- بقلم : جبريل عوده*
ثلاث وخمسون عاماً على نكسة العرب , هزيمة نكراء لا يجلو ذكراها العلقم إلا الإنتصار على العدو والثأر لكرامة الأمة والضحايا الأبرياء , المعادلة قاسية جداً على قطيع المطبعين والمنهزمين , فالهزيمة قد استوطنت نفوسهم وملكت عليهم أركان أجسادهم التي اثاقلت إلى مستنقع الخنوع والإستسلام والخضوع لهيمنة العدو وداعميه من قوى الإستعمار .
إحتلال القدس عاصمة فلسطين ومهوى قلوب المسلمين شكل إنتكاسة فظيعة في تاريخ الأمة الحديث, إنتزاع القدس عبر الإحتلال الغاشم صفعة على خد الكرامة لكل العرب والمسلمين بلا إستثناء , والعجز عن إسترداد القدس وتحريرها من قبضة الإجرام والإرهاب الصهيوني , يُشكل إستغراقاً في حالة الخور والعجز والإنكسار.
للحقيقة التاريخية كانت القدس والضفة الغربية قبل نكسة الخامس من حزيران 1967م , تحت السيادة الأردنية وبحماية الجيش العربي ( القوات الملكية الأردنية) , وخضع قطاع غزة للإدارة المصرية , وكانت قوات الجيش المصري تنتشر في القطاع , الإدارتين الأردنية والمصرية كانت لهما سياساتها الخاصة في المناطق التي خضعت لسيطرتهما بعد نكبة فلسطين , فلقد حرصت مصر على إبقاء الهوية الوطنية الفلسطينية لأهالي قطاع غزة , ولم تسعى لضم القطاع الساحلي إلى مصر, إلا أنها في المقابل لم تسعى إلى تشكيل جيش فلسطيني أو تكوين نواة مقاومة شعبية تكون ردفاُ لها في الدفاع عن قطاع غزة من أطماع المحتل الصهيوني, وتكفلت هي بهذه المهمة حتى هزيمة حزيران المؤلمة , على صعيد الضفة الغربية سعت الممكلة الأردنية إلى ضم الضفة الغربية وبسط سيادتها الكامل عليها ,وبالتالي تولت المملكة الأردنية مهمة الدفاع عن مدينة القدس ومدن الضفة بقوات محدودة ولم تسعى إلى تشكيل مجاميع مقاومة شعبية من أهل فلسطين تساعدها في دحر الأطماع الصهيونية ,ساهمت تلك السياسات الخاطئة في تغييب حالة المقاومة الشعبية التي من الممكن لها أن تساهم في عرقلة الهجوم الصهيوني أبان حرب النكسة ,ومع ذلك كانت هناك بعض المجموعات من الشباب الفلسطيني التي إجتهدت في مقاومة الإحتلال بإمكانيات محدودة أثناء حرب حزيران1967م.
كانت هزيمة الجيوش العربية مدوية , استطاع الكيان الصهيوني خلال الضربة الأولى تحييد سلاح الطيران العربي وخاصة طيران الجيش المصري , حيث تم قصف الطائرات الحربية في المطارات ,وقام الطيران الصهيوني بإستهداف القطاعات العسكرية في مواقعها ,وسط انسحابات عشوائية سهلت على القوات الصهيونية قصف الأرتال العسكرية وإبادتها وقتل آلاف الأسرى . كانت نكسة 1967م هزيمة غير مسبوقة زادت من عربدة الكيان الصهيوني وشكلت ضربة قاصمة للروح المعنوية للعرب والمسلمين , وسادت مقولة "الجيش الذي لا يقهر" التي تم إطلاقها على العصابات الصهيونية في إطار الدعاية المعادية للأمة في مواجهة المشاريع الهيمنة والإستعمار التي تستهدف خيراتها وثرواتها , لاحقا تم إذلال هذا الجيش على أيدي المقاومة الفلسطينية .
بعد عقد ونيف على النكسة , كانت مصر أكبر دولة عربية توقع إتفاقية "سلام" وتبادل للعلاقات الدبلوماسية مع كيان الإحتلال الصهيوني , وزار رئيسها أنور السادات مقر الكنيست الصهيوني في القدس المحتلة, ولحقت بها المملكة الأردنية عبر توقيع إتفاقية "وادي عربة" وبذلك خرجتا "مصر والأردن" رسمياً من حالة العداء للإحتلال الصهيوني , شكل ذلك الحدث نكسة جديدة وهزيمة لا تقل فظاعتها عن نكسة 1967م , فالهزائم لا تكون فقط في ميادين الحروب والقتال , الهزائم السياسية لها من الأثر التدميري ما يفوق الهزائم العسكرية , فقد يحقق العدو مكاسب جمة منها الإعتراف بشرعيته والقبول بإحتلاله , وهذا ما أنجزه الصهاينة من خلال نكستي "كامب ديفيد " و "وادي عربة" .
بلا رتوش أو تبريرات سمجة , فالحقيقة المرة تقول , بأن "الأردن ومصر" هم من كانت قواتهما العسكرية تسيطر على ما تبقى من فلسطين بعد نكبة 1948 م, ووقعت هزيمتهم من جيش العصابات الصهيونية , فكان الرد الأمثل من قبلهما على النكسة العسكرية هو إستنساخ هزيمة سياسية ونفسية , تمثلت بالإعتراف بالكيان الصهيوني والتطبيع معه وحماية حدود إحتلاله لفلسطين من أي مقاومة عربية وفلسطينية , فهل كانت النكسة وفظائعها بوابة الولوج في نفق التطبيع مع العدو الصهيوني والإستسلام للرؤية الأمريكية ؟.
رسالتنا في ذكرى النكسة , صاحب الحق لا يستسلم للنكسات , ولا يضعف أمام المؤامرة , يتمسك بحقه ويدافع عنه بكل ما يملك من قوة , فالمقاومة حياة والإستسلام موت , وهذا ما يؤمن به شعبنا الفلسطيني وأحرار الأمة , فلا يمكن القبول والتسليم بإحتلال الصهاينة لفلسطين أو منحهم الشرعية والإعتراف مهما عظمت التضحيات , فالأوطان لا تباع ولا تهدى في سراديب التفاوض , يبذل الأحرار في سبيل الدفاع عنها المهج والأرواح , فلا نعترف بنكسة ولا نستسلم لآثارها , باقون في القدس جداراً تاريخياً تسقط أمامه روايات الزيف الصهيوني , باقون في القدس شجرة زيتون في عمرها أكبر من سنوات إحتلالهم الغاشم , باقون في القدس منبراً للناصر صلاح الدين ووثيقة بن الخطاب عدلاً ونوراً , باقون في القدس وفلسطين ما أشرقت على الأرض شمساً ونادى للصلاة بلال .
كاتب وباحث فلسطيني 5-6-2020
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت