الإسلاميون والهوية وثقل الأوهام والافتراءات

بقلم: سري سمور

سري سمور

استغرب حدّ الدهشة حين علم أن ثقافتي ومعلوماتي عن الزواج ومتعلقاته لا تنحصر أو تتمركز من حيث المصدر من كتاب (تحفة العروس أو الزواج الإسلامي السعيد).. وآخر نظر بفضول أتبعه بتعليق لا يخلو من استغراب حين رأى زجاجة عطر أستخدمها، ليست من ماركة العطور الزيتية التي يقال بأنها تخلو تماما من الكحول.. كلاهما عربيان مسلمان وهذا كان قبل ما يقرب من ثلاثين حجّة. والملاحظات من هذا النوع سمعتها قبل عشر سنين من غير العرب والمسلمين؛ فأحد محققي الشاباك علّق بنوع من الاستعراض المعلوماتي حين طلبت شرب القهوة قائلا: المشايخ دائما يطلبون شرب الشاي، وهم يحبونه كثيرا.. لم أجد بدّا من تعليق ساخر من سخريته: حدّث قاعدة البيانات إذن، فهاك شيخ -واعلم أنه ليس الوحيد- يحب شرب القهوة لا الشاي!

 
الهوية والتميز

ينبغي لمن أراد أن يدرس أو يعرف حالة الإسلاميين بإنصاف بعيداً عن التنميط أو الأحكام المسبقة، أن يتسلح بالوعي الكامل بالمراحل التاريخية وأثرها عليهم وعلى من تعامل معهم، بعداء أو صداقة أو بحيادية. فاللإسلاميون أصلاً ظهروا كحالة دفاعية عن كينونة الأمة ومحتواها العقدي والثقافي، ذلك أنهم رأوا أن هوية الأمة مستهدفة من تيارات التغريب. وتعويم نمط حياة وسلوك معين، ليس بالضرورة لأنهم يعتقدون أنه من أصول الدين مثلما يروّج بعض أعدائهم أو المفترين عليهم. ففي ظل موجة تغريب كاسحة، مسنودة من نظم بوليسية اختارت (أو وجهتها العواصم والسفارات الغربية!) أن يكون الإسلام غريباً في مواطنه وحواضره التي كان له فيها صولات وجولات ورائحتها تعبق بتاريخه المجيد.. في ظل أو في خضم هذا التوجه العلماني التغريبي والذي تأثر المجتمع بتمظهراته الفكرية والسلوكية والتربوية وبالتأكيد الثقافية والفنية، يجب أو من الطبيعي أن يكون هناك شيء أو جسم يقاوم هذه التوجهات العلمانية المريبة.

 

لذا كان لدينا النوادي الإسلامية، والشريط الإسلامي والعرس الإسلامي، وطريقة حياة وسلوك عمادها التميز عن المجتمع الذي يبتعد عن هويته ويفقد خصائصه الثقافية التي يفترض أن يحافظ عليها. طبعاً وجود مجموعة معينة أو مجموعات لجأت إلى التفكير الشامل للمجتمعات وانتهجت العنف وهي غالباً مخترقة من الأنظمة الحاكمة كما تبين في أكثر من حالة هو الشاذ لا القاعدة.
 
 
رد فعل طبيعي

يروي د. فتحي الشقاقي -رحمه الله- الأمين العام المؤسس لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، كيف أن بعضهم أطلق على ابنه اسم (لهب) كي يناديه الناس بأبي لهب! لقد كنت طفلا صغيراً أو لم أكن قد جئت على هذه الدنيا حين كان بعض الناس يتصرفون بهذه الطريقة، ولكن العبد الفقير شهد زمناً كانت صلاة الجماعة في المسجد تقريباً خاصة بمن هم في الستين والسبعين والثمانين خريفاً.

 

وحدّث من هداه الله فصار حاله عكس ما كان؛ أنه كان ينقد الأطفال من أقاربه على حسب (قوّة) وكثرة منافساتهم في سبّ للذات الإلهية أو الدين! وكانت الأغاني تطفح بتمجيد الخلاعة والخمر وكثيراً ما تكون كلماتها تتناقض مع ما هو معلوم من الدين بالضرورة خاصة القضاء والقدر؛ وبالتالي كان من الطبيعي أن يكون ثمة فن ونشيد بديل، حتى لو كانت كلماته تذكر بالآخرة والموت أكثر من الأشياء الأخرى، فهذا في سياق ردة فعل طبيعية على غناء قوامه وفكرته التعامل مع هذه الحياة الدنيا على أنها سرمدية لا نهاية لها، وقلّما خلا الغناء من دعوات صريحة إلى المجون وعقوق الوالدين بل والسخرية من أحكام الدين وشرائعه وفرائضه. وبناء على ذلك فإن محاكمة وانتقاد الفن والنشيد الإسلامي ممن لم يعرف تلك المراحل والظروف ينطوي على إجحاف وافتراء أو جهل كبير بالظروف والملابسات والحيثيات التي جعلت لهذا الفن صبغة مختلفة قد تفرط في اتجاهات معينة.

 
المظهر والسلوك

حين انتشر الوشم، وحين صرت ترى في جيد الذكر الذي يفترض أنه رجل ناضج سلسلة ذهبية أو غيرها، بل بعضهم وضع في عنقه أو على صدره شعار المطرقة والمنجل (رمز الشيوعية)، وحين انتشرت المظاهر التي إن لم تخالف الدين فهي تنتقص من المروءة؛ كانت ردّة الفعل الطبيعية والمنطقية في سياقها، فصرت ترى مظهرا مضادا، وقد لا يخلو من تكلّف، أو ليس سنّة نبوية بحد ذاته، مثل ارتداء اللباس الأفغاني أو الباكستاني التقليدي في مجتمعات عربية لها لباسها التقليدي الخاص، ولكن موجة التغريب طمسته.

 

ولقد حرص الإسلاميون عموما على إحياء بعض السنن، ولكن ربما مبالغتهم في إظهارها جعل الناس يعتقدون أنهم يعتقدون أنهم يرونها مقدمة على فرائض وسنن أخرى مثل حمل السواك المقطوع من شجر الأراك، والتطيّب بعطور زيتية خاصة، وبالمناسبة فإن بعض العطور الزيتية ثمنها أغلى بأضعاف غيرها لأنها مستخرجة من المسك والعنبر الأصلي ورائحتها زكية.. هذا لعلم من يسخرون منها.

 
الأسماء والكُنى

لعل جيلا من الإسلاميين، عدد لا يستهان به منهم، كان يطلق على أولاده الذكور أسماء صحابة أو قادة ليسوا من القائمة الأولى في الأفضلية؛ فمثلا كان هناك أسماء تتحول إلى كُنى مثل (عبادة وعبيدة وحذيفة) ربما ملحوظة في أوساطهم أكثر من أسماء مثل (عمر وعثمان وعليّ) وهذا أيضا ضمن سياق التميز والحرص على إبراز هوية خاصة؛ فتلك الأسماء كان الناس يطلقونها على مواليدهم الذكور تقليدا لأسماء آبائهم فمن أبوه اسمه (عمر أو عليّ) كثيرا ما سيكون ابنه البكر حاملا لاسم أبيه هذا أو غيره بطبيعة الحال، و(أبو عمر أو أبو علي) بهذه الكنية ذات السبب العائلي المحض قد يكون من العابدين المصلين أو من العصاة الفاسقين.

 

ولكن حين تسمي ابنك وقتها (عبادة) فهذا نوع من إبراز الهوية، وأيضا لتعميم ثقافة العلم بسير الصحابة غير المعروفين للعوام؛ لأنك ستسأل وقتها عن سبب الاسم فتجيب: هو عبادة بن الصامت صحابي جليل تولّى القضاء في بيت المقدس.. لأن هناك من كان يسمي أو يحمل كنية تشير إلى التأثر بثقافة أجنبية ولو من باب الإعجاب بالنضال والكفاح وغيرها مثل (جيفارا وفانون) ولكن كان هناك من ذهبوا بعيدا فحملوا كُنى فيها أسماء (خرشوف ولينين). الأمثلة كثيرة ولكن يمكن القول إن الفرد الإسلامي كان له نمط حياة حاول بأقصى ما يمكن أن يكون مختلفا عن محيطه، وغالبا تصادم مع هذا المحيط، لأنه تعامل معه بعدوانية وازدراء وسخرية مستفزة؛ فكان للفرد نسق خاص في مظهره ولباسه وكلامه وترفيهه عن نفسه، وفي كنيته وكثير من شئون حياته.

 

فلا يجوز حاليا محاكمة الإسلاميين بطريقة لا تخلو من لوم متعال يحمل غلوّا في الاتهام والتقريع وكأنهم كانوا مجرمين حين حرصوا على نوع من التميز والهوية الخاصة في ظل مجتمع تتقاذفه العادات الغربية والأفكار العلمانية، وهو يسخر منهم.. ولقد سمعت بأذني أناسا يستهزئون بالصلاة والمصلين، ويفخرون بأنهم يفطرون في رمضان بلا عذر، وغالب أحاديث قطاع واسع من الناس يقوم على اتهام الإسلاميين بالحرص على شهوات البطن والفرج، وقد عززت الدراما المصرية هذا التنميط عبر تاريخها الطويل.

 
أفندية الإخوان

لو نظرنا إلى التيار الأكبر والأوسع انتشارا والأقدم من الإسلاميين وهو الإخوان المسلمين لوجدنا أن قادتهم بمن فيهم (المؤسس البنا والمفكر قطب) يرتدون لباس (الأفندية) أي البدلة وأحيانا الطربوش، وهو ما كان سائدا وقتها، بل كان للإخوان فرق كشفية شبابها يرتدون (الشورت) بمعنى لم يكن الإخوان يختلفون عن مجتمعهم في هذه الجزئيات، باختصار لأن مجتمعهم لم يكن يعاديهم، وإن كان يخالفهم في مظهر أو سلوك أو فكر، فكانوا يشبهونه. وحالة التأثر بالسلفية جاءت في ظروف وملابسات معروفة وسببها تغوّل الدولة البوليسية وتراجع دور الأزهر واللجوء إلى الحلول الأمنية الاستئصالية.

 
إسلامي يتهم الإسلاميين

من الطامات أن إسلاميا حاليا، أو إسلاميا سابقا، أو من جعل شغله الشاغل مناكفة الإسلاميين والتعييب عليهم، أو من فعلا قلبه على الإسلاميين ويريد بهم خيرا، يتبنى التنميط والافتراء، وبعض هؤلاء من إسلاميي التسعينيات والألفية الجديدة ممن لم يكلف نفسه دراسة ظروف المراحل التي سبقت المرحلة التي يعيشها حيث صار التوسل بالمظاهر الدينية هو السائد بعكس محاربتها علنا في مراحل أخرى، فخرج بهذه النظيرات والتنظيرات البائسة.

 

يجوز انتقاد الإسلاميين ولكن بعيدا عن الأوهام والأفكار المسبقة، وأيضا إسلاميو اليوم انتقادهم يجب أن يكون هذه الأيام -برأيي- لمبالغتهم في التماهي مع العولمة، وتخففهم من الخطاب الديني وتخليهم عن كثير من الأشياء التي كانت تمثل سمتا خاصا بهم.. لا أن يأتيك إسلامي اليوم فيتحدث عن هؤلاء باتهام وتعالم وكأنهم إسلاميو مراحل سابقة لها ظروفها وملابساتها، كما أنه من غير اللائق أن ينضم إسلاميون إلى جوقة المفترين.. وتصرفات الإسلاميين في تلك المراحل، وإن كنت أنتقد بعضها بشدة، ولكن لا يغيب عن بالي أنها ساهمت كثيرا في الحفاظ على معالم هوية الأمة.

   سري سمور
كاتب ومدون فلسطيني

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت