فلسطين .. وما بعد الكولونيالية

بقلم: ميساء أبو زيدان

ميساء أبو زيدان

تناول العديد من المفكرين التبعات التي ترتبت على حقب استعمارية طالت شعوب مختلفة عبر استعراضٍ شامل لردود الفعل التي تلت مرحلة التخلص من السلطة التي استغلتهم وسيطرت على بلدانهم، ووصف العلاقات بين أفراد تلك الشعوب وبالمستويات المختلفة لاستيضاح مدى الأثر الذي انعكس على المجالات السياسية والثقافية والإجتماعية والإقتصادية وغيرها. ومن أبرز مَن تناولَ هذا الشأن هو المفكر الفلسطيني (إدوارد سعيد) الذي حدد إطاراً معرفياً للفكر الذي يختص بالمرحلة المسماة ب(ما بعد الإستعمارية - Post-colonialism) واعتُبر البحث بالهوية الوطنية ومآلها وطبيعة الأدوار المناطة بالفئات المختلفة في المجتمع المُستَعمَر من أهم الأسس المعرفية التي تُبنى عليها مثل تلك الدراسات، إلى جانب فهم العلاقة ما بين الاستعمار والسكان الأصليين واستعراض العوامل التي شكلت هذه القوة المُستعمِرة ومبررات توجهاتها كما جاء في كثيرٍ من القراءات النقدية للعديد من المفكرين الذين تباينوا في آرائهم ومعتقداتهم بهذا الشأن.
 
  وتهدف مثل تلك الدراسات التي يقوم عليها المفكرين المعارضين للفكر المُسوّغ لتوجهات القوى المستعمِرة البحث في سبل معالجة الآثار التي خلفها الاستعمار على الصعيد الثقافي وبما يتصل بالهوية الوطنية تحديداً. لكننا وإن أردنا تناول الشأن الفلسطيني بذات السياق نجد أنه من الصعب وصف واقعه الذي تلا توقيع اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين عام (1993) وصفاً محدداً، كون الاتفاق الذي كان بمثابة إعلان مبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الإنتقالي لمدة خمس سنوات وصولاً لتسوية دائمة لم يتم بسبب فشل اتفاقية كامب ديفيد الثانية عام (2000) التي كان من المفترض أن تُفضي لاتفاق سلام دائم بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وتجسد الموقف الفلسطيني الرافض لما تم طرحه في اللقاءات التي تمت حينه بين الفلسطينيين من جانب وبين الإدارة الأمريكية والإسرائيليين من جانبٍ آخر ميدانياً من خلال الصدام المباشر الذي عُرَف بالانتفاضة الثانية واستمر حتى رحيل الرئيس الفلسطيني (ياسر عرفات).

  وإن جئنا على توصيف تلك المرحلة فإن اللافت فيما يخص الوضع الفلسطيني آنذاك هو اختلافه عما شهده التاريخ الحديث من صراعات سواء كانت دولية أو إقليمية، فهي ليست بمرحلة تحرر واستقلال بالمعنى الحرفي بحيث يصبح بمقدورنا أن نصفها بـ (ما بعد الاستعمار) ولم تكن مرحلة الخضوع لسلطة المُستعَمِر المباشرة كذلك الأمر.  لكن وأمام التوجهات الدولية الخاصة بإدارة الصراع بين الطرفين القائم على الحلول المرحلية وجد الفلسطينييون أنفسهم أمام واقع يفرض عليهم بناء منظومتهم السياسية و ركائز دولتهم بظل تنصل الطرف الإسرائيلي (الذي استمر في دوره كسلطة إحتلالية) من التزاماته حسبما اقتضته الاتفاقات الإنتقالية الموقعة بين الجانبين. الحال الذي شكل أعظم التحديات بالنسبة للفلسطينيين الذي واجهوا سياسات الجانب الإسرائيلي المُستغِلّة لمرحلة (ما بعد الاستعمار) كونه يدرك جيداً طبيعة الميدان الفلسطيني الذي كان له (كقوة احتلال) الدور الأساس بتشكيله منذ بدء الصراع  وبالتالي القدرة على استثماره خدمةً لمنهجية الإسرائيليين القائمة على كسب الوقت لفرض وقائع جديدة بمقدورها عرقلة سبل التوصل لحل دائم.

لقد انهمك الإسرائيليون في تلك المرحلة لصناعة أزمات داخلية بحيث تغدو عقبات جدية أمام الفلسطينيين  من خلال تشكيل وعي وتوجه شعبي مضاد يعيق من تقدمهم ببناء منظومتهم السياسية التي تكفل لهم مكانةً لا يمكن تجاهلها أمام المجتمع الدولي والأطراف المعنية بعملية التسوية وبالتالي إحراج الجانب الإسرائيلي المتنصل من التزاماته. فاتّبعوا حينها السياسات المختلفة المُستَهدِفة للفلسطينيين كالتشكيك بقيادتهم وإضعاف مؤسساتهم القائمة وافتعال الأزمات الميدانية من خلال أدواتٍ امتهنت الدور الذي من أجله كانت، وبالتالي تمهيد السبل أمام مشاريعهم البديلة لمنظمة التحرير الفلسطينية والمستعدة لإدارة الشأن الفلسطيني بالسقوف التي يحددها الإسرائيليون، فكان لهم الإنقسام الذي طال المنظومة الفلسطينية واستُثمِرّ إسرائيلياً أمام العالم إلى يومنا هذا في محاولةٍ لحرف القيادة الفلسطينية عن القضايا المركزية.
 
وها هو الحال يتكرر اليوم عبر الحملات الممنهجة المُستَهدِفة للفلسطينيين وقيادتهم السياسية لاستنزافهم في أزماتٍ هامشية بعيداً عن مواجهة الخطة الأمريكية- الإسرائيلية  المسماة بـ (صفقة القرن)، الأمر الذي يستدعي كافة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية لاتخاذ دورها الوطني من جديد باتجاه تحصين الوعي الجماهيري وشحذ الطاقات لتصليب الجبهة الداخلية وحماية المقدرات الفلسطينية، كما يستوجب على حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" أن تعيد الاعتبار لدورها الأساس كرائدة للنضال الوطني الفلسطيني عبر مراجعةٍ شاملة لبرامجها وأدواتها فالمرحلة تشير لمعركة فعلية ولكن بأنماط مختلفة فنحن لسنا بصدد مرحلة ما بعد الكولونيالية .

بقلم: ميساء أبو زيدان

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت