نُشرت عشية زيارة وزير الخارجية الأميركية الخاطفة إلى إسرائيل، تقارير تحدثت عن امتعاض أميركي من عزم حكومة نتنياهو ـ غانتس المباشرة بإجراءات الضم مع بداية تموز القادم، وأن ترامب يرى في هذه المباشرة خطوة «أحادية الجانب» يمكن أن تقوض جهود إدارته لجذب الجانب الفلسطيني إلى التفاوض حول «الصفقة». واللافت أن بعض هذه التقارير أشار إلى أن إدارة ترامب ترى أن إسرائيل تندفع لتنفيذ «الجزء الذي تحبه» من هذه الصفقة، دون أن توضح هذه التقارير ما الذي لا تحبه تل أبيب فيها!
بالنتيجة، كان صدى الزيارة في وسائل الإعلام العبرية الكثير من الكلام عن خطرين: الاقتصادي الصيني، والنووي الإيراني، وأبقيت صلاحية المباشرة بالضم بيد الحكومة الإسرائيلية القادمة.
من أبرز الأسئلة التي طرحت على لسان المحللين الإسرائيليين حول الزيارة هو: مالذي لم يكن ممكنا حله بالاتصال بين تل أبيب وواشنطن واستدعى هذه الزيارة العاجلة لوزير الخارجية، وهي الأولى له منذ تفشي «كورونا». وقد أشار هؤلاء المحللون إلى أن جميع ماذكر في تصريحات نتنياهو وبومبيو، خلال الزيارة وبعدها، هو بالأساس موضع متابعة مستمرة بين الطرفين.
كما أن الزيارة جاءت عشية ترسيم حكومة نتنياهوـ غانتس، وبعد أن صادق الكنيست على أسس تشكيلها التي حددها اتفاق الليكود و«كاحول لافان»، ومن ضمنه تاريخ المباشرة في إجراءات الضم. ولو كان لدى إدارة ترامب أي اعتراض على ذلك (افتراضا) لكانت تدخلت قبل توقيع الاتفاق. فيما الذي حدث هو العكس تماما عندما طلب سفير إدارة ترامب في إسرائيل ديفيد فريدمان من الحكومة القادمة التعجيل بإجراءات الضم. وهذا أيضا يزيد من التساؤلات حول وظيفة التقارير التي نشرت عشية الزيارة.
والأهم من كل ماسبق أن «الصفقة» بحد ذاتها عبارة عن مجموعة من الإجراءات أحادية الجانب تترجم مصالح أحد طرفي الصراع على حساب مصالح الطرف الآخر، وكان هذا واضحا عبر القرارات والإجراءات التي اتخذتها إدارة ترامب تباعا ضد حقوق الشعب الفلسطيني.
يمكن القول إن عددا من الأهداف اجتمعت وراء هذه الزيارة الخاطفة، وحاولت هذه التقارير التعتيم عليها، وأبرزها:
• محاولة الخروج من «سجن كورونا» الذي وجدت إدارة ترامب نفسها فيه على وقع تداعيات حجم الإصابات الهائل بالفيروس في الولايات المتحدة مقارنة بغيرها. وقد اتسعت دائرة النقد من حولها على خلفية اتهامات معلنة بتقصير الإدارة في مواجهة اتساع الجائحة، ورصدت استطلاعات الرأي الأميركية تراجعا غير مسبوق في شعبية ترامب. وهذا مؤشر خطير أمام الحزب الجمهوري مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية خريف هذا العام. وربما تحت تأثير هذا الخطر تساءل صهر ترامب ومستشاره جاريد كوشنر عن إمكانية تأجيل هذه الانتخابات بسبب كورونا.
• على ماسبق، ومتابعة لتحويل الأنظار عن تقصيرها وفشلها، وجدت إدارة ترامب في المنصة الإسرائيلية منبرا متقدما لمواصلة هجومها على الصين، عبر الضغط على تل أبيب لإنهاء العقود الاقتصادية الصينية المبرمة في إسرائيل. وهذه رسالة أيضا إلى حلفاء واشنطن مفادها أن بوادر حرب اقتصادية تلوح ضد الصين وأن على هؤلاء الحلفاء الانضمام إليها. وهي قبل ذلك شنت حربا على منظمة الصحة العالمية بدعوى انصياعها للمعايير والاعتبارات الصينية بشأن كورونا.
• وهي محاولة لإعادة تأجيج الاستقطاب في المنطقة ضد إيران، بعد أن تراجعت حدته على وقع انتشار كورونا، والذي طرح بقوة ضرورة تنسيق جهود الجميع في مواجهته. وهذا يعني العودة مجددا إلى لغة التصعيد وقرع طبول الحرب. وتجتمع هنا مصلحتا نتنياهو وترامب في تأجيج هذا الاستقطاب بهدف التغطية على كثير من ملفات فشلهما ومن بينها ملف كورونا.
• كما أنها رسالة جديدة للحالة الفلسطينية تقول بضرورة ملء المقعد الفلسطيني في ركب الصفقة، وأن انضمام الفلسطينيين إلى هذا الركب مازال ممكنا قبل انطلاق قطار الضم. ومن الواضح أن إدارة ترامب ترصد تأثير تداعيات سياساتها العدائية تجاه القضية الفلسطينية والعقوبات المالية التي طبقتها، كما ترصد تأثيرات القرصنة المالية الإسرائيلية على أموال السلطة. وهي تراهن كما قال فريدمان مرات عدة على أن يجد الجانب الفلسطيني نفسه مرغما على التفاوض تحت سقف الصفقة وأهدافها التصفوية.
• إلى جانب ماسبق، ثمة إشارات واضحة تريد من خلالها إدارة ترامب التأكيد على دورها المحوري والأساسي في «الصفقة»، وأن التطابق الحاصل مع خطة نتنياهو ومحاور مشروعه الاستعماري إنما هو ناتج عن تطابق المصالح الأميركية ـ الإسرائيلية في هذا الخصوص، وأن الولايات المتحدة عبر خطة ترامب وجدت مقاربتها العملية لحل للصراع القائم، والعقبة الوحيدة ـ برأيها ـ هي العناد الفلسطيني، الذي ينبغي تطويعه. لكن مالم يقله بومبيو في مباحثاته مع نتنياهو يتصل بمعرفة إدارته أن الرفض الفلسطيني للصفقة ليس وحيدا:
• فجميع أعضاء مجلس الأمن (ماعدا أميركا) يجمعون على رفض الصفقة وعبروا عن ذلك مرات عدة في التصويت داخل المجلس، وأكدوا على تناقض عناوينها وأهدافها مع قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة.
• كما أن الأغلبية العظمى من أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة تأخذ الموقف ذاته. ومن بين الأمثلة على ذلك، تجديد ولاية الأونروا وفق التفويض الذي أسست بموجبه، على النقيض من المحاولات الأميركية ـ الإسرائيلية التي سعت إلى تصفية الوكالة.
• حتى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ومحللين استراتيجيين حذروا من مخاطر التوغل في إجراءات الضم، ونبهوا إلى أن المضي في هذا المخطط سيؤدي إلى انفجار الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة.وأن هذا التطور العاصف سيضع إسرائيل في وضع صعب له تداعياته «المؤلمة» على الصعيدين الإقليمي والدولي.
ما يزيد من تعقيد طريق الاحتلال نحو الضم هو مقاومته العملية في السياسة والميدان. وهذا ممكن على الرغم الظروف الاستثنائية التي نشأت مع انتشار كورونا، والذي لم يمنع الاحتلال من استمرار سياسته التوسعية والمستوطنين من عربدتهم.
لدى الفلسطينيين الكثير مما يفعلونه على هذا الطريق، بدئا بإنهاء الانقسام مرورا بإعادة الاعتبار إلى البرنامج الوطني التحرري وفق بوصلة قرارات المجلسين الوطني والمركزي، كمدخل ضروري ولازم لتعزيز الوضع الفلسطيني في مواجهة المخاطر الكبرى التي تتهدد المشروع الوطني الفلسطيني على يد المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي.
محمد السهلي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت