- نبيل عودة
عشقها منذ التقت نظراته نظراتها في حفل زواج لأحد أقاربه. سأل عنها أقاربه، قالوا إنها من أهل العروس، التقط لها صورة بتلفونه النقال، وما أن عاد قريبه وزوجته من شهر العسل حتى كان أول المهنئين، طبعا عرض الصورة على زوجة قريبه مستفسرا عن صاحبة الصورة ومعبرا عن رغبته في الزواج منها إذا رأته زوجة صديقه مناسبا، وإذا قبلته صاحبة الصورة.
هكذا دخل صالح عش الزوجية سعيدا مزهوا بزوجته، شاعرا أن الدنيا أضحت ملك يديه. كان يعود مرهقا من العمل، وما أن يضع قدمه داخل البيت حتى يستعيد حيويته وسعادته باختيار زوجة توفر كل متطلبات الحياة الزوجية الهانئة، من الطعام الشهي، إلى البيت النظيف والأولاد في أبهى حال بعد الحمام اليومي وتحضير الدروس وارتداء ملابس البيت الأنيقة، والهدوء الذي يسود البيت بنظام أشبه بمعسكر حربي، وتكون قد أعدت له ملابس نظيفة وحمام جاهز بالماء الساخن، وما أن يخرج منتعشا حتى تشده رائحة الطعام الشهية، فيطبع قبلة اعتزاز وشكر على جبينها، ويجلس والأولاد حوله كل واحد منهم على كرسيه في المكان المحدد سلفا جاهزين لتناول وجبة العشاء العائلية.
رغم إرهاق العمل إلا أن النظام المتدفق بالحيوية الذي فرضته زوجته في بيتهما كان يشعره انه فاز بأروع جائزة يحلم بها الإنسان.
مضت سنوات الزواج بسعادة لا يشوبها شيء من القلق ولا يعكر صفاءها نقص أو فتور، إلا ان صالح بدأ يشعر بتراكم السنين وهم مسؤولية بيته وزوجته وأولاده الملقاة عليه، فصار يعمل ساعات إضافية ليقوم بواجب البيت، لكن الله رحمه بزوجة يعتبرها هدية رائعة من السماء لا يحصل عليها إلا الطاهرين قلبا وإيمانا.
كثيرا ما تساءل في سره، ماذا لو خلقه الله امرأة؟ ألا تقل بذلك همومه وواجباته وإرهاقه ومسؤولياته ويبقى في المنزل متمتعا بالراحة؟ ترى ما هي الهموم التي تقلق المرأة؟ هل تقارن بهموم الرجل العامل ومسئول الإعالة لزوجة وخمسة أولاد؟ هل غسلهم ومساعدتهم في إعداد دروسهم يسمى عملا أو واجبا مرهقا؟ هل غسل الثياب بالغسالة الكهربائية هو عمل مرهق؟ هل تنشيف الثياب بالنشافة الكهربائية هو عمل مرهق؟ هل إعداد الطعام على أنغام صوت فيروز أو عبد الوهاب أو أم كلثوم هو عمل صعب؟ هل الثرثرة مع الجارات كل صباح على فنجان قهوة هي واجب لا تكتمل أعمال المنزل بدونه؟ هل إيصال الصغير إلى الروضة صباحا وإعادته ظهرا بالسيارة يعتبر عملا شاقا أم نزهة في البلد؟ هل شراء احتياجات البيت من خضار وفواكه من المجمع التجاري الذي أصبح ملتقى سيدات البيوت، يتبادلن فيه آخر أخبار البلد من سلبيات وايجابيات هو عمل إضافي متعب لسيدة البيت؟ هل الوصول إلى "السوبرماركت" لشراء احتياجات البيت من البقالة ومواد التنظيف يحمل شيئا من المعاناة أم هو ترفيه من ضغط التواجد بين أربعة حيطان؟ هل الذهاب إلى البنك، لإدخال المعاش وسحب ما يحتاجه البيت من مصروفات مالية يسمى عملا مرهقا؟ ربما تنظيف البيت ودرج البيت فيه بعض الصعوبة، ولكنه بناء على طلب زوجته جلب شغالة مرتين في الأسبوع لتقوم بتنظيف البيت والدرج الخارجي. حتى في فترة الحمل والولادة يحضر شغالة لتقوم بكل المهام البيتية وتوفير الراحة لزوجته، عدا أن الأهل من الجانبين لا يتركونها بل يقومون بكل ما يمكن من أعمال مساعدة خاصة مع الأولاد، ويساعدونها في الاعتناء بالمولود الصغير، وهي متعة لا متعة تضاهيها، إذ مع عودته من عمله المرهق يكون بشوق كبير إلى حمل صغيره بمتعة وفخر وسعادة كأنه وجد كنزا نادرا من كنوز الأساطير... حتى في الليل حين يسمع بكاء الطفل أو ضحكاته الرنانة ينسى إرهاقه ويطرد سلطان النوم لأن حمل الطفل والتمتع بضحكاته يبعث في روحه الراحة والسعادة ، فكيف قضاء اليوم بطوله مع الطفل؟.
رغم انه لم يعبر عن امتعاضه عن هذا التمييز بين الرجال والنساء، لكنه كان على ثقة من أن التمييز هنا هو لصالح النساء. فكيف تدعي الحركات النسائية أن المرأة حقها مغبون؟
كان إرهاقه بالعمل يزداد إذا كثرت الأفواه وازدادت الطلبات، ولا بد من توفير الدخل للقيام بمسؤولياته البيتية.
كان يبتسم أحيانا حين يسمع الكاهن يعظ النساء بطاعة الأزواج، بينما الزوج هو مطية لزوجته وأولاده، فأي طاعة يقصدها الكاهن أكثر من تحول الرجل إلى عبد لزوجته وأولاده؟
لماذا كل تعاليم الكنيسة ترى في الرجل رأس البيت، بينما الحقيقة أن المرأة هي رأس البيت، وزوجها هو خدام البيت؟
هل أصبح الدين قديما وأحكامه لا تناسب واقع المجتمعات البشرية اليوم؟
صارح الكاهن حين دخل غرفة الاعتراف بأفكاره، فأوصاه بالصلاة وطلب المغفرة من الله، لأن تعاليم الكنيسة هي إرادة الخالق والخالق أدرى بما يجب ان يكون، وان كون الرجل هو مصدر الرزق للبيت يجعله سيد البيت بلا منازع.
في حالة إرهاق شديد، ركع في أحد الأيام وصلى لربه بحرارة ان يغير الأدوار بينه وبين زوجته لشهر واحد فقط، حتى يتعرف كل منهما على الدور الذي يقوم الآخر به وما يعانيه من دوره.
لم يتوقع ان تقع صلاته على آذان صاغية في السماء، في تلك الليلة جاءه صوت له رنين مميز يبلغه انه مع بزوغ فجر هذا اليوم ستتغير الأدوار بينه وبين زوجته، يصبح هو الزوجة وهي الزوج.
كانت سعادته أو سعادتها كبيرة من هذه الرسالة السماوية، حقا استيقظت زوجته أو زوجه ارتدت ملابس العمل وخرجت للعمل، استيقظ أو استيقظت بعدها بوقت قصير وبدأ يعد الشطائر للأولاد، ويحثهم على الاستيقاظ وارتداء الملابس المدرسية، لكنهم يماطلون، فأصيب بالغضب وهو يحثهم على الإسراع لأن وقت بدء الدروس اقترب، وأُرهق نفسه وهو يأمرهم دون أن يتحركوا بفرك أسنانهم، غسل وجوههم، تناول كوب الحليب، وترتيب حقائبهم. تذكر انه يجب ان يأخذ الصغير للروضة، فما ان خرجوا لمدارسهم حتى اخذ الصغير بالسيارة إلى الروضة.
عاد شاعرا بالانتصار وان الوقت أمامه واسع، لكنه تذكر أن البيت يحتاج إلى بعض الخضار والفواكه، فانطلق بالسيارة، وكانت زحمة سير غير عادية، مما استغرقه ضعف الوقت ليصل إلى السوق، اشترى ما يلزمه وحمل الأكياس الثقيلة، وضعها في السيارة وعاد من نفس الطريق ولكن زحمة السير تضاعفت، وصل المنزل ووجد أن الوقت يركض، بسرعة جمع الثياب المعدة للغسيل، وضعها في الغسالة، تذكر انه يجب أن يشترى الخبز، خرج مسرعا إلى لفران القريب من البيت، هناك التقى بجارة فتحت معه حديثا لا نهاية له عن هموم إعالة البيت في هذا الوضع الذي بدأت البطالة تكشر فيه عن أنيابها. ما أن تخلص منها إلا وجارته الثانية تفرد ذراعيها له - لها لاحتضانها والإصرار على مرافقتها في طريق العودة لشرب قهوة الصباح، عبثا حاول التهرب منها، بل وكاد يفضح نفسه انه ليس الزوجة بل الزوج بجسم زوجته، نظر إلى نفسه ، كان حقا بوجه زوجته وجسمها وملابسها.
بعد شرب القهوة ركض ليخرج الغسيل ويدخله في النشافة، بدأ يعد وجبة الغداء، قطع البصل وعيناه تحرقانه، وضعه في وعاء ليحوسه، اخرج العدس لينقيه من الشوائب، ركض يخرج الغسيل من النشافة، عاد راكضا يحرك البصل حتى لا يحترق، وبدأ يعد صينية الكفتة، لكن تذكر ان عليه طي الغسيل وكي السراويل والقمصان، ادخل العدس في وعاء مع الماء ووضعه على الغاز وبدأ يمد صينية الكفتة، تذكر انه لم يقشر البطاطا بعد، ركض إلى سلة الخضرة واحضر بعض حبات البطاطا، استغرق إعداد الصينية نصف ساعة، وضعها في الفرن وحرك العدس وأضاف البصل، وركض ليرتب الأسرة وينظف الغرف، قرر تأجيل شطف أرضية البيت لأنه مرهق وما زال لديه إعداد السلطة وكي الملابس والسفر مرة أخرى لإرجاع الصغير من الروضة... ببساطة شعر بأنه مكسر العظام.. لكنه صمت، إذ أن هذا يومه الأول ويبدو انه مع الأيام سيتغير الوضع، أعاد الصغير وأعد صحن الحساء، ركض يفحص صينية الكفتة، فوجدها قد نضجت، حمد ربه أنها لم تحترق لأنه نسيها في الفرن حين سارع إلى الروضة لإعادة الصغير. ما هي إلا ربع ساعة وإذا بالأولاد يطرقون الباب، أعد لهم الصحون والملاعق ، بعضهم تمرد لأنه لا يحب هذا الحساء وبعضهم أعلن أنه مل من الكفتة، لكنه- لكنها أمرتهم بشكل لا يفسر على وجهين بأكل ما تعده لهم، فلا طعام غيره اليوم، فأكلوا على مضض، أخذت الصحون وقامت تجلي وتنظف المائدة، وهي تأمرهم بتغيير ملابسهم والبدء بمراجعة واجباتهم المدرسية، وفورا بعد ذلك ستتفرغ لهم كي تدخلهم الحمام، لكن الصغير ارتفع بكائه، عبثا حاولت فهم سبب بكائه، كان يحك أذنه، فانتبهت إلى كونها حمراء بسبب التهاب كما يبدو، أعلمت أولادها بأنها ستأخذ أخاهم الصغير إلى الطبيب وطلبت منهم ان يحافظوا على الهدوء والنظافة في البيت حتى تعود. بعد ساعة عادت مع صغيرها وكيس أدوية، كان نائما فوضعته في سريره وركضت تفحص واجبات الأولاد المدرسية، وهل استحموا كما يجب؟ جلست على كرسي وكادت تغمض عينيها وتغفو من الإرهاق، لكنه -لكنها أجبرت نفسها على القيام، وهي تشعر بتشنج ظهرها، كان ينتظرها كي الملابس وترتيبها في الخزائن، وإعداد المائدة للزوج -للزوجة بعد أن تبدلت الأدوار، وما أن دقت الساعة الخامسة حتى جفلت على صوت جرس البيت، إذ يبدو أنها غفت لبضع دقائق، قفزت تفتح الباب وتستقبل زوجتها – الزوج بابتسامتها -ابتسامته المشعة...
أنهت كي الملابس وتجهيزها للغد، جلست العائلة أمام التلفاز لكنه شعر بالإرهاق الشديد، في تلك الليلة، رغم انه مرهق كأم البيت، إلا ان زوجته التي بدورها كرجل البيت أصرت على المعاشرة،
في اليوم التالي فهم أن دوره كرجل اقل إرهاقا من دور الزوجة، ذهب إلى الكنيسة وركع أمام المسيح المصلوب الذي ضحى بحياته من اجل البشر ورجاه أن يتوسطها مع أبيه الذي في السماء ويعيد إليه دوره كرجل البيت ويعيد زوجته إلى دورها التقليدي، وسيكون مخلصا للكنيسة وتعاليمها وينقل إيمانه إلى كل أولاده وأحفاده في المستقبل، وأعلمه أنه لا يستطيع الانتظار حتى نهاية الشهر كما طلب من الله!!
في تلك الليلة استيقظ كما في المرة الأولى على نفس الصوت ذي الرنين المميز، قال له اعرف أنك مخلص بإيمانك لذلك أنا استجيب لطلبات أبنائي المخلصين، لكني هذه المرة لن أستطيع تغيير الأدوار عند نهاية هذا الشهر أو غدا كما تطلب، لأن المعاشرة أمس بينكما أدخلتك في الحمل وعليك الانتظار تسعة أشهر حتى تلد، بعدها سنرى!!
أصيب صالح بالكآبة الشديدة، لكن لا مفر من أمر الله.. كان يتحسس بطنه الذي بدأ يكبر.. نادما على تبديل الأدوار. اقترب عيد القيامة الذي يعرف باسم عيد الفصح وأحد القيامة، وهو من أعظم الأعياد المسيحية وأهمها حيث يستذكر المسيحيون قيامة المسيح من بين الأموات بعد ثلاثة أيام من صلبه وموته.
تحدث الكاهن عن المناسبة التي تقترب، في خطبة يوم الأحد، أسبوعين قبل العيد منوها بأهمية الصيام الذي يسبق العيد، وقال إن عذاب الصيام لا يقارن بعذاب المسيح الذي صلبوه ودقوا المسامير في يديه وقدميه وكللوه بالشوك وسقوه المر، وهو عذاب لا يمكن أن يتصوره العقل...
أصغى صالح للخطبة وحاول أن يقارن بين عذابه كزوجة وعذاب المسيح، وبلا تفكير انطلق لسانه مقاطعا الكاهن:
- يا أبونا، لماذا ارتكب أعداء المسيح كل هذه الأعمال المنافية للأخلاق والحمقاء، ألم يكن أسهل لهم ولانتقامهم منه أن يزوجوه؟!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت