- حسن عبادي
استلمت بداية الهجمة الكورونيّة في مكتبي طردًا بريديًّا، وكم كنت سعيدًا حين فتحته وإذ به يحوي ديوانًا شعريًا بعنوان "حقول العمر" للشاعر السخنينيّ صلاح عبد الحميد، وعبّرت عن فرحتي بتغريدة نشرتها على صفحتي يوم 17 آذار 2020 بعنوان "خير هديّة في الزمان كتاب" وكتبت: "هديّة قيّمة في زمن الكورونا وتصلح لكلّ زمان ومكان. طبعًا بدأت بقراءته تيمُنًا بمقولةِ جون بول سارتر:"إن الكتابَ، وهو مُلقى على الرفِّ، أشبه بالجسمِ الميّتِ، تدُبّ فيه الحياةُ إذا امتدّتْ إليه يدُ القارئِ"، شكرته عبر صفحتي، وقرّرت أن أحادثه بعد نشر قراءتي حول الديوان، وللمرّة الأولى أشعر بالندم لعدم الاتصال بكاتب سأكتب عن إصداره؛ لأن يد الموت كانت أسرع واختطفته قبل المحادثة الموعودة. تبًا لها!
قرأت الديوان (يحتوي 113 صفحة من الحجم المتوسط، إصدار خاص، صورة الغلاف: الفنّانة الجولانيّة مروى طربيه، قدم للديوان الدكتور الشاعر عامر جنداوي، صدر له ديوان سابق بعنوان "عيون الزّهر") وجاء في الإهداء: "إلى كُلِّ من يجعلُ من الكَلِماتِ أوتارَ كَمانٍ تَعزِفُ موسيقا عَذبَةً تنسابُ لِتُطرِبَ القلوبَ والأرواح"؛ تجوّلت في حقوله، من النكبة والتهجير، إلى الهدم والمصادرة وحلّقت مع آماله بغدٍ أفضل وعودة قادمة، سرحت مع حنينه لبراءة الطفولة وبيته... وكتابته "للّتي زرعت حقولَ العمر أحلامًا".
يقول في قصيدته "خُذيني"
"خُذيني لِحِضْنِكِ طَيْرًا صَغير
يَخافُ الْفَضاءَ وَيَخْشى الْمَصير
وكوني الْغِطاءَ لِجِسْمي النّحيلِ
وكوني الضّياءَ لحُلْمي الجَميلِ
أكُنْ لِلعُيونِ كَعَبْدٍ أسير"
أحبّ صلاح الوطن وتغزّل به، تشبّث بالأرض وعشقها، لازمه التهجير وحلم العودة فتغنّى بالوطن السليب في الكثير من أشعاره، بعيدًا عن الشعاراتيّة الرخيصة. كقصيدته "تَخَطّي الحواجز"، ويقول في "جحيمُ الصَّمْت":
"صمتٌ ونهرٌ مِن دِماء
وحبيبتي عُصفورةٌ مَذعورَةٌ
صَوتُ البَنادِقِ والمَدافعِ
غيَّرَت تلكَ المعالِم
كي تَعودَ إلى الحبيب
نادى وَنادى وارتَعَب
خوفًا على مَعشوقَةٍ لا تَهتدي
حتّى تؤوبَ إلى الدّيار"
يتساءل لماذا تهجّرنا في قصيدته "لو عُدتُ طفلًا" ويذكرّني بصديقي الراحل أحمد دحبور ولقائي الأخير به وتجوالنا في شوارع حيفا العتيقة وساحلها ومشيِنا على رمالها وقوله:
"كنت ملفوفًا بعامين من الكرمل والنسناس
حين انفجرت، في شجرة الكينا،
الرياح الأربع
ما الذي كان أبي يخشاه حتى ارتكبت أخطاؤه
فعل السنونو
ليته قال: اذبحوا طفلي
ولم يرحل"
وجدت حلم العودة حاضرًا في الكثير من أشعاره، قصائده تشعّ حنينًا وأملًا بعودة قادمة، ولو كان صلاح حيًا لعنونت قراءتي في الديوان "درب العودة"، كما لمست في قصيدة "المضيق" وفي قصيدته "تخطّي الحواجز" يقول:
"تخطّي الحواجزَ... كلَّ السّدودِ
وقودي فُؤادَكِ صَوب الحُدودِ
فإنّ انتظاري جحيمٌ تُثارُ
وَصَبرٌ تَفَتَّتَ عِند الجِدارِ
لِتروي العِطاشَ بتِلكَ الخُدود"
يتغزّل بالبلد/ الوطن التي رآها معشوقته فتغنّى بها في العديد من أشعاره ويقول في قصيدته "لكِ الشمس":
"لكِ السّحُبُ التي
تَزدان بالمطر
لك المطر الذي يَهمي
ويروي الأرض كي تُبقي
لنا الأزهارَ والعِطرا
....
لكِ العمر الذي يكبُر
أيا بَلدي"
نكبتنا المستمرّة حاضرة في الكثير من أشعاره، بعفويّة، بشكل مباشر أو بدلالاتها، بصورة بنيويّة دون ابتذال، دمّرت وسلبت الشجر والحجر، البيت والوطن... والحلم، فيقول في قصيدته "نَكبَة":
"هي نَكْبَة حَلَتْ عليْنا
دَمَّرَتْ أحْلامَنا
في أنْ يكونَ لنا وَطَنْ
بَيْتٌ لِيَأوينا
....
سبعونَ عامًا في اختناقٍ وانتظار
وعُروبةٌ ما همّها هذي الدّيار
فَعسى النّهارُ يلوحُ مِن شِقِّ الظلام
وربّما يبقى النهارُ وما حوى في الإنتِظار"
عوّل كغيره على العرب والعروبة لنجدة فلسطين ولكن هيهات، خذلوه مما جعله يصرخ وينكم يا عرب ويقول في قصيدته "جحيمُ الصَّمْت":
"اخفض نِداءَك وانتحب
لِمَ تَشتكي ظُلمَ الأحبّةِ.. هل يَجِب؟!"
يتغنى صلاح بمدينته ومسقط رأسه فوهبها قصيدة تليق بها وتحمل اسمها "سخنين"، جاء فيها:
"سَخْنينُ" يَقْتُلُني الْهَوى وَهَواها
قَدْ رَدّني حَيًّا فَهَلْ أنْساها ؟!
...
ذهبٌ ثَراها لا يُباعُ ويُشتَرى
وجمالُ ماءٍ في الصّفا قدْ تاها"
عرفت صلاح بتواضعه، اقترح غيره للمشاركة بعكاظيّة رتّبتها في إحدى أمسيات نادي حيفا الثقافي، وكذلك الأمر في الصالون الأدبي الأخير لمنتدى القلم الذي دعاني لحضوره، عرف "الشعراء" والمستشعرين عن كثب، تذمّر من نرجسيّتهم المفرطة وشغفهم بالمنابر والمنصّات، فقال في قصيدة "قالوا لها":
"قالوا لها:
لا يعشقُ الشُّعراء غير حروفِهم
كلماتُهُم معسولةٌ
وقصائدٌ مجبولةٌ بالكذبِ.."
وجد في الحرف والقصيدة متنفّسا، وفي قصيدته الجميلة " لِمَنْ أكْتُبْ؟!" يجيب عن السؤال الذي طالما يطرحه الكثير: لمن يكتب المبدع فقالها بصريح العبارة:
لمَنْ أكتًب؟!"
لمن أحْبَبْتُها جِدّا
لِمَنْ صَبّتْ بأوْرِدَتي
حَنانًا لا يُفارقُها
....
وأكْتُبُ لِلّتي زَرَعَتْ
حُقولَ الْعُمْرِ أحْلاما
....
أعادَتْني إلى ذاتي
لها أكْتُبْ
لها قَلَمي وما حَصَدا"
كأنيّ بصلاح قد شعر باقتراب ساعته مخذولًا فقال كلمة الوداع، مجيبًا على ما سيقوله مؤبّنوه على صفحاتهم، في قصيدته "زِدْ في الغياب":
"لا تطلبي مِنّي إذن
وطنًا إذا ما سالَ من عَينيكَ
شوقُ أو شجَن
لم يبقَ حولٌ ليُبقيني معَك
...
لا تَسألي عَنّي غدًا
إن غِبتٌ عَنكم واختفيت
لا تبحثي بين القصائدِ والصُّوَر
عني ولا بينَ الأماكِنِ
حيث كُنّا نلتقي"
لفتت انتباهي لغة الشاعر الانسيابيّة، شاعريّة وموسيقيّة بعفويّة، بعيدة عن الفذلكات و"الجهبذات" التي يعلّقها بعض الشويعريّين نياشين، الواحد للآخر، وشدّ العضلات اللغويّة، جاءت كتابته بسيطة، من مدرسة السهل الممتنع، دون تعقيد، بعيدة عن "الغضنفرات" الوهميّة، متعدّدة بمواضيعها، سلسة تعبق بالحنين وحبّ الأرض والوطن، بعيدة عن الغموض والأساطير الرمزيّة، سلسة بأسلوبها، وجدانيّة تنبض حياة، بسّط فأبدع... بسيط بإبداعه ومبدعًا ببساطة قوله وشعره.
وأخيرًا، حين انتهيت من قراءة الديوان عدتُ ثانيةً إلى قصيدة "شوقٌ وانتظار" وتخيّلته يُلقيها على قبره، بعد سماعه كلمات التأبين، بابتسامته السرمديّة وطلّته البهيّة، ولكن الكورونا حرمتني من تلك المتعة. ويحِك أيّتها الكورونا اللعينة!!
لك صديقي صلاح، وصرت راحلًا!!!، كلّ الرحمة والسلام.
***نُشِرت هذه القراءة في كتاب "همسات وفاء" الذي أصدره منتدى القلم في الذكرى الأربعين
لوداع الشاعر صلاح عبد الحميد
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت