منذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية قبل 56 عاماً وحتى اللحظة يشغل نشوء (م. ت. ف) مكان الصدارة بين أبرز أحداث مسيرة الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية منذ نكبة 1948 لاسيما وانها أغنت العمل الفلسطيني، ووحدته وأضافت للعمل النضالي تجربة ضخمة في التعددية السياسية والعمل البرلماني.
كما راكمت جملة انجازات على مدار مايزيد عن نصف قرن كانت كفيلة بإفشال كل المحاولات لخلق اطر موازية من خارج منظمة التحرير في وقت أفسحت على الدوام مساحة للحوار والاختلاف والتعارض في المواقف ولكن ضمن مفهوم الشراكة السياسية وممارسة الديمقراطية. تعددت الآراء وتنوعت في موضوع إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية بحيث طرح سؤال هام لم يكن هناك إجابة عليه وهو هل عبر نشوء منظمة التحرير عن استجابة وتوجه عربي حقيقي لإبراز النضال الفلسطيني كحلقة أولى في الصراع؟ أم استجابة وتوافق مع نهوض ذاتي فلسطيني كان من اللازم إخضاعه لإطار مؤسساتي قابل للرقابة، ما يهمنا هنا أنه رغم تضارب الآراء والاستنتاجات إلا أن بروز منظمة التحرير الفلسطينية شكل حدثاً مهماً في التاريخ الفلسطيني، وأثر في مسيرة الحركة الوطنية. ولأن الرئيس جمال عبد الناصر كان ينظر للصراع مع إسرائيل بعد الثورة بأنه يحتاج لإعداد عسكري واقتصادي كبير للمواجهة، لأن العرب لن يواجهوا إسرائيل فحسب بل القوى الاستعمارية الغربية التي تواصل التآمر على الأمة العربية وقواها القومية والتقدمية نظر القوميين الناصريين وقتها لخطوة إنشاء م. ت. ف والهدف منها بالتالي:
1- خلق إطار سياسي وتنظيمي مهمته تنظيم، وتوحيد، وتوعية، وتعبئة الشعب الفلسطيني ليكون مهيئاً للعب دور طليعي في عملية التحرير العربية لفلسطين.
2- أن هذا الإطار يبرز وجود ومكانة ودور الشعب الفلسطيني أمام الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي رداً على المقولات الصهيونية بعدم وجود شعب فلسطيني.
3- إبقاء القضية الفلسطينية حية لحين استكمال الإعداد العربي لمعركة التحرير.
في حين لم يتحمس آخرون لفكرة إنشائها لما عانوه من التدخل العربي سابقاً في القضية الفلسطينية والذي لم يرق بتاتاً ليكون في موازاة حدة الصراع العربي – الإسرائيلي ورؤيتهم أنها لن تكون منظمة ثورية طالما ارتبطت بالقمة العربية ومن تلك الحركات التي تعد غير متشجعة حتى نكسة حزيران 1967 (حركة فتح، حزب البعث في سوريا، شباب الثأر وهو تنظيم مسلح للقوميين العرب) وهذا بسبب قناعتهم أن م. ت. ف صنيعة نظام عربي وبالتالي سيؤثر فيها ولن تحصل على استقلالها بممارسة العمل الوطني، فنزعت تلك الحركات لممارسة العمل النضالي والمسلح بعيداً عن م. ت. ف، حتى جاءت نكسة حزيران 1967، وبعد أن نشأ خلاف بين المرحوم الأستاذ أحمد الشقيري رئيس م. ت. ف والمرحوم عبد الناصر في أعقاب مؤتمر القمة العربية المنعقد في الخرطوم في سبتمبر 1967، الذي ركزت قراراته على إزالة آثار عدوان العام 1967 فقط، ورؤية الشقيري في هذا تخلياً عربياً عن تحرير فلسطين كاملة. قدم استقالته من رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية ليخلفه الأخ يحيى حمودة.
في ضوء ذلك نجحت حركة فتح بالتصالح مع الزعيم جمال عبد الناصر وكان لتلك التطورات على الساحة الفلسطينية أن ساهمت في انضمام الفصائل جميعاً لمنظمة التحرير في الدورة الرابعة للمجلس الوطني عام 1968، وفي الدورة الخامسة عام 1969 حيث تولت الفصائل قيادة المنظمة، من خلال تمثيلها في اللجنة التنفيذية للمنظمة وأصبح الأخ أبو عمار رئيساً لها، ومن وقتها والمنظمة تشهد تطورات على عدة اصعدة حيث تعددت خبراتها مع الوقت، وأصبحت أهدافها أكثر تحديداً وواقعية ومن هنا تنوعت وسائلها.
عانت التعددية الفلسطينية من التدخلات من الأشقاء العرب وأصدقاء الفلسطينيين وكان لهم حق في إبداء الرأي في الشأن الفلسطيني، وهكذا كانت هناك في كثير من الأحيان تأثيرات سلبية على العمل الفلسطيني، ولقد أدى افتقاد القاعدة الجغرافية، وتبعثر السكان، والعمل السري والعوامل الموضوعية الأخرى المحيطة بعمل منظمة التحرير " لوجود مسافة بين القوى السياسية والجماهير "، إضافة للعوامل الذاتية الفلسطينية كغياب الانتخابات، وتضخيم الذات لدى بعض الفصائل، وخروج أخرى عن الخط السياسي العام تبعاً لتحالفاتها مع أنظمة عربية، أو عدم تجدد مناصبها القيادية، لذلك كانت تنعكس الخلافات خروجاً مؤقتاً أو انشقاقا وهذه عبرت عن حالة تشرذم أكثر منها تطور ديمقراطي سليم، ومع ذلك يسجل لمنظمة التحرير أنها لم تغلق باب أي حوار ديمقراطي وهذا أبقى الخلافات أكثر أمناً.
وجاءت حرب أكتوبر 1973 بما تلاها من تسوية سياسية للصراع العربي –الإسرائيلي عبرت عنها القمة العربية بالجزائر في نوفمبر من نفس العام بالالتزام بتحرير الأرض المحتلة عام 1967 وتحرير القدس كهدف عربي، والالتزام بالحقوق الفلسطينية حسبما تقرره م. ت. ف. وجاء مؤتمر القمة العربي في الرباط عام 1974 ليؤكد على أن م. ت. ف الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وهو ما لم ينل رضا الأردن بحكم إلحاق الضفة الغربية بها ما قبل العام 1967، وقد تدرجت تلك العملية في نفس العام 1974 لتنال المنظمة اعترافاً دولياً بها كعضو مراقب في الأمم المتحدة.
تتوج هذا الجهد ببرنامج النقاط العشر الذي اجمعت عليها فصائل م. ت. ف حيث لا يتم التقيد بالهدف الاستراتيجي دفعة واحدة بل أن يكون التحرر مرحلياً، وقد نالت فكرة المرحلية رضا الجميع من فصائل العمل الوطني وصادق المجلس الوطني عليها بما يشبه الإجماع وقد تمثل صلب البرنامج في الدعوة إلى الكفاح المسلح من أجل إنشاء سلطة وطنية فلسطينية على أي جزء يتحرر من الاحتلال الإسرائيلي من أرض فلسطين، وبذلك قبل بجزء من أرض فلسطين حيث وصف في وقته بأنه (أول برنامج للتسوية)، واصطلح على تسميته برنامج النقاط العشر، أو البرنامج المرحلي للعمل الوطني. وبتأثير إقرار برنامج النقاط العشر، حسمت الدول العربية الموقف حول مكانة م. ت. ف، وحظي هدف إقامة دولة الضفة والقطاع المستقلة بتأييد عربي رسمي جماعي، ومن ثم دولي، وكان هذا انعكاساً للوضع العربي السياسي وإلى حالة التشتت التي عانتها القيادة الفلسطينية بالتنقل بين الدول العربية حيث تكثر المحاذير المحيطة بهم.
وفى الأعوام التي تلتها رفض الفلسطينيون اتفاقيات كامب ديفيد وتهمش الدور المصري وعزلت مصر عربياً وهي الداعم الرئيسي بالأساس لقيام وإنشاء م. ت. ف ومضى أبناء المخيمات والوطن في نضالهم ضد الاحتلال فكانت حرب لبنان 1982 والانتقال فيما بعد لتونس البعيدة جغرافيا عن فلسطين وأصبحت الفترة من العام 1983 – 1987 من أسوأ المراحل التي عاشتها التنظيمات الفلسطينية على كل الصعد لعبت خلالها سوريا وليبيا دوراً في انشقاق بعض التنظيمات وتحالفها ضد منظمة التحرير الفلسطينية.
لذا مثلت انتفاضة الحجارة في تاريخ 9 .12. 1987 رافعة أساسية للوضع الفلسطيني، ونقلت القضية الفلسطينية نقلة نوعية فجاءت كطوفان جرف في طريقه كل العوائق والصعوبات أمام منظمة التحرير لتعيد لها بريقها ووهجها الوطني حيث واكبت الانتفاضة منذ بدايتها، ونسقت مع باقي الفصائل فظهرت القيادة الموحدة لأول مرة (جسم مصغر ل م. ت. ف)، ورفضت حركة حماس الناشئة حديثاً وقتها الدخول فيها وآثرت العمل وحدها، وبعد مداولات كبيرة شهدتها فصائل م. ت. ف شهدت الدورة 19 للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر نوفمبر. 1988 إعلان الرئيس الفلسطيني الراحل أبو عمار قيام دولة فلسطين. لقد قاد هذا الى عدة أمور أهمها:
1- قدرة منظمة التحرير الفلسطينية على البقاء، واستمرار القبول بها كرمز لآمال الفلسطينيين.
2-رفض الفلسطينيين كل التسويات السياسية الاسرائيلية البديلة بحكم الانتفاضة.
3-انسحاب الأردن كمشارك نشيط في الصراع بشأن التسوية، ووعي الفلسطينيين بايجاد حل.
ومع التغيرات الدولية والعربية بداية التسعينات عقد مؤتمر مدريد للسلام انتهى بتوقيع اعلان المبادئ ثم اتفاق أوسلو، وما بعد اتفاق أوسلو دخل النظام الفلسطيني في نشوء مولود جديد أقر قيامه المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية في دورته المنعقدة من 10– 12. 10. 1993 في تونس، وهي "السلطة الوطنية الفلسطينية" وقد أدى ذلك للازدواج في الحياة السياسية الفلسطينية ما بين عمل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وقيادة السلطة الوطنية الفلسطينية، ففي حين تمثل الأولى قيادة الشعب الفلسطيني بمجمله، وهي المخولة بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بتوقيع الاتفاقيات التعاقدية مع الحكومة الإسرائيلية، كان من المتوقع أن يقتصر عمل السلطة الوطنية على قيادة عملية بناء نظام الدولة عبر وزاراتها ومؤسساتها المدنية والعسكرية المختلفة وإدارة بنية تحتية اقتصادية قوية، غير أن وجود قيادة م . ت. ف على رأس السلطة الممثلة لكل الشعب الفلسطيني خلق نوع من الازدواجية في العمل أدخل قيادات السلطة في عملية التفاوض السياسي، فإذا ما أضيف للوضع الطارئ الجديد، حالة المراوحة في المكان التي أصابت منظمة التحرير الفلسطينية، وانهماك القيادة الفلسطينية وعلى رأسها حركة فتح في إنشاء سلطة جديدة على الأرض الفلسطينية، خصوصاً وأن ذلك تطلب جهداً متواصلاً وعملاً شاقاً لإنجاز تلك المرحلة لكل مكونات سلطاتها القضائية والتنفيذية تحضيرا للتشريعية والدستورية لاكتمال مكونات السلطة الحقيقية، كان من الواضح أن السلطة تنمو وتكبر على حساب منظمة التحرير التي قام عدد من قادتها بتولي مؤسسات مختلفة في عملية البناء.
لذلك نجد أن الظرف الموضوعي والذاتي قادا بدون شك لتهميش دور منظمة التحرير الفلسطينية، وقد رأت القيادة السياسية وقتها أن ضمور منظمة التحرير لصالح تقوية السلطة الوطنية هو تطور طبيعي لأن الكيان الفلسطيني في الوطن هو نقطة جذب ينبغي تعزيزها والبناء عليها وهذا يعني تغير مهمات منظمة التحرير للمواءمة مع الحقائق الجديدة، والمهمة المنوطة بالمنظمة بهذا المعنى هي المساعدة على ترسيخ البناء في الوطن هذا في وقت لم تستنفذ منظمة التحرير أهدافها الوطنية. وفي عملية بناء السلطة التحقت فصائل العمل الوطني لتعمل مع حركة فتح في بناء السلطة الجديدة والناشئة، في حين تم دعوة حركة حماس المعارضة لعملية السلام للمساهمة في بناء السلطة إلا أنها رفضت حتى مجرد استقبال أبو عمار رحمه الله الذي أوصل رسالة لهم أنه الآن ينشئ ويطور مؤسسات السلطة الفلسطينية، والعمل الوطني يتطلب مساهمة الجميع وهو يرى أن دخول حركة حماس السلطة الوطنية ومنظمة التحرير اليوم أفضل من أي وقت ليساهموا في عملية بناء السلطة كأحد مكوناتها ولأن هذا الوضع مستقبلاً وبعد إنشاء الوزارات، والمؤسسات وقوات الجيش والشرطة سيكون صعباً، ولن تأخذ حركة حماس نصيب من تلك السلطة أفضل مما ستأخذه الآن ونحن نقوم بإنشائها، لكن حركة حماس رفضت مبدأ حتى مجرد الحوار في هذا الموضوع وبقت معارضة لعملية السلام والأهداف المرجوة منها. في الفترة من 11 -25 يوليو 2000 عقدت مفاوضات مكثفة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في منتجع كامب ديفيد بالولايات المتحدة الأمريكية وفيها تجاوبت إدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون تماماً مع مطالب باراك وساعدته في ذلك وزيرة خارجيته مادلين أولبرايت بالضغط على الجانب الفلسطيني على طريقة (خذ أو أترك) كما أمتنع باراك عن مقابلة الرئيس أبو عمار للتفاوض معه، وآثر الضغط عليه من خلال الرئيس كلينتون الذي بدا (كمراسل) ينقل أفكار باراك، وفضل باراك مقابلته بعد أن يذعن للإملاءات الإسرائيلية والأمريكية. لقد كانت محادثات شاقة، ومضنية ضغط فيها الجانب الفلسطيني لدرجة التهديد ونستطيع القول إنه تم احتجازهم للتوصل إلى اتفاق.
لقد كانت المقترحات الإسرائيلية شفوية شطرت الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى أربعة كانتونات منفصلة تحيط بها إسرائيل وهي: شمال الضفة الغربية، ووسطها، وجنوبها، وقطاع غزة، وعلى كل من يسافر من منطقة لأخرى عبور أراضي إسرائيلية بحكم المقترحات وهذا يخضع حركة الفلسطينيين والبضائع داخل حدود الأراضي المحتلة إلى السيطرة الإسرائيلية وبذلك كان المقترح يحرم الدولة الفلسطينية المنوي إقامتها على حدود العام 1967 من إمكانية التطور والاستمرارية، والقابلية للحياة بينما تضفى الشرعية على المستوطنات الإسرائيلية المقامة على الأرضي المحتلة، وتفسح المجال لها للتوسع، وجرى بكل صلف إهمال موضوع اللاجئين وبذلك تصبح الدولة الفلسطينية أقل من (البندوستونات) التي أوجدتها الحكومة العنصرية في جنوب أفريقيا لقد كانت محادثات شاقة، ومضنية ضغط فيها الجانب الفلسطيني لدرجة التهديد ونستطيع القول إنه تم احتجازهم للتوصل إلى اتفاق. لقد كانت المقترحات الإسرائيلية شفوية شطرت الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى أربعة كانتونات منفصلة تحيط بها إسرائيل وهي: شمال الضفة الغربية، ووسطها، وجنوبها، وقطاع غزة، وعلى كل من يسافر من منطقة لأخرى عبور أراضي إسرائيلية بحكم المقترحات وهذا يخضع حركة الفلسطينيين والبضائع داخل حدود الأراضي المحتلة إلى السيطرة الإسرائيلية وبذلك كان المقترح يحرم الدولة الفلسطينية المنوي إقامتها على حدود العام 1967 من إمكانية التطور والاستمرارية، والقابلية للحياة بينما تضفى الشرعية على المستوطنات الإسرائيلية المقامة على الأرضي المحتلة، وتفسح المجال لها للتوسع، وجرى بكل صلف إهمال موضوع اللاجئين وبذلك تصبح الدولة الفلسطينية أقل من (البندوستونات) التي أوجدتها الحكومة العنصرية في جنوب أفريقيا فشلت القمة ليدنس شارون بعدها المسجد الأقصى مع مئات الجنود الإسرائيليين. تفجر الغضب الفلسطيني بمظاهرات سلمية منددة بالزيارة جوبهت برد عنيف من الجيش الإسرائيلي بحيث استشهد في الأسبوع الأول 50 فلسطينياً بعد أن تقوضت العملية السياسية برمتها، وفقدت قوة الدفع التي بدأت بها ولازمتها للخمس سنوات الأولى من المرحلة الانتقالية، وأصبحت المفاوضات تدار من أجل تسهيل الحياة اليومية للشعب الفلسطيني بدون مردود سياسي واضح كان الهجوم وإعادة احتلال الضفة الغربية المحتلة أصلاً وحصار الرئيس أبو عمار حتى وفاته في مقر المقاطعة في رام الله بتاريخ 11.11. 2004 دافعا ثمن عدم تنازله عن الثوابت الفلسطينية ودخلنا بمرحلة جديدة في حياة الشعب الفلسطيني غير واضحة المعالم، واستلم الرئيس أبو مازن قيادة السلطة الوطنية الفلسطينية، ومنظمة التحرير الفلسطينية أثر نجاحه في الانتخابات الرئاسية، وفي العام 2005 تم الإعلان عن انتخابات تشريعية جديدة بدأ التحضير لها، ووافقت حركة حماس على دخولها بعد أن كانت ترفض دخول السلطة الوطنية الفلسطينية منذ تأسيسها.
لأول مرة في التاريخ السياسي وفي النظام الديمقراطي البرلماني تحدث انتخابات وتتقدم الأغلبية الفائزة ببرنامج حكومي يتعارض مع دستور الدولة، وفى الحالة الفلسطينية قانونها الأساسي فمن الممكن أن تكون الأغلبية، وحكومتها من لون سياسي والرئيس من لون آخر، ولكن أن تكون الحكومة وبرنامجها ضد دستور الدولة، وقانونها الأساسي فهذه سابقة، ومعضلة تحتاج لعقول دستورية وسياسية جبارة لحلها فما بالك ونحن نرزح تحت الاحتلال وحدث ما نخشاه، فقد دخل النظام السياسي في أزمة بعد رفض اللجنة التنفيذية بصفتها الإدارة التنفيذية لمنظمة التحرير يوم 23/3/2006 برنامج الحكومة التي شكلها رئيس الوزراء المكلف السيد إسماعيل هنية، وهو رفض متوقع لأنه لا يعقل أن تعترف مرجعية أعلي بمرجعية أدني لا تعترف بها ولا بالقانون الأساسي الذي شرع الانتخابات. وبدا للنظام السياسي ثلاث رؤوس أساسية (منظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد بمقتضى الميثاق الوطني، وبمقتضى القانون الأساسي للسلطة، وبمقتضى الاعتراف العربي، والإسلامي، والدولي ثانياّ رئيس للمنظمة والسلطة، وثالثاّ حكومة تترأسها أغلبية انتخبت من جزء من الشعب على جزء من الأرض وببرنامج متعارض مع برنامج الممثل الشرعي لكل الشعب).
إن جذور الأزمة ترجع للحظة التي دخلنا فيها انتخابات تشريعية قبل الاتفاق على ثوابت ومرجعيات مشتركة، ذلك أنه لا يمكن أن يحدث تداول ديمقراطي سلمي على السلطة بين أحزاب سياسية ذات برامج متناقضة، ولكن يبدو أن غالبية الأطراف السياسية دخلت اللعبة الانتخابية، والديمقراطية دون فهم الإصرار الأمريكي على عقدها في موعدها، وهذا بالنظر للأحداث التي تلتها يمكن أن تدلل على أمرين:
1- أن العملية الانتخابية برمتها هي صفقة دولية هدفها وقف الانتفاضة وتدمير المشروع الوطني الفلسطيني من خلال تدمير قواه الحية " حركة فتح، وحركة حماس، وفصائل منظمة التحرير " بعد أن عملوا لسنوات على تدميرها.
2- غياب الفكر الاستراتيجي في مراكز اتخاذ القرار عند السلطة والمعارضة معاً بحيث لم تتم قراءة خطة شارون للانفصال الأحادي الجانب قراءة واضحة، ولم يتم الربط بين مأزق المفاوضات، ومأزق النهج العسكري للفلسطينيين ثم التهدئة والإصرار الأمريكي على إجراء الانتخابات في موعدها رغم وضوح التدهور المتزايد لحركة فتح وقوى اليسار، 3- عدم أخذ الحوار الوطني للتوصل لثوابت ومرجعيات مشتركة محمل الجد خصوصاً بعد إعلان القاهرة مارس 2005، وبدلاً من أن تخرج الانتخابات التشريعية النظام السياسي الفلسطيني من مأزقه تعمقت تلك الأزمة، ولأننا لا زلنا في مرحلة تحرر وطني كان لزاماً أن نجد قواسم مشتركة تتوحد خلفها كل القوى لمواجهة العدو المشترك وهو ما قادنا للتصادم فالانقسام وبتنا منفصلين جغرافيا وأيضا سياسيا ولم تفلح كل الجهود حتى تاريخه بالمصالحة نظرا لتأثرها بالإقليم والوضع الدولي والمؤامرة الإسرائيلية. وكما تعطلت مسيرة الوحدة تعطلت التسوية السياسية وبات حدوث حلحلة في الجمود المهيمن على عملية السلام يحتاج لتحقيق ثلاثة عوامل:
1- قيادة إسرائيلية حكيمة وشجاعة وهذا (غير موجود لدى إسرائيل).
2- فهم احتياجات الطرف الفلسطيني من استقلال وسيادة حقيقيين وهو (غير موجود لدى أمريكا واسرائيل).
3- وجود وسيط نزيه (وهذا لا ينطبق على الأمريكيين).
فيما المسح الاستراتيجي الإسرائيلي تحدث عن توقعات مع انسداد أفق المفاوضات وشملت التالي:
أ-وجود مؤشرات على الميل العام في الشارع الفلسطيني نحو انتفاضة ثالثة نتيجة تنامي حالة الإحباط لديهم.
ب-التطورات المصاحبة لاندلاع الانتفاضة ستسرع الجهود المبذولة لنزع الشرعية عن إسرائيل في العالم الغربي (لذلك لا بد من خطة بديلة).
ج-أن إسرائيل حتى اللحظة تفتقر لأي خطة بديلة في حين أن الفلسطينيين لديهم خطة على المدى القصير ملخصها حملة دبلوماسية ضد إسرائيل في الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية من أجل الحصول على اعتراف بدولة فلسطينية ضمن حدود العام 1967 مصاحبة لحملة نزع الشرعية عن إسرائيل.
ولأن السياسيين الإسرائيليين يرون أن المفاوضات ركزت على الضفة فيما لا تزال ما اسموها معضلة قطاع غزة الذي تحكمه حركة حماس قائمة فلا بد من وضع سياسات محتملة للقطاع وهي:
1-استمرار السياسة الحالية في احتواء حركة حماس/ وهي تتعقد لزيادة اعتماد القطاع على إسرائيل وفى نفس الوقت ممارسة المزيد من عزل غزة.
2-استغلال ضائقة حماس لإحداث تغيير جذري في سياستها / وهو يبدو سيناريو بعيد فالظروف غير مواتية لتتخلى حماس عن أيديولوجيتها التي لا تعترف بإسرائيل وتشجع على المقاومة العنيفة.
وهو ما تم تهيئته بالحرب على غزة بعد التوصل لحكومة التوافق فرغم أن وظيفة الحكومة إدارية وتنفيذية بحتة وليس لها طابع سياسي ألا أن إسرائيل هددت السلطة الوطنية الفلسطينية بمقاطعتها فور تشكيل حكومة الوفاق هذا في الوقت الذي كان الاتحاد الأوروبي يعلن قبوله حكومة الوفاق، وبشكل أقل الأمريكان الذين قبلوها ضمن شروط الرباعية، وقد صرح رئيس وزراء إسرائيل (بنيامين نتنياهو) قائلا: "هل عباس يريد مصالحة مع حماس أو تسوية مع إسرائيل، فيمكن تحقيق خيار واحد من بين الخيارين وليس كليهما"، وبذلك وضع المؤشرات الأولى للسياسة الإسرائيلية في اتجاه النيل من المصالحة الفلسطينية والتي يرى فيها قوة للموقف الفلسطيني لم تعتده إسرائيل منذ سنوات بسبب الانقسام .
لقد جرت في النهر مياه كثيرة تحتاج مجلدات لكتابتها فمن انهيار التسوية السياسية الى الانقسام ثم الثورات في العالم العربي وانهيار دول قومية وتغيرات دولية وحروب بالوكالة وسط هذا كله قادت منظمة التحرير الفلسطينية باقتدار وتماسك النضال الوطني الفلسطيني وتمكنت من تحمل ضغوطات هائلة عربيا ودوليا وحتى محليا وسجلت إنجازات هامة من دولة مراقب في الأمم المتحدة الى رفع العلم الفلسطيني وصولا لكل الهيئات والمنظمات التي تم الانضمام لها يصاحب ذلك إدارة الحياة اليومية للفلسطينيين في كل مكان. ويبقى التحدي الوجودي الأكبر المتمثل بصفقة ترامب وخطط الضم الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والتي تهدف لشطب منظمة التحرير الفلسطينية واسس القضية الفلسطينية والذي حتى الان نجحت المنظمة فيه رغم انه تعوزه اهم مقومات قوته المتمثلة بالوحدة الوطنية والتي ستفودنا لها منظمة التحرير الفلسطينية ممثلنا الشرعي والوحيد مهما طال الوقت فالتاريخ خير شاهد على نجاحها طوال تلك السنوات وصمودها.
بقلم /جمال أبو لاشين
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت