحة المحتجزين، بما يشمل ضمان حصولهم على العلاج. وكان ينبغي ان تقوم السلطة التي تدير السجون أن تكشف للعلن عن خططها لتقليص خطر الإصابة بفيروس كورونا في هذه المنشآت والخطوات التي ستتخذها لاحتواء العدوى وحماية المساجين، وموظفي السجن، والزوار، وخططها في حال وجود إصابات خطر التعرض للإصابة بالفيروس. مع مراعاتها لتقليص عدد السجناء بالإفراج المشروط المناسب أو المبكّر للذين يكون احتجازهم غير مبرّر والأكثر عرضة لخطر تأثيرات الفيروس، مع الأخذ باعتبارهم لعوامل مثل خطورة الجريمة المرتكبة وفترة السجن أو العمل عل خطط لإيجاد بدائل للاحتجاز، مع مراعاة ان أي خطط منع خروج أو عزل يجب أن تكون محدودة النطاق مع نظر السلطة في مراكز الاحتجاز في استراتيجيات بديلة، لتمكين الأشخاص من الاتصال بعائلاتهم أو محاميهم. مع استثناء المدانين بجرائم الفساد من العفو العام والخاص كما جرى في قرار العفو الخاص الذي أصدره الرئيس محمود عباس في ظل جائحة كورونا نظرا لخطورة جرائم الفساد على الدولة والمجتمع برمته.
9- حماية العاملين في قطاع الصحة: ينبغي على الحكومة الفلسطينية ضمان حصول العاملين في قطاع الصحة على معدات الحماية المناسبة وأن توفّر برامج الحماية الاجتماعية لأسر العمال الذين قد يموتون أو يمرضون نتيجة عملهم، وأن تشمل هذه البرامج العمال غير الرسميين، الذين يُشكّلون نسبة كبيرة من قطاع تقديم الرعاية الصحية الفلسطيني.
10- حماية النساء والفتيات من الآثار المرتبطة بالنوع الاجتماعي: أصبح واضحا بالغالب ان تفشي الأمراض العالمية يحمل آثارا مرتبطة بالنوع الاجتماعي ضارة بشكل خاص على النساء والفتيات، وتعزّز اللامساواة الجندرية القائمة منذ أمد طويل وما تزال. حيث ان التفشي قد يؤثر سلبا على الصحة والحقوق الجنسية والإنجابية مما يُعرّض النساء أكثر للخطر، عدا عن زيادة في العنف الأسري تحت الحجر الصحي نتيجة لتزايد الأزمات ومنع الخروج وبسبب زيادة الضغوط، والأوضاع المعيشية الصعبة وفي أماكن صغيرة مكتظة، مع انهيار آليات الدعم المجتمعي اللازمة، مما يحد من قدرة النساء على تفادي الانتهاكات وفي بيئة تفتقر إلى الخدمات المناسبة مثل مأوى آمن بعيدا عن المنتهِكين أو حتى المحاسبة على الانتهاكات. كذلك فإن التوجه نحو العمل والدراسة من المنزل كوسيلة للتباعد الاجتماعي قد يضر بالنساء والفتيات بشكل غير متناسب حيث أن النسب المحلية والعالمية تشير الي ان احتمال قدرة النساء على الاتصال بالإنترنت او امتلاك هاتف ذكي أقل من قدرة الرجال وحتى عند تمكن النساء من الاتصال بالإنترنت، قد تحد الفوارق الجندرية قدرتهن على استخدامه لأسباب منها التكلفة، والتنشئة الاجتماعية، والضغوط الأسرية. وعليه كان ينبغي للحكومة الفلسطينية التأكد من إتاحة الخدمات لجميع ضحايا العنف الأسري، بمن فيهن من يعشن في مناطق تخضع لقيود الحركة أو الحجر، وكذلك ضمانها أن تتناول حملات التوعية العامة كيفية حصول ضحايا العنف الأسري من النساء على الخدمات اللازمة.
11- حماية الأشخاص المصابون بالمرض وأسرهم من التعرض للتمييز والوصم: بما لا يعبر عن اخلاق المجتمع الفلسطيني الذي يتميز بالترابط الاجتماعي ومكافحة الوصم والتمييز وخاصة في أوقات الأزمات ويجدر التبليغ في حال وقوع حوادث كالاعتداءات الجسدية والتنمّر وغيرها، وينبغي على الحكومة الفلسطينية اتخاذ الإجراءات الحماية من الاعتداءات التي قد تستهدف الأفراد على إثر اصابتهم بفيروس كورونا، والتحقيق في جميع الحوادث المُبلغ عنها، ومحاسبة المرتكبين، وأن تكون الاستجابات شاملة لتوسيع الوعي العام بحقوق الإنسان، والإقرار بأن الفيروس لا يعرف حدودا ولا يعترف بأي تمييز. كذلك ينبغي ضمان حماية خصوصية المرضى حتى عندما تتخذ السلطات خطوات لتحديد من تعرضوا للفيروس.
12- الحصول على المساعدات الإنسانية والاقتصادية ومساعدة العمال محدودي الدخل: يعتمد الكثير من المواطنين على المساعدات الإنسانية التي تقوم بها وكالات المعونة المختلفة، لذا وجب على الحكومة الفلسطينية اتخاذ تدابير سياسية لتخفيف الآثار الاقتصادية لفيروس كورونا، والتي تؤثر بشدة أكبر على العمال ذوي الأجور المنخفضة في الأسر المحدودة الدخل، وإنشاء آليات لتفادي تعرّضهم لفقدان الدخل الذي قد يمنعهم من العزل الذاتي لاحتواء انتشار الفيروس. حيث ان العمل عن بعد ليس متاحا لكثير من مجالات العمال مما يترك أوضاع عمالة أقل استقرار، عدا عن فقدان الدخل فهنالك أعباء إضافية فمثلا قد يتخلفون عن سداد أقساط ديونهم، وأجرة مساكنهم.. إلخ. قد اتخذت السلطة الفلسطينية أحد خيارات المساعدة وهو الدفعات النقدية المباشرة لتعويض بعض ساعات العمل الضائعة.
وفي سياق ما سبق فقد صرحت المفوضة السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان السيدة ميشل باشليه "ضرورة أن تحتّل كرامة الإنسان وحقوقه الأولويّة في الجهود المبذولة لمكافحة فيروس كورونا COVID-19، لا أن نتركها لمرحلة لاحقة، ويجب دائمًا أن يتمّ تنفيذ عمليات الإغلاق والحجر الصحي وغيرها من التدابير الأخرى المخصّصة لاحتواء ومكافحة انتشار فيروس كورونا بما يتماشى تمامًا مع معايير حقوق الإنسان، ووفقًا للضرورة وبطريقة متناسبة مع المخاطر التي يتم تقييمها".
خلاصة القول انه ينبغي على الحكومة الفلسطينية وخصوصا خلال فرض حالة الطوارئ، تفعيل الاهتمام بحقوق الإنسان مثل عدم التمييز، ومبادئ حقوق الإنسان مثل الشفافية واحترام الكرامة الإنسانية والحدّ من الأضرار التي قد تنجر عن فرض التدابير الفضفاضة التي لا تُراعي المعايير اللازمة. مع التأكيد على أن فرض حالة الطوارئ لا يلغي دور المواطن في المساءلة المجتمعية لأصحاب القرار حول العدالة التوزيعية وطريقة إدارة الشأن العام والمساهمة في صياغة مستقبل الوطن باعتبار المشاركة الواعية في بناء الإطار الاجتماعي، بشرط مراعاة المحتوى المناسب والأداة المناسبة لمساءلتهم بما يضمن مشاركة المواطن، وخاصة في ظل عدم توفر امكانيات الدولة اللازمة فمن الأنسب اتخاذ التدابير التي تعزز تعاون الحكومة والمواطن في الحمل العام. كما ويلعب المجتمع المدني دورا في تدعيم قيم الحقوق الأساسية والمواطنة الجيدة، وإرساء ثقافة الحقوق والواجبات، وتعميق مبادئ المساواة والحرية والعدالة والشفافية والمساءلة وكشف الفساد، ويرتبط بذلك الدور ضرورة ضمان الدولة الفلسطينية للحريات والحقوق الأساسية لمواطنيها بهدف الصمود ضد التحديات المختلفة التي تواجها داخليا وخارجيا. وإن خلق مثل هذا التوازن هو في مصلحة الجميع، فالمواطنين لهم مصلحة ملحة في معرفة الخطط التي وضعتها السلطات الفلسطينية لمواجهة فيروس كورونا، بعيدا عن قدرة البعض على التصفيق للحكام أياً كانت الظروف والنتائج والأليات المتخذة، ان المواطنة الحقيقية لا تمارس تزييفاً للواقع، وإنما تتعامل مع هذا الواقع من منطلق الاعتراف بحقائقه الجارية، وتعمل على فتح المجال للحرية والأمن والاستقرار، مُصانة بنظام وقانون يحول دون التعدّي على مُقتضيات المواطنة الواحدة المتساوية.
م. إسلام خضر بدوان – باحثة في التنمية
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت