- أسامة نجاتي سدر
أيّ شيء بينك وبين الله يا عامر بن عبد الله حتى تشرق الشمس على نصف حياتك في الإسلام، ويُظَلّل ما قبلها حتى نعجز أن نهتدي لشيء منه إلا القليل القليل!!!
نسرد قصة من وحي مهابتك وعظمتك وفضلك بالإسلام، وجمل اختطفها الرواة من هنا وهناك حول نصف حياتك الذي انتهى بالشهادتين، وبدأت بعده حياتك الحقيقية التي انتهت بالشهادة في سبيل الله مجاهداً بين جنود الإسلام صابرا محتسباً، وأنت تأبى الهرب من أمر الله إلا إلى أمر الله ورحمته وجنته بطاعون عمواس.
كان أبو عبيدة طويل الجسم قوي البنية هُماما ومجتهدا، وقد تعلم من صغره الاعتماد على نفسه ومواجهة الحياة بقلب جسور لا يهاب، فعمل منذ حداثة سنّه في حفر القبور والبناء واكتسب احترام أهل مكة كبارا وصغارا، وقد استطاع أن يحجز له مقعدا في مجلس أبي بكر ينهل من علمه بأنساب العرب وحكمته ويلتقي مع خيرة شباب مكة ورجالها، ولشدة قربهم جمَعَه أهل مكة بأبي بكر بلقب واحد دلّ على هيبتهم في نفوسهم والاحترام الذي نالوه بسيرتهم ومحبتهم ("داهيتا قريش").
لم يكن لوالده دور في حياته، ولعله توفي في الجاهلية، إلا أن المصادر تلمح إلى أن علاقتهم لم تكن طيبة أبدا، فقد نُسب أبو عبيدة لجدّه الجراح وكان من عادة قريش نسبة الرجل لمن عرف بحسن صحبتهم، فقد نُسب جد النبي (شيبة) لعمه المطلب وسمي عبد المطلب مذ رآه الناس يدخل مكة يتبعه حين عاد به من ديار أخواله، وقد زعم البعض بأن أبا عبيدة قتل والده عبد الله في معركة بدر بعد أن انحاز عنه مرة بعد مرة دون جدوى وفيه نزلت آيات البراء والولاء في سورة المجادلة.
عرف أبو عبيدة النبي صلى الله عليه وسلم من مجلس أبي بكر، ولطالما ذكرت فضائله وصفاته في مجلسهم سواء كان حاضرا أو غائبا، وكان قربُ أبي عبيدة لأبي بكر وصحبتهما تزيد من احترام النبي في نفس أبي عبيدة على ما كان له من مكانة من نَسَبه وصدقه وأمانته، وأتى داعي الله لنبيه بالدعوة، فأسلم أبو بكر أولا وبدأ مشواره في الدعوة فورا بين مجلسه من الشباب والرجال، وهاب أبو بكر محادثة أبي عبيدة إلا أنه التقى به وألقى في نفسه أن أمرا عظيما كاد أن ينفجر بمكة فقال له:" أ أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار".
ظلت هذه الكلمات تداعب فكر أبي عبيدة وشغلته حتى الصباح، فخرج إلى أبي بكر يسأل عن القصة، فأجابه أبو بكر بأن الله قد بعث محمداً نبياً وأنه يدعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له وترك آلهة قريش، فأدرك أبو عبيدة بأن الأمر عظيم لأنه علم بفطنته أنه إن قبل به بات عليه أن يقف في وجه أهله وقريش كلّها ثم العرب أجمعين، لكن صحبة أبي بكر ومحبة النبي جعلته يطلب أن يجتمع به ويسمع منه، فأخبره بأنه ينتظر جماعة من أصحابه دعاهم مثله ليذهبوا معا إلى النبي ويسمعوا منه جميعا.
توجه أبو عبيدة وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن مظعون والأرقم بن أبي الأرقم معا إلى بيت النبي ليسمعوا منه ويقرروا ما يصنعون، وكأني أراه صامتا يستمع للنبي عليه السلام يتكلم حول نزول الوحي في غار حراء ثم كيف تصرفت خديجة وشهادة ورقة بن نوفل بأن هذا هو الناموس الذي كان نزل على عيسى وموسى ومن قبله من الأنبياء، ثم ما هذه الأصنام التي يعكف الناس على عبادتها وكيف لها أن تنفع الناس وهي لا تنفع نفسها، ويجادلون بأن قوة مكة من الحج لهذه الأصنام وأنها ستفقد مكانتها التجارية والاجتماعية والدينية، ويرد عليه السلام بأن مكانة مكة محفوظة منذ الأزل وأن الله هو من أعطاها هذه المكانة وسيحفظها لها للأبد؛ فوقف أولهم وبايع النبي عليه السلام وحلف بأنه أصبح أحب إليه من نفسه عاهده على نصرته لآخر نفس من أنفاسه وحفظ عهده وكان على قدر الثقة وأمين هذه الأمة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت