عجز المثقف ... سطوة السياسي

بقلم: عدنان الصباح

عدنان الصباح

 ينبغي للعلاقة بين المثقف والسياسي " السلطة أيا كانت " ان لا تكون علاقة ود ولا علاقة تبعية من جهة القول لصالح الفعل فالمثقف قائل ناقل عن فعل العامة اللا مدرك ليكون مؤسسا لفعل النخبة المدرك وبالتالي فان دوره الحقيقي هو دور الناظم الناقد لفعل النخبة المدرك كتعبير عن احتياجات العامة المدركة لاحتياجاتها والغائبة عن ادوات الفعل والفعل الخاص بها بمعنى ان لا وجود لمثقف هلامي يدور في حلقة من تيه الاوهام والاحلام بعيدا عن الواقع والا اصبح وجوده وعدمه وبحسب غرامشي فان المثقف هو كل من يحمل " رؤية معينة تجاه المحيط الذي يعيش أو ينشط فيه " وهو ما يعني ان مثقف غرامشي لديه موقف مسبق مما سيرى او سيعرف وبالتالي فتنزع عنه صفة الناقد الفاحص لصالح مسبق الراي القادم لإثبات ما لديه لا للبحث عن الحقيقة والحل الاكثر دقة او الاقرب الى الدقة للمسائل الكبرى بينما يعرف سارتر المثقف بانه ”هو ذلك الذي يدس أنفه في ما لا يعنيه” وراي سارتر يجانب الحقيقة اولا فلا يوجد امر لا يعني المثقف الحقيقي ودس الانف ليست صفة مناسبة للمثقف الحقيقي الفاعل والناقد فالمثقف حسب رايي هو قارئ فاحص وناقد محايد علميا في علاقته بالفعل موضوع القراءة أيا كان مصدره وهو أي المثقف ساعي لإيجاد الاجابات الاقرب الى الحقيقة والدقة للأسئلة التي يثيرها الفعل المتوال للحياة بكل جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبالتالي فان المثقف الحقيقي برايي هو الشخص الاكثر حرية في طرح الاسئلة بلا خوف او تردد والاكثر قدرة على البحث عن اجاباتها دون شروط مسبقة.

المثقف الحقيقي ليس مصورا فوتوغرافيا بل فنان تشكيلي يرسم الواقع كما ينبغي له ان يكون بصورة واقعية وممكنة عبر ادراك حقيقي لإمكانيات المجتمع وقواه والوسائل والأدوات المتوفرة والممكنة والمعنى هنا ان المثقف ينبغي ان يكون باحث دائم عن السؤال الى أن يجده ثم يتحول الى دارس فاحص لإيجاد الاجابة بمعنى ان المثقف الملتزم والملتصق بقضايا ناسه ينبغي له ان يدرك بحسه المتقدم الضرورة ويصوغ سؤالها ويجد لها الجواب وليس المقصود هنا المثقف الفرد بل المثقفين فقد يكون صانع السؤال ومدرك الضرورة وصانع الجواب مثقفين مختلفين لكنهم معا يكملون اللوحة يدركون الضرورة ويصوغون طريقها وتصبح مهمة اكمال ذلك مناطة بالشعب قواه وممثليه وخلاف ذلك فسنظل بحالة قد يكون ادق وصف لها بالعامية أنها حالة من " التهبيل " الغبي.

والسؤال الذي يوجهه الشعب لمثقفيه هو ما هو الدور الذي تقومون به لتقويم السياسي ووضع الاليات والرؤى الفكرية المتأتية من الفعل والمؤسسة للفعل القادم كي لا نبقى مجرد ببغاوات نكرر نفس الردود على نفس الافعال بما يكفل وجود لغة ومصطلحات ورؤى تعطي دورنا الفعل الايجابي الذي يضمن ان تتحول جبهة الاعداء لموقع ردود الفعل لا اكثر فتاريخيا كنا ولا زلنا نعيش حالة من ردود الافعال من طرف السياسي وحالة تصوير فوتوغرافي من قبل المثقف فلا المثقف قدم رؤيا ولا السياسي طالبه القيام بدوره أو سمح له بذلك الا اذا كانت كارثتنا الحقيقية غياب المثقف الحقيقي الملتزم بقضايا شعبه وكذا السياسي بمعنى حالة من الفراغ لا زالت تتواصل برضى غبي عن الذات مغلف بشعارات ويافطات لغوية فضفاضة لا تغني ولا تسمن من جوع. في كل العالم هناك دوائر ومرجعيات لصناعة القرار محترمة وتأخذ دورها ومكانتها وتعتمد على الاختصاص وما يقدم لصناع القرار " الذين هم ليسوا فردا " من قبل ذوي الاختصاص وهم أيا كانوا فانهم يقومون بدور المثقف بمعنى قد يحتاج انع القرار الى خبير مالي او تكنولوجي او سياسي او زراعي وفي كل الحالات سيحتاج الى المثقف القادر على ربط المضمون الفني بالحياة لتصبح هناك جدوى ومعنى للتطبيق على الارض.

 ان ما وصلنا اليه اكثر كارثية من اي حال مضى فقد بتنا نختلف حتى على المفردات دون ادراك لأهميتها وتأثيرها ودورها في صناعة الذهنية العربية عامة والفلسطينية خاصة فاستخدام كلمة استعمار اسرائيلي بدل احتلال اسرائيلي لها دلائلها الخطيرة وهي قطعا ستنسحب على دور المثقف والثقافة وتؤسس لذهنية غريبة تنهي كليا ما كان يسمى فلسطين براي درويش السياسي فهي فلسطين الباقية الممنوعة من الصرف وغير المرتبطة بالأزمنة لا كانت لا صارت فصيرورتها بلا انقطاع ولا يجوز ان نقبل بانقطاعها فكانت وارت تعني ان هناك فراغ اسس لبديل ما ونحن هنا نظهر بصورة المجرب واللفظي لا المدرك والواقعي العملي الذي يرتبط اللفظ لديه بالمعنى ودون التقليل من القيمة الفنية لإبداعات العبقري درويش الا ان ترديدنا المتواصل لقول كانت تسمى فلسطين صارت تسمى فلسطين يطرح سؤال وبين كانت وصارت ولست ناقدا ادبيا ولا يجوز لمثلي فحص عبقرية درويش لكني هنا اتحدث بصوت السياسي كانت وصارت ثم بعد ذلك " ام البدايات وام النهايات " فهل سينتهي كل شيء ومن سينتهي ولمن النهايات فهل تعود لفلسطين ...

انني هنا اثير التساؤلات لنبحث عن الاجوبة بقصد تغييب المسلمات فلا يجوز مثلا نقد شعر المقاومة ولا يجوز نقد ادب المقاومة او رفض تعبير ادب مقاوم بديل لأدب المقاومة مع ان الفرق يبنهما خطير. المطلوب اليوم موقف ثقافي يؤسس لموقف سياسي وكفاحي وان ينفرط العقد الغير مقدس بين الثقافة والسياسة كتابعة بحيث تحصل الثقافة على حق الاستقلال كي تتمكن من الاتيان بالمطلوب الوطني والقومي وتقوم بدورها كبوصلة موجهة للسياسي لا تابعة مصفقه تصل بالسياسي الى حالة كارثية من الرضا عن الذات والذي سيقوده ويقودنا معه حتما الى الهاوية. كليا غاب المثقف المشتبك مع السياسي وبقي المثقف المملوك والتابع والمصفق للسياسي مما منح السياسي الحق المطلق بالقيادة وليس العكس فعادة ما يقود المثقف السياسي فكرا ويجبر السياسي على اتباع قوله خشية سلاطة لسانه وقلمه ولان المثقف اغلق فمه بالدولار فقد بات السياسي سيد اللعبة وصار على المثقف ان يصور ما يفعله السياسي بأبهى صورة وان يقوم بدور المجمل وفني الدوبلاج والمونتاج والمكياج للسياسي وافعاله واقواله في حين ان المطلوب العكس وهو ان يلجأ السياسي للمثقف لاستجلاء الرؤية بهدف توفير ما هو ضروري للوصول الى مرحلة القدرة على اتخاذ القرار وهذا يتطلب مثقف ملتصق بالواقع لا بالسلطان ... يكتب عن ضمير الناس ومصالحهم لا عن مصالح السلطان واهدافه.

 ان مواصلة المثقف الفلسطيني دور المصور الفوتوغرافي سيجعل من حالنا بلا جديد وفي كل مرة يتقدم الاعداء على الارض بخطوة تدميرية جديدة نبدأ نحن برفضها ويواصلون هم فعلها وفي كل مرحلة جديدة تنازل جديد ونسيان للماضي اخطر وبعيدا عن ما سبق النكبة وصراع الكتب الاستعمارية الملونة بالأبيض والاسود وصولا الى التقسيم ورفضه وحرب 1967 واللاءات الثلاث واكتوبر وكامب ديفيد والتراجع والقبول بقرارات الامم المتحدة وصولا الى خارطة الطريق ورفض موضوع القدس دون فعل شيء ثم اليوم نرفض ضم الاغوار دون فعل شيء الى ان نرفض رفضنا سيظل الامر يعني مواصلة العجز فلا المثقف الذي ابدع لمرة واحدة دون توافق تام فكرة فلسطين العلمانية الديمقراطية وفلسطين الديمقراطية الموحدة ولفترة قصيرة الى ان تراجعنا عنها طواعية لصالح مشاريع مسخ لا يمكن لها ان تعيش ومراوحة في المكان بين فعلهم على الارض ورفضنا باللفظ وبدون قوة حقيقة يبدأها المثقف فلا امل وسيظل السياسي صاحب السطوة والمتحكم بالأمر حتى لو كان اميا وغبيا ما دام اشباه المثقفين وكتبة البلاط التابعين والمصرين على تزيين اقوال وافعال السياسي أيا كانت سخيفة وغبية واذا بقي حالنا على ما نحن عليه فسيظل ما قاله مظفر النواب عن العواء في الحراء غولا فاغرا فاه في وجوهنا.


 بقلم عدنان الصباح

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت