من دون الغوص في إعادة الحديث عن المقدمات والأسباب ، وكيف تأمرت قوى الاستعمار وأنظمة رجعية مما أدى إلى وقوع نكبة الشعب الفلسطيني في الخامس عشر من أيار العام 1948 ، حيث مضى عليها 72 عاماً من التشرد والطرد عن أرض الأباء والأجداد .
تلك النكبة المُشبعة في كثيرٍ من صور المآسي والعذابات والحرمان ، وبالتالي لكثيرٍ من صور الإصرار والتصميم والتأكيد على أن إرادة العودة ستبقى خياراً لا رجوع عنه لدى جموع الشعب الفلسطيني مهما طالت السنين ، وكبرت التضحيات ، وتعاظمت التحديات . فقد كتب فيها وعنها المئات ، بل الآلاف من المقالات والدراسات والأبحاث ، وتنظيم الندوات والمؤتمرات والملتقيات .
بعد مرور 72 عاماً من عمر النكبة ، و55 عاماً من عمر الثورة الفلسطينية المعاصرة ، السؤال الإستراتيجي الذي لابد أن يُطرح على قيادات العمل الوطني الفلسطيني ، وبعد جملة من النكسات والتراجعات ، التي أدت فيما أدت إليه من تنازلات ، حتى دون سقف الحدود الدنيا لما يسمى بالمرحلية والبرنامج المرحلي ، الذي باتت الساحة الفلسطينية أسيرة ذاك البرنامج ، أساسه قرارات الشرعية الدولية ، التي لم تتمكن من تنفيذ قرار واحد من جملة عشرات القرارات الخاصة بالقضية الفلسطينية .
وقد شكلت اتفاقات " أوسلو " المنعطف الإستراتيجي الأخطر على مصير القضية الفلسطينية ، مشرّعَة الأبواب أمام تصفيتها ، عبر ما يسمى اليوم ب" صفقة القرن " .
والسؤال ، هل تمت صياغة المشروع الوطني الفلسطيني في شقه السياسي ، على أساس من الفهم العميق لفكر الحركة الصهيونية وأهدافها الإستراتيجية ؟ ، الذي صاغته وعملت عليه مجموعة من الحاخامات والمفكرين الصهاينة منذ العام 1834 ، منطلقين من أساس ديني يتعلق بما جاء في التعاليم " التلمودية " ، بهدف تكريس وتحقيق هدف ما أسموه استرجاع " الأرض المقدسة " وهي فلسطين .
وهل المشكلة في النصوص ، أم المشكلة في المؤتمنين على تلك النصوص ؟ ، بحسب الخط البياني للسياق السياسي ، الذي بدأ يتهاوى عملياً منذ إقرار برنامج النقاط العشرة في العام 1974 .
إطلالة على أسماء مجموعة من هؤلاء الحاخامات والمفكرين ، وما تضمنته أفكارهم ، أمثال الحاخام " زفي هيرش كاليشر " واضع نظرية إنشاء " الدولة اليهودية ، عام 1836 ، وكتابه " السعي الصهيوني " العام 1862 ، والذي حثّ فيه على الاستيطان في فلسطين " .
و" موسى هس " صاحب النداء الشهير والذي وجهه ليهود العالم قائلاً : " سنكون مركز اتصال عظيم بين القارات الثلاث ، وحمله الحضارة الى الشعوب ، وتعودون إلى فلسطين ، وستشفوا من جميع أمراضكم " .
و" بيريتز سمولنسكين " الذي حذر اليهود من الهجرة إلى غير فلسطين . وأكد في مقالاته التي نشرها العام 1881 على أنّ اليهود أمة ، وعليها أن تستوطن في فلسطين .
و" يهوذا لايب بنسكر " ، في عام 1882 كان له كراساً عنونه باسم " التحرير الذاتي " ، خلُصّ فيه " أن حل مشاكل اليهود في العالم ، إيجاد وطن لهم ، من خلال شراء أرض يتم تجميعهم فيها ، وبعد ذلك يتوجهوا إلى فلسطين " .
فيما اعتبر الحاخام " يهودا القالي " أبو المنظرين للحركة الصهيونية ، والأب الروحي لزعيم تلك الحركة " تيودور هرتزل " ، بعد أن تبنى أفكاره فيما بعد . ف" الحاخام القالي " هو من وضع الأسس الأولى لإقامة دولة الكيان على الأرض الفلسطينية واستيطانها ، ففي العام 1834 بدأ بالترويج لأفكاره تلك ، والتي حملت عنواناً " اسعي يا إسرائيل ، لاقامة مستعمرات يهودية في فلسطين " .
لنجد أنّ تلك الأفكار والرؤى كانت واضحة وضوح الشمس ، فهؤلاء الحاخامات والمفكرين ، ومن جاء من بعدهم أمثال " تيودور هرتزل " و" زيئفي جابوتنسكي " و" ناجوم جولدمان " ، و" فكتور جاكسبون " و" ديفيد بن غوريون " و" حاييم وايزمن " القائل : " نريد خلق أوضاع في فلسطين نتمكن من خلالها أن ننشئ آخر الأمر مجتمعاً في فلسطين يجعل فلسطين يهودية بمقدار ما انكلترا انكليزية وأمريكا أمريكية " .
وصولاً إلى " ايغال آلون " و" أبا إيبان " و" ليفي اشكول " و" غولدا مائير " وغيرهم ، لم يخفوا حقيقة ما يعملون عليه ، فلم يتركوا وسيلة إلاّ سعوا في طريقها ، طارقين كل الأبواب التي من شأنها أن تساعدهم في تحقيق هدفهم وحلمهم في إقامة الوطن القومي لليهود على أرض فلسطين .
وبالتالي جميعهم يقرون بأن الأرض لهم ، وليس للفلسطينيين أصحاب الأرض أي حق لهم فيها ، وتحديداً في " يهودا والسامرة " ، أي الضفة الغربية التي هي اليوم وأكثر من أي مضى تحت رحمة مقصلة الضم الصهيونية .
لقد أثبتت تجربة العقود الماضية من عمر الحركة الوطنية والثورة الفلسطينية المعاصرة ، وعلى الرغم من السجل الحافل بالتضحيات والبطولات والإرادات التي لا تزال عند تطلعاتها في التحرير والعودة ، غير أنّ قصوراً ومواضع خللٍ إستراتيجي قد أوصلتنا إلى ما نحن عليه .
وكل إدعاء غير ذلك ، ما هو إلاّ مزيد من التوهان السياسي والهروب إلى االأمام ، في ظل متغيرات وتطورات تشهدها المنطقة ، وما يشهده العالم اليوم مع تفشي وباء كورونا ، تعمل الإدارة لأمريكية وكيانها الغاصب ، ومنظومة رجعياتها العربية ، استغلال وتوظيفه انشغال العالم ، بهدف تمرير " صفقة قرنهم " ، التي ألتزمت قطبي الصراع في الكيان " الليكود وأزرق أبيض " الاتفاق على تشكيل حكومة مشتركة في أولوياتها تشغيل مقصلة الضم في الضفة ووداي الأردن وشمال البحر الميت ، اللذي اعتبره " ايغال آلون " كما أسلافه الحدود الطبيعة للكيان .
بعد 72 عاماً من عمر النكبة ، مطالبين جميعاً بمراجعة نقدية لسياق تاريخي طويل من عمر قضيتنا وثورتنا . وعلى قيادات العمل الوطني الفلسطيني انتهاج المكاشفة والمصارحة من دون كيل الاتهامات والتشفي ، وتقاذف المسؤوليات ، لأن برأي ومن حيث المبدأ الجميع يتحمل المسؤولية ، مع فارق أن هناك ومن موقع وضع اليد على الحركة الوطنية ، ومؤسستها الجامعة منظمة التحرير الفلسطينية ، قد تساوق مع طروحات التسوية ، وانخرط في العملية السياسية التي قادتها الإدارة الأمريكية فأنتجت اتفاقات يقول فيها السيد أحمد قريع أحد مهندسي " أوسلو " : " لقد مرت بمراحل صعبة بل إنها تختنق الآن . ويبدو أن الأطراف أبقوا الاتفاقية كي تبقي كما يقولون على شعرة معاوية فحسب . فماذا طُبق من أوسلو؟ ، جاء بعض الفلسطينيين ، هناك سلطة بلا سلطة . الجيش الاسرائيلي يدخل متى يشاء ويغلق شوارع كما يشاء ، فماذا تبقى من أوسلو ؟ " .
وأختم بما كتبه " شموئيل ايفن " في نشرة التقدير الإستراتيجي التي تصدر عن مركز أبحاث الأمن القومي الصهيوني ، في ذكرى مرور 20 عاماً على اتفاقات " أوسلو " : " رفض في حينه قادة إسرائيل ، رئيس الوزراء اسحق رابين ووزير الخارجية شمعون بيريز ، إمكانية أن تؤدي اتفاقات أوسلو إلى دولة فلسطينية مستقلة ، وتقسيم القدس والتنازل عن السيطرة الإسرائيلية في غور الأردن في إطار التسوية الدائمة مثلما طلب الفلسطينيون " .
رامز مصطفى
كاتب فلسطيني
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت