ضمن مشروع الأديب د. جميل الدويهي صاحب موقع "أفكار اغترابيّة" للأدب المهجريّ الراقي – سيدني/ استراليا، قام عدد من الأدباء العرب بتناول مواضيع نشرت في كتاب فكري له بعنوان" هكذا حدثتني الروح". وقد وقع اختياري عن نص له من الكتاب بعنوان "المبدعون والثرثارون"، رأيت به تعبيرا عن واقع تكاثر الثرثرة التي بدأت تنتشر بتوسع مقلق في ثقافتنا العربية بكل انحاء العالم العربي، مما يقتضي تضافر جهود أدبية جبارة لإعادة المسار الإنساني الإبداعي والجمالي لثقافتنا العربية. مقال د. جميل الدويهي "المبدعون والثرثارون" مرفق بنهاية مقالي.
******
منذ تعرّفت على الأديب المهجريّ الموسوعيّ د. جميل الدويهي، وأنا أعيش بأجواء متفائلة أنّ الثقافة العربيّة بكلّ مجالاتها وتيّاراتها تجدّد ذاتها، وتنطلق إلى أفاق واسعة متحرّرة من العوائق الفكريّة القاتلة التي عصفت بثقافتنا، خاصّة ما ارتُكب تحت مظلّة الفكر الأصوليّ المتطرّف، وما ارتكبه ذلك النهج والفكر بحقّ المثقّفين والأبرياء، وبحقّ المجتمعات العربيّة بشكل عامّ، من جرائم يندى لها الجبين الانسانيّ.
لفت نظري عنوان نص إنسانيّ لأديبنا الدويهي في كتابه الفكري (هكذا حدثتني الروح) بعنوان "المبدعون والثرثارون"... المبدعون بصفتهم الوجه الناصع للثقافة العربيّة، والثرثارون يشكّلون تيّاراً لا يستهان به، وتعاني منه ثقافتنا العربيّة. لم أتردّد بتناول هذا النصّ وطرح رؤيتي، التي كلّما طرحتها وجدت نفسي بمواجهة من يسمّيهم أديبنا الجميل جميل الدويهي بـ "الثرثارون"... ولو كانوا مجرّد ثرثارين، لهان الأمر على الثقافة والمثقّفين، لكنّهم ضد انطلاقة الإنسان واكتشاف عوالم تثري حياته وحياة مجتمعه. عزمت أمري على الخوض عميقاً بهذه الظاهرة المرضيّة المضادّة للثقافة، والمدمّرة لكلّ حسّ إنسانيّ يعشق الجمال في الحياة والطبيعة والأدب، وفي الإنسان نفسه قبل كلّ شيء.
كعادتي... منذ خضت ساحة الإبداع الثقافيّ، لم أتوقّف عن الفرز بين الورد والزؤان. والزؤان هو الصفة السائدة بين من يسمّيهم الدويهي بـ "الثرثارون"! من عادتي أن أفلسف مواقفي، وأرى أنّ هذا النص أيضاً يحمل مسحة من الرؤية الفلسفيّة لأديبنا الدويهي الذي قرأت له بمتعة بعض النصوص الفلسفيّة. أصلاً إنسان بلا فلسفة يفتقد للوعي بكل امتداده، وخاصّة الامتداد الثقافيّ، الذي يشكّل قاعدة حياتيّة تشمل جميع مرافق الحياة. لأنّ الثقافة ليست الإبداع الأدبيّ فقط، بل النشاط الخلاّق من اجل الرقيّ والتطوّر أيضاً. طبعاً نحن لا نكره ولم نتعلّم الكراهية، وننشط لإنقاذ الثرثارين من ضياعهم الإنسانيّ. وكما يقول الفيلسوف الألمانيّ نيتشه: "أحبّ أعداءك لأنّهم يُخرجون منك الشيء الأكثر طيبة". وهذا ما نفعله بنشاطنا الثقافيّ، ولولا ذلك لكنّا مجرّد ثرثارين أيضاً.
الفلسفة طرحت مفهومين لـ "مبدعون وثرثارون". المفهوم الأوّل "الثقافة"، والمفهوم الثاني "الثقافة المضادّة". والثقافة تشمل كلّ مجالات الإبداع من أدب وفنون ومسرح ورسم، وكلّ نشاط يهدف إلى الرقيّ الإنسانيّ والمجتمعيّ. الثقافة المضادّة هي ثقافة الثرثرة، ولكن علينا هنا التمييز بأنّ الثقافة المضادّة يمكن أن تكون أيضا ثقافة ثوريّة ضدّ سيطرة ثقافات دخيلة أو ثقافات غير إنسانيّة... وهذا شهدناه بتطوّر ما عرف بشعر المقاومة في فلسطين 48، الذي بجوهره كان رفضاً لممارسات نهجت على فرض سياسة التجهيل والعزل ومصادرة الهويّة الوطنيّة، ونفي الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينيّ. ونشهد تطوّر الثقافة المضادّة بكلّ المستعمرات السابقة كردّ على ثقافة المستعمر، والتي حاولت تحقير الإنسان وشلّ نضاله من أجل التحرّر.
طبعاً في مجال الثرثرة نجد الفاشلين والواهمين، وهم حالة مرضيّة لمجموعة تريد الصعود، ولا تملك أيّ أداة ثقافيّة أو فكريّة. يتملّكهم غرور قاتل، كلّ ما يفعلونه يتلخّص بترك نباتات ضارّة في المسيرة الإبداعيّة للمجتمعات عامّة. واجهت بتجربتي الثقافيّة العديد من الثرثارين، وقد غلّف بعضهم ثرثرتهم تحت صيغ دينيّة، ولم أبقَ صامتاً، لأنّ الدين ليس عدوّاً للرقيّ الحضاريّ للإنسان.
طبعاً لا يمكن تجاهل التناقض الذي يقود بعض ضعاف النفوس للثرثرة، والفلسفة تعلّمنا أنّه ليس ثمّة شيء غير متناقض داخليّاً، التناقض هو قانون التطوّر كما كشف ذلك الفيلسوف الألمانيّ هيغل في نظريّاته الديالكتيكيّة، خاصّة قانون وحدة وصراع الأضداد. لكنّه تناقض يدفع للتطوّر والإبداع وليس للشلل كما يفعل المثرثرون الفاشلون. المثرثرون يرتكبون بوعي أو بغباء مذبحة بحقّ الثقافة الإنسانيّة، التي تنشد الجمال والسعادة للإنسان. يجب تعميق عزلهم بعدم إعطائهم منابر، والانفضاض من النشر في المواقع ووسائل الإعلام التي لا تحافظ على مستوى ثقافيّ يحترم العقل الإنسانيّ...
أشعر أنّنا لم نتعمّق كفاية من موضوع نقد العقل العربيّ. والنقد هو منهج لعقلنة العقل وعقلنة الإبداع. حتّى في الفلسفة الإغريقيّة نجد أنّ أرسطو ميّز بين الصفات ذات القيمة والصفات الطارئة بقوله: "إنّ الصفات ذات القيمة هي تلك التي لا يوجد الشيء فيها كما هو"، وهو بحالتنا الإبداع الحقيقيّ، وأضاف "أنّ الصفات الطارئة هي التي تظهر الشيء كما هو وليس ما هو جوهره".
مبدعون وثرثارون تذكّرني بحكاية تعبيريّة ساخرة، سأنهي بها مداخلتي: عندما وصل سمير لجيل الكهولة قرّر أن يغيّر طريقة حياته. بدأ بريجيم شديد للغاية، ومارس رياضة الركض. وبذلك خفّض وزنه بـ 15 كيلو غرام، فبدا أكثر شباباً. قرّر أيضاً أن يغيّر قصّة شعرة لقصّة شبابيّة، دخل صالون حلاقة، قصّ شعره قصّة شبابيّة وصبغه باللون الأسود الغامق. وقف مذهولاً وسعيدا أمام المرآة من هيئته الشبابيّة...
خرج للشارع والضحكة تمتدّ من أذنه اليمنى لأذنه اليسرى. فجأة صدمته سيارة فقذفته بقوة لمسافة عشرة أمتار، في الرمق الأخير صرخ: لماذا يا إلهي؟ فجاءه جواب من السماء: آسف يا سمير لم أعرفك بشكلك الجديد!
هذه حالتنا مع الثرثارين، يغيرّون أشكالهم فقط، لكنّ جوهرهم لا يتغيّر. ومصيرهم ربّما ليس النهاية بحادثة سيّارة، بل استمرار انعزالهم ولو ملأوا الإعلام بثرثرتهم الغبيّة. وسيبقى الإبداع والمبدعون علامة فارقة في التنوير والتقدّم وتعميق الوعي الإنسانيّ بنشاطهم الثقافيّ والإبداعيّ،
ولنا دليل ونموذج كبير وهامّ بمسيرة وإبداع أديبنا المهجيري والموسوعيّ د. جميل الدويهي.
باحترام لجميع المشاركين...
نبيل عودة -كاتب، ناقد، باحث فلسفيّ وإعلاميّ فلسطينيّ من مدينة المسيح -الناصرة!
بقلم نبيل عودة
******
"المبدعون والثرثارون" – نص الأديب المهجري الموسوعي د. جميل الدويهي
من الناس مَن يفرحون لكم لأنّكم تنجحون، فهؤلاء يؤمنون بأن العالم يتّسع لكم ولهم، وهكذا العصافير تغرّد جميعاً ولا ينقص شيء من السماء.
وهناك مَن لا يهتمّون لما تفعلونه إذا لم يكن لهم نصيب منه، فأولئك هم النفعيّون الذين إذا أصابتهم فائدة اغتبطوا، وإذا لم تصِبهم فائدة أشاحوا بوجوههم، ومضوا في سبيلهم... فهل رأيتم الحجارة تنطق بفضائلكم، وترتقص من أجلكم؟ أمّا الذين يكرهون نجاحكم، فهؤلاء هم الحقودون الفارغون، الذي يتخايلون في مهبّ الريح، وتغيظهم الأفكار العظيمة. وإنّهم لو استطاعوا لهشّموا وجوهكم، وقطعوا ألسنتكم، وأحرقوا كتبكم لكي تفرغ الدنيا ممّا هو جميل. فكيف يطيق مَن في قلبه بشاعة أن يرى الجمال الذي فيكم؟ وهل تنتظرون من الثرثار الذي لا يخرج من فمه إلاّ الكلام الرخيص أن يحبّ الذي كلامه من ذهب؟
قال الغراب: إيّاكم أن تنصتوا إلى هذا العندليب الذي يملأ الصباح شؤماً، ويرتعب الناس من غنائه القبيح.
وقالت الشوكة: ما أبشع هذه الوردة! فلقد خنقني عطرها، ولا أستطيع أن أتنفّس. إنّها قاتلة الأشواك.
لقد كتب عليكم أن تعايشوا مَن يرفضونَكم، وتقْبلوا بمَن لا يقبلونَكم، وأن تصْمتوا عندما يكثر الكلام الذي بغير طائل، فهذه سنّة الحياة، ولولا ذلك لكانت الأرض التي نعيش عليها جنّة، أين منها الجنّة التي في السماء؟
ما رأيت فاشلاً إلاّ ويزعم أنّه بطل، وأنّ الأبطال الحقيقيّين هم أشباه الرجال.
وما عرفت ثرثاراً إلاّ ويتمنّى أن يقتل الفلاسفة جميعاً...
وما التقيت بعاجز عن الإبداع، إلاّ وادّعى أنّه الأوّل في المبدعين، وأنّ الناس جميعاً وراءه.
مشروع الأديب د. جميل الدويهي "أفكار اغترابيّة" للأدب المهجريّ الراقي -سيدني 2020
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت