يقال أو يلاحظ أن لكل جيل سمات عامة، وحظوظ أبناء هذا الجيل في حيّز جغرافي ما في الرزق والظروف تتشابه إلى حد بعيد، ويتشارك أبناء كل جيل في نمط التفكير والهموم والاهتمامات، حتى لو كانوا شركاء متشاكسون.
أنتمي إلى جيل له مزية واضحة هي زخم التبدّل والتحوّل, وهناك من حدد الفترة الزمنية التي ينتسب إليها هذا الجيل وفق اجتهاد تقريبي إلى مواليد الفترة من 1969-1980م ونحن نتحدث عربيا عموما, وربما فلسطينيا خصوصا, ولا يهمنا كيف نصف أو كيف كان حال هذا الجيل في ذات الفترة في دول وبلدان أخرى غريبة أو آسيوية أو غيرها.
فنحن جيل وأقصد من هم على قيد الحياة من مواليد تلك الفترة؛ عاش زمن جهاز التلفزيون بالأبيض والأسود الذي كان موجودا في بيت واحد في الحيّ يذهب الجيران لمتابعة نشرة أو نشرتي أخبار عند أصحابه, ودأبوا على متابعة مسلسل ما، وأصلا كانت المسلسلات قليلة وفي وقت معلوم, وفي الصباح وحتى المساء يظل حديث الأطفال الصغار تلامذة المدارس وربّات البيوت والرجال العمال أو الذين يعملون في البيع والشراء أو أعمال البناء أو من كان منهم موظفا-هؤلاء قلة قليلة جدا وقتها- يدور حول أحداث المسلسل والتوقعات ولا يخلو الأمر من تعليقات تحاكي أصوات الممثلين!
فنحن جيل نختلف عن الجيل السابق فقد ولدنا وترعرعنا والتيار الكهربائي موجود، بعكس حال الجيل السابق، وبناء عليه وجدنا أجهزة التلفزيون(أو التلفاز كما كانوا يحاولون إقناعنا أن نقول من باب التعريب) والمذياع(الراديو) الذي يعمل بالكهرباء وبعض الأجهزة الكهربائية الأخرى موجودة وإن لم تكن في كل بيت جميعها؛ فمثلا لم يكن في بيتنا غسالة كهربائية وكانت أمي تغسل الغسيل يدويا ولما اشترينا غسالة كانت (نصف أوتوماتيك) في البداية.
وأيضا على مستوى بيتنا فقد اشترينا أول جهاز تلفزيون (أبيض وأسود) مستعمل من نوع (Zenith) أواخر سنة 1982 أما أول تلفزيون ملوّن دخل بيتنا فكان في 1992م. ومرّت فترة كان التلفزيون الملوّن الذي يمكن التحكم به بجهاز (ريموت كونترول) أشبه بشيء سحري أو خارق, يأت الناس إلى رؤيته عند من تمكّن من شرائه، بل هناك من استبقوا وجوده في البيوت ووصفوه لأنهم رأوه في أماكن وبلدان أخرى، فرسم الناس تصورهم عنه في خيالهم!
وأما القرى التي كانت غالباً لا تعرف بيوتها الكهرباء, فقد كان بعض سكانها يشترون أجهزة تلفزيون صغيرة الحجم بالأبيض والأسود ويقومون بتشغيل الجهاز بوصله ببطارية سيارة بطريقة معينة, وطبعاً لن يكون التشغيل سوى سويعات ليلاً, لمتابعة نشرة إخبارية مع مسلسل واحد فقط.
ولم تكن الهواتف منتشرة في البيوت وكان عددها محدودا ويتم الاتصال عبر طلب الرقم من المقسم، ولم يكن هناك اتصال مع أي دولة عربية-عدا مصر- وحين صار هذا متاحا كان هناك تسعيرة مرتفعة نسبيا.
وسياسيا نحن جيل رأى من يطبّل ويزمر للاتحاد السوفياتي باعتباره(الحليف الاستراتيجي لقوى التحرر في العالم وللشعب الفلسطيني خاصة) وعشنا فترة هجرة اليهود من هذه الامبراطورية إلى بلادنا، لينكفئ أولئك الطبّالون، وشهدنا إزالة سور برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي، ورأينا دخول العالم في العصر الأمريكي، ورأينا مرحلة ما قبل انتفاضة الحجارة وما فيها من ظواهر اجتماعية وسياسية، ثم عشنا مرحلة تلك الانتفاضة التي جبّت ما قبلها وبدّلت الفكر والزعامات والاهتمامات، وعشنا مرحلة الحرب العراقية-الإيرانية ومرحلة اجتياح الكويت وما تلاه من هوان عربي مبين، وعشنا مرحلة انتفاضة الأقصى وما بين الانتفاضتين وما فيها من تغيرات وتبدلات أيديولوجية وسياسية واقتصادية واجتماعية امتازت بالزخم والسرعة نسبيا...فالتغيرات في وسائل وأدوات المعيشة واكبت التغيرات الميدانية والسياسية مواكبة ملحوظة، وهذا ما لم يكن في جيل(النكبتين) مثلا حيث أن وسائل وأدوات معيشتهم ووسائل التسلية عندهم لم تتغير جذريا بالتناسب مع التغيرات السياسية.
فنحن جيل رأى وعاش ذلك, ولم يعش ما قبله مثل من سبقنا (حيث لا كهرباء ولا تلفزيون ولا هواتف ولا سيارات خاصة) وكبر ورأى وعاش وانتفع - أو تضرر-لا أدري- من التقدم السريع, حيث اختفت تماما أجهزة التلفزيون بالأبيض والأسود، صارت أجهزة التلفزيون الملونة القديمة رخيصة وحلت محلها الشاشات التلفزيونية الذكية بأحجامها المختلفة, لا تكاد تجد من يشتريها, وأزيلت من على أسطح البيوت الهوائيات (الأنتينات) التي كانت تجلب بعض المحطات بشق الأنفس, وازدحمت الشاشة بمئات القنوات الفضائية ولم يعد هناك شيء مشترك في المشاهدة والمتابعة بين الناس كي يكون مادة حديث ونقاش وتفاعل عام بينهم؛ فذاك يتابع مسلسلاً وآخر يتابع فيلماً وآخر يتابع برامج وثائقية أو أخبارا سياسية أو مباراة كرة قدم, وما وفرته شبكة الإنترنت التي أيضاً دخلت بالتدريج إلى حياتنا وحياة جيلنا حيث ربما كنا بحكم أعمارنا ودراستنا ربما أول فئة عمرية تتعامل مع الشبكة العنكبوتية وشهدنا تطورها النوعي والكمّي... فما وفرته قلب حتى عادات اجتماعية كاملة من خلال خياراتها في المشاهدة....لقد عشنا ورأينا وشهدنا كل تلك المراحل.
وكان شغفنا كبيرا بفترة قصيرة مخصصة لبرامج الأطفال وهي تأتي مباشرة بعيد فترة الافتتاح بالقرآن الكريم والتفسير؛ وكان الحرمان نصيبنا معشر أطفال ذلك الزمان في حال جاء ضيوف للزيارة لأن التلفزيون غالباً سيكون في مكان جلوسهم, أو كان هناك أعياد أو مناسبات وطنية يتفرغ لها التلفزيون ويلغي فترة الأطفال, أو كان الهوائي فيه مشكلة ما؛ فلا نلتقط البث ونضطر لمحاولة ضبطه بواحد يصعد ويعدل اتجاهه ويصرخ على الثاني في ساحة البيت الذي يصرخ بدوره على من يجلس للمراقبة قبالة الشاشة.
وجاء وقت رأينا أولادنا لديهم مجموعة من قنوات الأطفال تبث على مدار الساعة, وإن كان جيلنا يرى أن مسلسلات كارتون زماننا أفضل من حيث القيمة الأخلاقية والمعرفية والتربوية مما يبث اليوم لأسباب لا يتسع المجال لذكرها.
وقد يقول قائل:ما الجديد فيما تقول؛ فكل من عاش رأى أو بالتعبير الشائع(عيش كثير بتشوف كثير) ولو جلس أحدنا إلى شيخ كبير لسرد له مراحل مختلفة عن حياة الناس وما يعرفه من أمور السياسة وتغيراتها، وبالتالي هذا السرد قد يقوم به جيل أكبر من جيلكم أو أصغر منه وفق هذه المعطيات، فما مغزى الحديث؟حقيقة إن هذه هي الفكرة تحديدا؛ فنحن جيل لم نبلغ مرحلة الشيخوخة والهرم، وشهدنا تغيرات وتبدلات وتحوّلات كثيرة على مختلف الصعد المعيشية والسياسية والاجتماعية في طفولتنا التي نتذكر سنواتها ومرحلة الصبا والفتوة والشباب وما بعد الشباب(الرجولة والكهولة) ولا أحسب جيلا عاش ما عشناه من تغيرات وتقلبات وهو في مثل أعمارنا الآن؛ فلو سألت سبعينيا أو ثمانينيا لما كان في جعبته وجعبة جيله قبل أربعين عاما ما في جعبتنا نحن.
ونحن الآن في زمن كورونا التي يقال أن وباء سابقا شبيها بها من حيث الانتشار والذعر حصل قبل قرن تقريبا، وهي تضاف إلى طوفان التغيرات الكثيفة في أنماط التفكير والحياة والسياسة وكل شيء...وأخال أن من سيمدّ الله في عمره من جيلنا ليكون في قادم السنوات من هؤلاء الآباء أو الأجداد سيكون مثقلا بتاريخ خصب في التغييرات والتبدلات التي تجعل الحليم حيرانا...كان الله في عوننا؛ فنحن جيل مخضرم أو حتى فوق المخضرم، فإذا كانت الكلمة تدل على من عاش عهدين مختلفين اصطلاحا، فنحن من عاش حتى الآن عهودا متباينة متواصلة التغيير في كل صغيرة وكبيرة!
سري سمور
كاتب ومدون فلسطيني
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت