الفن هو مرآة المستقبل التي تعبر عن روح الإنسان، ويمنحنا فضاءً من المعرفة ولكي نبصر جمال صورتنا المدفونة ويحلّق صوتنا في عنان السماء، علينا أن نفكر بصوت عالٍ حتى نخطو بثقة ونسمو بتجاربنا الإبداعية، فالإبداع حياة، والمبدع الفلسطيني محارِب صبور يجتهد دوماً من أجل أن يرسم البسمة، عليه أن يحمل أعباء المراحل ويتصدر الصفوف الأمامية وينحت بالصخر ليبتكر الجمال ويقول للعالم نحن هنا باقون.. واليوم والحمد لله أصبحنا قادرين على أن نصنع البهجة على شاشات المرئي والمسموع، ونرسم البشاشة والابتسامة ونسعد القلوب الحزينة التي مازالت تنتظرنا.
ولكي تستمر مسيرة الإبداع علينا أن نتروى ونحن نخاطب المشاهدين، فالمشكلة التي أبصرتها وأنا أتابع العديد من المسلسلات العربية والمحلية أن المشكلة الأساسية تكمن في النصوص البصرية وذكاء المبدع في بناء السيناريو وتحديد الخطاب الإعلامي والفئة المستهدفة، لذا علينا أن نقف بصدق أمام أنفسنا ونقيّم واقعنا البصريّ ونصغي للجمهور ونعيد حساباتنا ونفكر بعد نهاية كل تجربة ماذا قدمنا.. وأين نحن من الخلل والإخفاق.. وكيف نعالج الهفوات بروح طيبة بدون تشنج ومبررات...؟ ثم نبحث عن الجوانب المضيئة التي أبهجت المشاهد وساهمت بالإمتاع والمعرفة، ونقوم بتعزيزها، فمن يساهم في صناعة الابتسامة ويصنع الفرح في زمن يعج بالمآسي هو مبدع عبقري يحتاج منا كل الثناء والتقدير.
مسلسل "كفر اللوز" من سيناريو وحوار وإخراج مبدع مسلسل "أولاد المختار", المخرج الشاب "بشار النجار", يضم المسلسل نخبة مميزة من نجوم المسرح والتلفزيون, وأنت ترى هذه الوجوه التي لها بصمتها الفنية وتجاربها الجميلة، تشعر أننا قادرون أن نعبّر عن واقعنا بأسلوب يرتقي بثقافتنا ويعبر عن صورتنا الجميلة، فاستثمارنا الحقيقي الذي تناسيناه عبر الأزمان هو بناء الإنسان, واليوم نرى مجموعة من الفنانين المبدعين الحالمين يساهمون في محاولة البناء حتى يروا وطنهم يضحك حراً طليقا.
"كفر اللوز" مسلسل كوميدي اجتماعي مغلف بقالب سياسي, كان الهدف من البناء أن يتناول مواضيع حساسة تحاكي الواقع بطريقة ساخرة من خلال صراع ثلاث عائلات تتنازع فيما بينها للوصول إلى رئاسة المجلس القروي, وهي عائلة "أبو فجلة", ويجسد شخصية القائد المتسلق فيها الفنان القدير "حسين نخلة" ، تضم العائلة الفنان "خالد المصو " والفنانة "نجاح أبو الهيجاء" "والفنان "ثائر ظاهر " والفنانة "غنوة عرفات " , أما عائلة "النسناس" فيقوم بتجسيد شخصية القائد المهزوز المقموع فيها الفنان خفيف الروح " أحمد أبو سلعوم "، وتضم العائلة الفنانة القديرة "سهير فهد" , والفنان "أمجد نصار" , أما عائلة "الدقر" فيجسد شخصية القائد الانفعالي فيها الفنان الجميل "سعيد سعادة " ,وتضم العائلة الفنان المتألق "حسام أبو عيشة "و اللص الظريف الفنان "سعيد النجار" و الفنان "محمد مشهور" والفنانة "ملاك أبو غربية" , وقرية أم الحيطان مختارها الفنان الباسم " أمجد غانم " والفنان "منذر بنورة" الصراع على الكرسي فكرة جميلة تحتاج أن نسلط الضوء عليها إلا أنها تحتاج جراحا محترفا يجيد فن بناء السيناريو ويكون بصيراً باختيار الأفكار الناضجة والعناوين التراكمية المتسلسلة والتي تشد بعضها بعضاً والتي سيتم نقاشها ومعالجتها فنياً حتى تؤتي أكلها وتعود علينا بالخير، فالكرسي رمز الانقسام، مأساتنا الكونية، من يجر البشرية إلى الجهل والتخلف.
مسلسل " كفر اللوز" تم تصويره بقرية بورين في محافظة نابلس، يحاكي مخرج العمل الواقع بصورة أو بأخرى من خلال ثلاثة نماذج مرضية ما بين عنيفة ومهزوزة ومتسلقة توشحت بالكوفيات التي تعبر عن التنظيمات لتعطي مساحة للمشاهد للتعبير عما يدور برأسه, وهذا يحسب للمخرج ، فالشكل الخارجي في بناء الشخصيات واضح المعالم ويجذب المشاهدين, أما بخصوص المضمون العام للعمل ، بعد متابعة حلقات المسلسل وقراءة العناوين وآلية بناء المشاهد والمعالجة تكتشف أن الشخصيات مسطحة لا تنمو وتكرر نفسها وتعتمد على الثرثرة المباشرة من أجل كسب وقت زمني أطول للحلقة, وللأسف لم نلاحظ أي تغير عن الجزء الأول.
المخرج كان موفقا في اختيار أماكن التصوير في قرية بورين, فالطبيعة الخلابة ستمنحك تكوينا بصريا جميلا, وقد شاهدنا ذلك في العديد من المشاهد ولكن للأسف عشقنا الشكل ونسينا المضمون، افتقدنا روح القرية وأهلها الطيبين وتلقائيتهم، فغالبية النماذج التي تم اختيارها هي نماذج شريرة أنانية تشعر بالنقص، ما بين لص انتهازي ومتسلط ، حتى الشاب المدرس والذي يرمز للخير والذي قام بدوره الفنان الجميل " ثائر ظاهر" كان صوته حادا انفعاليا يفتقد للعمق الذي يقنع المشاهدين برسالته ، فالعناوين التي تم مناقشتها لم تنضج بعد ولم تُبنَ بتروٍ, اعتمدت على الثرثرة والتكرار, ولم تعتمد على كوميديا الموقف, ولم يتمَّ معالجتها فنياً بانسيابية لترتقي بالحدث, وقد اخترت ثلاث حلْقات بشكل عشوائي كنموذج للحديث عن مضمون بناء العمل ...
- "الحلقة الثانية" بعنوان "عودة سلامة" قام بتجسيد الشخصية الفنان المرح" محمد مشهور " بدور الأهبل المتيم بحب فاطمة ، فمنذ بداية الحلقة و الحديث يدور عن التغيرات التي طرأت على حياة سلامة أثناء علاجه في أمريكا وما ورث من أموال بعد وفاة عمته الغنية، كان ينتظر المُشاهد بعد هذا التمهيد المطول أن يطرأ تطور على شخصية " سلامة" يختلف عن الجزء الأول في مسلسل" كفر اللوز" و يساهم هذا التطور في فضاءات جديدة تؤهلنا للتغير. للأسف عاد سلامة كما كان بالجزء الأول, ولم يقدم الكاتب المخرج "بشار" أي إضافة على شخصيته, فرأينا الشخصية النمطية السابقة التي تعودنا عليها وهذا ضعف واضح في بناء السيناريو ونسج الحكاية، فكان بالإمكان أن يعود سلامة بنفس شخصيته التي أرادها المخرج, ويكون المال الذي ورثه قد منحه قليلا من السيادة وساهم بالإفساد السياسي في القرية, ومن هنا يتم نسج قصص جمة تغذي خيوط المسلسل.
- الحلقة الحادية عشرة وهي بعنوان " عندما يتحد الرجال ", تأتي الفتاة "سندس" للقرية لترشد النساء لحقوقهنّ. فكرة جميلة تُحترَم ، نحن نشجع من يدافع عن حقوق المرأة ، إلا أن هناك خللا واضحا في دور العنصر النسائي في القرية, لم يأخذوا أي دور رئيسي بالسيناريو، فالفكرة أكبر من مساحة الظهور على الشاشة ، كما أننا من بداية المسلسل حتى الحلقة الخامسة والعشرين ونحن نشاهد المرأة المتسلطة المحصورة بزاوية ، والتي قامت بهذا الدور الفنانة المبدعة "سهير فهد", والمرأة المسترجلة والتي قامت بإداء الدور الفنانة "ملاك أبو غربية", والمرأة القوية والتي قامت بالدور "نجاح أبو الهيجاء", والمرأة المستغلة والتي قامت بأداء الدور الفنانة "غنوة عرفات ", والتي وافقت على زواج سلامة الأهبل بعد أن علمت أنه ورث الأموال عن عمته. هذه الشخصيات السلبية المسيطرة تتناقد مع النساء المغلوبات على أمرهنّ, اللواتي يبحثن عن حقوقهنّ . سؤال..!ما دمنا نصور في قرية فأين ابنة القرية، الفتاة الطيبة الأنثى الجميلة المعطاءة التي تشجعنا لننتصر لحقوقها، أكرر: الفكرة جميلة والمعالجة ضعيفة. "غسيل دماغ "
- الحلقة الواحدة والعشرون، كانت تحمل عنفا لفظيا وتحشو الطلاب بمعلومات خاطئة من كبار القرية, وهذا سيعود علينا مستقبلاً بالتأثير السلبي, فالتهريج يمنحنا ابتسامة لحظية والمردود مفزع. هناك الكثير من الملاحظات التي يجب معالجتها بالمرات القادمة وخاصة التوبيخ والألفاظ الغير محببة والبصق بالوجه الغير مبرر، فالتلفاز يدخل كل بيت ويشاهده الصغير والكبير، فهل يعقل أن نورث أطفالنا العادات السيئة.
ما الرسائل التي يريد أن يوجهها المخرج والمؤلف للمشاهد عندما يشعرنا أن قيادة القرى وهي السلطة العليا تخضع لسلطة اللصوص والمتمثلة بشخصية مسعود الحزر ومسعود الدقر؟ لماذا برر المخرج أخطاء كبار العائلات الثلاث عندما سرقوا بيوتهم ومركز الشرطة وجعل الهدف من السرقة هدفا نبيلا وهو تسديد ديون المجلس القروي.! هل نبرر الخطأ بالخطأ؟ أبدع الفنان "عدنان بوبلي" كقائد شرطة "كفر اللوز" وسانده بدور الشرطي الفنان التلقائي "راشد صالح " .
ومع ذلك كنت أتمنى على الكاتب والمخرج ألا يكسر شخصية الشرطة ويقدمها على أنها جاهلة متخلفة فقيرة تعيش على ذكرى الماضي وعلى ذكرى الدورة العسكرية في الجزائر, فهي بالأخير سلطة القانون, ونحن بحاجة لتعزيز صورتها في رأس المواطن، حتى لوكان الهدف طيبا, فابتكار نماذج مضحكة غريبة للشرطة من أجل بناء مشاهد كوميدية، كان بالإمكان بناء مواقف ناقدة مع الحفاظ على شخصية الشرطي ، تعود علينا بالفائدة وأخيراً علينا أن نتذكر أن الصورة البصرية تعادل ألف كلمة.
فكرة زيارة القدس التي تناولتها الحلقة الرابعة والعشرون تحمل رسالة جيدة ومهمة تتلخص في آلية تناحر السلطات واستغلال القدس لأجل مصالح شخصية. من الواضح أن الحلقة كتبت بشكل سريع ولم يتمَّ إعداد المعالجة لها, فأنتج سيناريو ضعيف يعتمد على الخطاب المباشر.
المسلسل تحول لنمطي توقف عند الجزء الأول زمنياً، فالشخصيات ثابتة لا تنمو ولا تتطور رغم أن هناك العديد من المفاتيح التي بالإمكان نسج عشرات القصص منها والتي ستدعم الفكرة, مثالاً لذلك:- شخصية الزوجة المتسلطة الفنانة القديرة "سهير فهد" ، كان بالإمكان أن يمنحها المخرج مساحة أكبر في هذا العمل وهي تخطط وتبتكر الأفكار لزوجها الفنان خفيف الروح "أحمد أبو سلعوم ", وتحركه للسيطرة على المجلس القروي وتحدي عائلتي الدقر وأبو فجلة ,بالإمكان نسج عشرات القصص وبناء عشرات الحكايات الهادفة الجميلة من شخصيتها ومنح المرأة دورا أساسيا في العمل, وهناك أيضاً شخصية الفنان المغمور أمجد نصار, فهو يفتقر للصوت الجميل في المسلسل , وهذا مدخل للحديث عن أدعياء الفن في ظل فساد السلطة, فالمتسلقون يسيطرون على الواقع , وبهذا ننسج من فساد الفن وتأثيره على المجتمع عشرات القصص التي يدعمها الفاسدون والمتمثلة بقيادات العائلات الثلاث .
ملخص القول.. نحن أمام عمل جميل يحمل الكثير من المضامين الإنسانية والفنية، ومجموعة من كبار المبدعين المتألقين، كل ما يحتاجونه للتحليق بصرياً في الوطن العربي هو البحث والتشاور ثم الصبر والتشاور من جديد في عملية البناء لإعداد سيناريو كي يخرجوا بعمل أكثر نضجاً يمنحهم مساحات أكبر ليظهروا مزيداً من الإبداع. كل الشكر لطاقم العمل بدون استثناء، والشكر موصول للمؤلف والمخرج "بشار النجار", وعلى رأسهم الفنان الراقي حسام أبو عيشه " أبو الفوز " الشخصية المحببة للقلوب.
بقلم / الكاتب والمخرج "مصطفى النبيه"
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت