غزة السجن الكبير تبتكر وسائل الجمال، تصنع دراما تقول: نحن شعب يستحق الحياة ولن يموت أبداً. فكلما ستطاع مخرج فلسطيني أن يخرج بعمل يخاطب العقل ويحرك العاطفة ويحلق في الفضاء ليعبر عن قضيتنا العادلة، كلما شعرنا أننا سنكون يوماً ما نريد، فالإبداع يهذب المشاعر ويمنحنا القدرة على الحياة ويورث الأجيال فضاء مشرقا بالمعرفة.. فشكراً لطاقم مسلسل العنقود الذي أثلج صدورنا وجعلنا نستبشر خيراً بالطاقات الشبابية التي قررت أن تكون فكانت بقوة.
فغزة السجينة المتهمة دوما بلا حب، تزدهر جمالاً وتصنع دراما تسرد وجع الحرب، فشكرا لطاقم العمل الذي تفانى بتوصيل هذه المشاعر وكان جسدا واحدا، ولن أستثني منهم أحداً، وأخص بالذكر المخرج حسام أبو دان، والكاتب محمد أبو شمالة, والفنان القدير "جواد حرودة" كما أبرق كل المحبة للجمهور الذي انتظر المسلسل وتنهد من الوجع وهو يبصر صورته في المرآة, ولأننا نطمح بأن نرتقي للأفضل لذا نجتهد بقراءة العمل وتسليط الضوء على الثغرات ليتم معالجتها بالمرات القادمة، فالنقد الموضوعي يساهم في البناء ملخص العمل يوثق مسلسل العنقود حرب غزة عام 2014 من خلال حصار بعض الأهالي في عيادة دكتور في شرق مدينة خانيونس، ومن خلالهم يتم نسج حكايات يتخللها أرشيف مميز يعج بصور القصف والدمار.
فكرة العمل جميلة وبها لمسة إنسانية جسدها مجموعة من الفنانين الذين استرجعوا من الذاكرة الأحداث المأساوية التي عاشوها أثناء الحرب، لذا لم تشعر للحظة أنهم يمثلون أو يرعبهم الوقوف أمام الكاميرا فهم يعيشون الحدث ويعبرون عن واقعهم المأساوي الذي عايشوه، فأحيانا يبالغون في انفعالاتهم لعدم سيطرتهم على مشاعرهم والتعبير عما يتناسب مع الموقف، فاسترجاع الألم صعب والتجربة الأولى للوقوف أمام الكاميرا مربكة. يبدأ المسلسل بمقدمة تم تصميمها بحرفية عالية، تعبر عن الواقع المأساوي للحرب وزادها جمالاً صوت الفنانة "دلال أبو آمنه".
وأنت تشاهد الحلقات الأولى والثانية تشعر بالمتعة يشدك التكوين البصري السينمائي لكن للأسف يخفت الإيقاع تدريجياً رغم التشويق الذي اجتهد المخرج في صناعته لجذب المشاهد, ما بين حرب وحصار وموت إلا أنك تشعر بكسر في الإيقاع البصري رغم أن الحدث عظيم , وعند البحث والتقصي في دهاليز المسلسل، توقفت أمام عماد العمل وهو السيناريو وآلية البناء وتركيب المشاهد ولغة الحوار ، فالبناء الجيد يحمل دائما خطاً قويا للفعل, فهو الأكثر أهمية في السيناريو, فالأحداث وتطورها من نسج شخصيات تشد بعضها بعضا بانسيابية فهي تحتاج لخبرة وخيال خصب للسيناريست حتى يجيد فن المعالجة. سألت نفسي: هل تم تحليل القصة ودراسة الشخصيات ومعالجتها ونسج الحكايات بطريقة ذكية وبحوار يعبر عنها ؟
فهناك قصص كثيرة تم اختيارها بحكمة وتروٍّ ،كانت تحتاج فقط للمعالجة كي تنمو بشكل طبيعي وتترك بصمة في وجدان المشاهد لفترة من الزمن ،فقصة الدكتور وابنه المريض الذي يتعالج دون والديه بالمحافظات الشمالية, ولاعب كرة القدم الذي يحلم أن ينطلق, والمقاوم الذي ينتظر طفله, و قصة زفاف عمر واستشهاده, وتامر الذي يحلم بالهجرة, والأب الذي يحضر لأبنائه الماء ويضعهم في البئر للحفاظ عليهم, وبائع القهوة, وموزع النت وشخصيات أخرى لم تعالَج بالشكل الصحيح, وبقيت مسطحة غير نامية, صنعت لتبث أخباراً ، للأسف ستذوب بعد نهاية العمل، باستثناء مشهد استشهاد عمر وهو يحاول جلب الماء للمحاصرين، سيبقي حي في مخيلة المشاهد لفترة أكبر من الزمن ..
فهو نتج من خلال سياق طبيعي للحدث بعكس مشهد لاعب الكرة "زيكو ", وقصة استشهاده التي تم اقحامها في العمل بدون أي تمهيد أو معالجة ليستجدي الكاتب عاطفة المشاهدين، ورغم أن فكرة اختيار لاعب كرة واستشهاده فكرة عبقرية لو تم معالجتها بسياق الحدث، لترك بصمة في قلب عشاق الكرة في العالم.
وبخصوص الفنان "جواد حرودة " والذي قام بدور الدكتور.. من خلال متابعتي لتجربته الفنية هو فنان مبدع وقدير، وقد أحسن الإداء في المساحة الضيقة التي منحت له وجعلته يقدم شخصية نمطية، فالقصص داخل الحجز معالجتها ضعيفة جداً تفتقد للجاذبية والانسيابية والابتكار، لن تترك بصمة بعد انتهاء المسلسل، تمنيت أن نرى تفاصيل لشخصية الدكتور القائد الإنسان أثناء الحصار في العيادة وهو يغني ويلعب مع الأطفال، ويمنح من حوله طاقة إيجابية، رغم وجعه لم نتعرف على ملامح شخصيته رغم محاولة المخرج البائسة لاسترجاع مشاهد من الذاكرة تتناول الحياة الطبيعية للمحاصرين.
كما اعتمد المخرج على حوار المواعظ وعلى المونولوج الشخصي في العمل، وكأننا نشاهد عرضاً مسرحيا يعتمد على الانشاء والخطابة، قدم بشكل سطحي، لم نكن نحتاج أن تثقلوا علينا بالمواعظ والمونولوجات، فالحكاية مأساة شعب تطحنه الطائرات والدبابات أكبر من الكلام، فكل ما نحتاجه صورة تعبر عن الحدث وقليل من الكلام.
نعو د لقصة المسلسل وحصار العائلات داخل العيادة ، يريد الكاتب والمخرج أن يوهما المشاهدين أن هؤلاء العائلات انقطع بهم السبل داخل العيادة وانفصلوا عن العالم إلا أنهم لم يجيدوا فن الاقناع ،فزوجة عمر تعلم أنه محاصر في العيادة من خلال رسالة عبر الجوال, ومن البداية تترك مدرسة الايواء وتتجه صوبهم ، كما نشاهد دخول الجريح تامر وصديقه باسل بعد أن قطعوا مسافات حتى وصلوا للعيادة و عودة المقاوم كريم ثم رحيله وخروج ثائر من العيادة لإحضار اللاب توب ,وقد استطاع أن يذهب ويأتي بدون إشكالية, فالذي يحضر اللاب توب بإمكانه أن ينجوا بنفسه وينقذ من حوله من الخطر وخاصة بعد قصف العيادة واستشهاد "زيكو " لاعب الكرة وعودة الحياة لما كانت عليه وكأن شيء لم يحدث في المكان، بعد ذلك يخرج الأب و يحضر كمية قليلة من الماء ليبلل ظمأ أطفاله والمحاصرين معهم وهذا غير منطقي .
استطاع المكياج أن يجسد حالة العطش على وجوههم ولكن بعد حلقتين ينسى المخرج قصة العطش، ونرى الأطفال يلعبون ويمرحون داخل العيادة وليس هناك أي معالم تدل على عطش الموجودين، وبأسلوب غير أخلاقي مؤلم يأخذ الأب أطفاله ويضعهم خارج المكان في بئر في الشارع ويغلقه عليهم بحجة الأمن ويعود إلى العيادة، وعندما يشتد القصف ويعود مرة ثانية للبئر ولا يجدهم لم يمنح نفسه وقتاً كافياً في البحث عنهم، يرجع للعيادة ويجسد انفعالات زائفة لا توحي أن هذا الأب فقد أولاده.
كما تترك زوجة المقاوم طفلها المولود قبل أيام وتخرج أسيرة دون إبداء أي اعتراض أمام قوات الاحتلال التي اقتحمت العيادة للبحث عن الجندي الإسرائيلي المصاب، وقامت بإطلاق سراحه وأسر كل من في العيادة فهذا المشهد مجحف ويسيء للأم الفلسطينية المناضلة... ومشهد لقاء كريم المقاوم بزوجته بعد الولادة كان ضعيفا جداً، يفتقد للمشاعر الإنسانية لأب يستقبل أول مولود، ويشعر بالحنين لزوجته. والاستعانة بقطعة قماش بدل الطفل المولود كان مضحكا واستهتارا بمشاعر المشاهد.
جميل أن يستحضر الكاتب شخصية أصم في العمل ولكن وجود الشخصية أو عدمه لم يضف شيئاً للعمل. هذا الملاحظات التي تتناول السيناريو والشخصيات والمعالجة بخصوص التصوير والمونتاج ... أبدع الطاقم الفني من خلال المخرج ما بين مصور ومونتير ومعالج بصري للألوان، فرسموا لوحات جميلة تعبر عن الحدث، كما أبدع الموسيقار جبر الحاج في تجسيد موسيقى تحاكي المشهد وتعبر عنه.
ما لفت انتباهي للرؤية الإخراجية للعمل أن المخرج سلط الضوء على جيش الاحتلال والتقنية التي يرصد بها القطاع و حركة الجنود المنظمة وحفاظ القائد على جنوده ومتابعة تحركهم على الأرض, حيث يقول قائد الاحتلال في الحلقة السادسة: " دولة إسرائيل استثمرت الكثير لأجل جنودها ، ماذا تريد أن يقولوا عليَّ, لقد أهمل جنوده", بالمقابل قدم المقاومة أثناء المواجهة بشكل تلقائي, فاتجاه الرصاص عشوائي والمقاومة لا تستند لأي عنصر يحميها, وعندما يتعرض أحد أفراد المقاومة للإصابة يذهب القائد كريم للعيادة ليحضر الدواء لمعالجة المصاب فيتفاجأ بوجود الدكتور و بعض العائلات المحاصرة فيجرى حوار مع الطبيب ومع زوجته, ويلتقي بمولوده الأول غير مبالٍ بالوقت الزمني ورفيقه الجريح ،ما ينتج عن ذلك استشهاد المقاوم بصورة أو بأخرى ..
كأن بالإمكان للسيناريست أن يجمعهم ويربط بين القائد والمحاصرين ولكن بمشهد اخر لا يكون هناك جريح ينزف وقائد يقضى قليلاً من الوقت في الحديث مع الطبيب والزوجة ويعانق مولوده الأول. وعد المقاوم كريم المحاصرين أن يعود ليطلق سراحهم فانتظروه ولكنه لم يأت ليغيثهم، جاء الاحتلال قبله وأسرهم وفي النهاية شاهدناه وقد جاء متأخراً بعد فوات الأوان. هذه الرسالة غير المقصودة والتي تعبر عن المقاومة وجنود الاحتلال، أخشى أن تعود على المشاهد بمردود سلبي، فرصد غزة تكنولوجيا من قبل المحتل مشهد جميل ومصنوع بحرفية، لكن الجمال يحتاج للعقل، فمنح المحتل هذه المساحة وبهذه الصورة مجانياً، اعتقد أنها غير محببة.
نحن بحاجة لتحديد نوع الخطاب ولمن نوجهه حتى تستقيم رسالتنا الإعلامية. استرجاع الذاكرة للشخصيات والانتقال من زمن لزمن للحديث عن الجوانب الإنسانية للشخصيات كان فجاً ولم يكن هناك انسيابية في القطع والانتقال من زمان لآخر, فالاعتماد على استرجاع الذاكرة بهذه الكثافة يضعف العمل ويشتت المشاهد, تجاوز الخط الوهمي في كل حلقة وتخطي هذا الخط أثناء التصوير ينتج عنه موقف متناقض بصرياً بالنسبة للمتفرج. وأخيراً المسلسل تناول حالة عامة جسدتها طاقات شباب مبدعة لم تأخذ مساحتها الفنية، فنتمنى على المخرج أن يمنحها مساحة أكبر في المرات القادمة، لتعبر عن جمال ما لديها. كل التوفيق للمخرج وللكاتب ولطاقم العمل المبدع ولكل من شارك بهذا النجاح، ونحن ما زلنا ننتظر جديدكم.
قراءة الكاتب والمخرج / مصطفى النبيه
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت