بسيطة كانت تلك الحياة المعيشية اليومية، وبسيطة كانت معها لوازمها الآنية، لكنها كانت غنية، مُتخمة بالحيوية، ومتخمة بمعنويات عالية عند عموم فلسطينيي سوريا الذين كانت الآمال مغروسة وقوية في أفئدتهم بأن طريق العودة آت لاريب فيه، وهي قناعةٌ مازالت موجودة بالرغم من نائبات الزمن الدوار، وزمن التهتُك والإنتكاسات في بلاد العرب ِ أوطاني.
بسيطة تلك الحياة اليومية، التي كان فيها من الموجودات ماهو مُتواضع بالنسبة لزخم الموجود حالياً، فكان زمن (بابور الكاز) أو (البريموس) أجلّ وأثمن وأحلى وأحَنُّ من زمن (البوتوغاز) و (الشوفاج) و (الشمينيه) ... زمن (بابور الكاز) أو (زمن البريموس) كما كان يسميه أهلنا في فلسطين، هو زمن المخيم الأصلي، زمن التحدي الهائل لجبال المصاعب من قبل أجيال التحدي الفلسطينية التي خرجت مُنكسرة ومُحطّمة من الوطن الفلسطيني، لكنها كانت مُتخمة بالإرادة غير قابلة للرضوخ.
كان (بابور الكاز) واحداً من الموجودات الثرية في ديار اليرموك، في مهمات عدة ومتعددة، منها للطبخِ والنفخِ، ومنها للتدفئة ولكل لوازم التسخين. فكان مُلازماً لكل أسرة بأعيرته التي لاتشبه أعيرة الهاونات اللئيمة بقذراتها ونذالتها التي سقطت على رؤوس الناس في المحنة الأليمة، فكان هناك (بابور الكاز) ذو رأس نمرة واحد، ونمرة إثنان، ونمرة ثلاثة ... والعائلة الثرية كان لديها كلِ تِلكَ النمر من رأس (بابور الكاز).
كان (بابور الكاز) الوسيلة الأساسية لعملية طهو الطعام حتى بدايات سبعينيات القرن الماضي، كما كان يُستخدم لأغراضٍ إضافية، كان منها للتدفئة بوضع غطاء (علبة سمنة) عليه، أو قطعة مربعة أو دائرية من معدن الحديد الرقيق (التنك) لنشر الحرارة وإحداث حالة من التدفئة. عدا عن تحميص الخبز خصوصاً في أيام الشتاء... أما تحضير (مية البندورة) فكانت نادراً ماتجري بواسطة بوابير الكاز، إذ كان أهالي المخيم وخصوصاً أهالي المنابيت الريفية في فلسطين يعملون على إعدادها بالطريقة التي كانت تتم في فلسطين في قرى الجليل على نار الحطب ... وما أجمل تلك الأيام، قبل أن تتوجه الناس للمواد الجاهزة ...
(بوابير الكاز) كانت دوماً حاضرة في حياة الناس اليومية، وقد أصبحت جزءاً من التراث، تراث مخيم اليرموك، وتراث فلسطين من قبل النكبة. وكانت عملية إصلاح تلك البوابير، بسيطة على يد بسطاء من أبناء اليرموك، وبأسعار مُتواضعة كان أثمنها سعر رأس البابور النحاسي حال تَعطُلِهِ الكلي وقد كانت تقترب من ليرتان سوريتان (200 قرش) هكذا...
إقتصرت محلات تصليح بوابير الكاز على عددٍ محدود من الصنايعية، كان على رأسهم المرحوم أبو العبد بكر، وهو من أهالي صفورية، وكان يلقب بـ (أبو العبد المِستوي) وهو من إمتلك خبرة عالية في تصليح البوابير، في محله القديم على شارع اليرموك مقابل شارع فؤاد حجازي، ومن ثم في شارع حيفا، فضلاً عن قيامه على الدراجة الهوائية بجولات تصليح البوابير في مناطق المخيم المُختلفة، ولاننسى هنا أيضاً أبو فواز شرف وأبو خليل، وأبو أحمد نايف الطبراني في شارع مفلح السالم وغيرهم...
وأضيف، أن باني مسجد الوسيم باليرموك، وهو من عائلة (عجينة) من حيفا، وقد بنى المسجد عن روه ولده الشاب الذي فقده في حادث، كان صاحب محل لتصليح (البريموس) في حيفا قبل النكبة، في محله المعروف للحيفاويين قبل الشتات والتهجير... واستطاع ان يطوّر امكانيته المهنية بعد النكبة، والسفر الى الخليج والعمل بمهنٍ مختلفة.
تلك الأدوات البسيطة، تلخص في تعدادها حياة الناس اليومية بعد اللجوء والنكبة، وتلخص في وجودها سيرة مخيم اليرموك من جوانبها المختلفة.
بقلم علي بدوان
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت