أمريكا التي نكرهها

بقلم: أسامه الفرا

أسامه الفرا
  • د. أسامه الفرا

 نكره أمريكا وكرهنا لها لا يقل عن حجم كراهيتنا للاحتلال الجاثم فوق أرضنا، كراهية نمت في تفاصيل حياتنا المجبولة بالألم والمعاناة والتي كان لأمريكا بصمة فيها، ونحن أكثر من غيرنا نعرف حقيقة الشر الكامن فيها، ولا يغرنا البتة حديثها المتواصل عن الحرية والعدالة والديمقراطية فهي أكثر المتربصين بها، لدينا من الأسباب والدوافع ما يجعلنا أن نعمق كراهيتنا لها، فكل ساق بترت من أطفالنا كانت خلفها قذيفة أمريكية، وكل طائرة حطت بالموت فوق رؤوسنا كانت من صناعتها، وكل خيبة أمل لطمنا بها مجلس الأمن كانت بفعل فيتو لها، وكل تغول من الاحتلال علينا جاء بضوء أخضر منها، حتى مساعداتها المالية لنا لم نكن لنطيقها لأن فيها ما يخدم انحيازها لإسرائيل أكثر مما تفعل على تخفيف معاناتنا.
لم نولد وجيناتنا تحمل هذه الكراهية لها، والحقيقة أننا لا نكره أمريكا ولا نحقد عليها ولا نوصد الأبواب في وجه ما يأتي الينا منها، ولا نرى في المواطن الأمريكي إلا من نتشارك معه في الإنسانية، ولا شأن لنا بما يرتضيه المجتمع الأمريكي في حياته الإقتصادية والثقافية والاجتماعية فهذا شأنهم، ولا نخاف من غزوهم الثقافي لنا ونفتح أبوابنا على مصاريعها للافلام القادمة إلينا من هوليوود وروايات ارنست همنغواي، ونستمع إلى موسيقى الجاز وهي تضع حداً للعبودية، ونصطف أمام مطاعم البرغر الأمريكية رغم تحذير الأطباء، ولا نتردد في تناول قهوتهم واقتناء الجديد من هواتفهم النقالة. لم نذهب خلف صامويل هنتنجتون وهو يبشرنا بأن الصراع بعد انتهاء الحرب الباردة هو صراع ثقافي، وإن صدق فألاجدر بأمريكا أن تخشى على نفسها وهي خليط لثقافات عدة، ولم يقنعنا تلميذه "فرانسيس فوكوياما" من قبل وهو يحدثنا عن نهاية التاريخ والإنسان الأخير وكيف أن الديمقراطية الليبرالية أطاحت بالأيديولوجيا وأنها ستغزو العالم لتؤسس للعولمة كما يراها المحافظون الجدد.
لا نكره أمريكا لكننا نكره سياستها الحاضنة للظلم، نكره انحيازها الأعمى للاحتلال ودفاعها المستميت عن جرائم اسرائيل، نحقد عليها لأنها جعلت من اسرائيل طفلها المدلل الذي يجوز له ما لا يجوز لغيره، وصفقت لها وهي ترتكب المجازر وكل الموبقات وجعلت منها كياناً لا يسأل عما يفعل، كيف لا نكرهها وهي التي منحت اسرائيل صفة القداسة، ففي الوقت الذي تسمح قوانينها للمواطن الأمريكي أن ينتقد سيد البيت الأبيض ويكيل له من القدح والذم ما شاء تمنع قوانين أكثر من نصف ولاياتها أي اساءة أو حتى انتقاد لإسرائيل، لسنا وحدنا من يغضبه الانحياز الأمريكي لإسرائيل والذي لم تعد المدافع عنها فقط بل تسهر على تنفيذ أطماعها، فلم تجد الإدارة الأمريكية من دول العالم من يرحب بصفقة القرن ولم تفلح كل الضغوطات التي مارستها عن ثني العالم عن رفض ما جاء بها.
التظاهرات التي شهدتها العديد من دول العالم استنكاراً لمقتل المواطن الأمريكي الأسود "جورج فلويد" على يد الشرطي الأبيض لم تكن فقط مناهضة للعنصرية التي جسدتها هذه الجريمة، بل لأن تلك الشعوب ترى في الجريمة صورة مصغرة لتعامل أمريكا مع الكثير من دول العالم، ولم تكن صرخة فلويد "أنا أختنق .. لا أستطيع أن أتنفس" سوى صرخة تطلقها تلك الشعوب في وجه الغطرسة الأمريكية.
 أمريكا قبل غيرها تدرك حجم الكراهية لها، وتعرف أن العديد من الدول التي تدور في فلكها لا تفعل ذلك حباً فيها بل خشية منها، وإن كانت أنظمة الحكم تخشى بطش وتلاعب شرطي العالم الظالم بها فالمؤكد أن الشعوب لا تخشى ذلك ولا تجد فيه سوى القاتل المتغطرس المفتون بقوته، تلك القوة التي كشفت عورتها جائحة كورونا، وما بعدها لن تكون أمريكا بذات الصورة التي كانت قبلها، لكنها ستبقى الصورة التي نكرهها.

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت