خطة الضم.. بين الرد التكتيكي وغياب الإستراتيجية الشاملة

بقلم: إياد محمد عبدالحميد مسعود

اياد مسعود
  • إياد محمد عبدالحميد مسعود
  • صحفي من أسرة «الحرية»

 

مقدمة لا بد منها:

دخلت خطة الضم الإسرائيلية شهرها الثالث. فقد أعلن عن ولادة حكومة نتنياهو – غانتس في 17/5/2020. وجاء الرد الفلسطيني الرسمي في 19/5/2020.

الرد الفلسطيني تمحور حول نقطة «التحلل» من الاتفاقات والتفاهمات والالتزامات مع الجانبين الإسرائيلي والأميركي. وجرى تطبيقه في مجال واحد، هو التنسيق الأمني، في مجالات معينة لم تلغ التزامات السلطة الأمنية نحو الجانب الإسرائيلي، بالمقابل أخلت سلطات الاحتلال منذ العام 2002 بالتزاماتها الأمنية نحو السلطة، وقد باتت مناطقها معرضة للاجتياح الإسرائيلي في كل لحظة.

الجانب الإسرائيلي، يمتلك استراتيجية واضحة المعالم (بغض النظر عن بعض التفاصيل) بشأن الضم.

بالمقابل تعبر السلطة في مواقفها عن سياسة لا تتجاوز رد الفعل التكتيكي، بخطوات متقطعة، وإرباكات سياسية يعبر عنها في التصريحات المتناقضة، بين صبح ومساء، في اليوم الواحد، وفشل السلطة في إدارة الشأن العام، في ظل سخرية إسرائيلية وصفت رد السلطة على خطة الضم أنها «رفعت في وجه إسرائيل مسدساً فارغاً».

في الوقت نفسه لا تتوقف التصريحات الرسمية عن إبداء الحنين واللوعة العميقة للعودة إلى المفاوضات، علماً أن الرئيس عباس، علق ذات يوم على ما جاء في خطة ترامب- نتنياهو، أنه لم يعد هناك ما يستحق التفاوض عليه.

فإلى أين تسير السلطة، وأين هي اللجنة التنفيذية المعلن عنها القيادة اليومية للشعب الفلسطيني؟

 

(1)

الأزمة الاقتصادية .. السلطة باتت عبئاً؟

في إطار سياسة الحرد التي تتبعها السلطة الفلسطينية وردود الفعل المرتجلة، والتكتيكات المتسرعة، في ردها (غير الاستراتيجي) على مشروع الضم وتطبيقاته، أعلنت رفضها استلام أموال المقاصة من وزارة المال الإسرائيلية مباشرة، واقترحت أن تتسلمها عبر وسيط ثالث ( يجري الحديث عن صندوق النقد الدولي على سبيل المثال) وبالتالي فقدت السلطة مصدراً رئيسياً، بل قل المصدر الرئيسي في تمويلها وتغطية مصاريفها وفواتير نفقاتها، خاصة رواتب العاملين فيها من موظفين و أمنيين، وأجراء، ومتقاعدين وغيرهم.

وأعلنت مطلع شهر 6/2020 أنها ستتوقف عن دفع الرواتب، وحتى كتابة هذه الكلمات (23/6/2020) مازال الموظفون ينتظرون الفرح  أن يأتيهم سريعاً، غير أن فألهم خاب مرة أخرى، حين أكد الناطق باسم حكومة السلطة منذ حوالي يومين إن احتمالات دفع الرواتب مازالت ضعيفة وأن السلطة لم توفر بديلاً لأموال المقاصة. حتى النداء الذي أطلقته الرئاسة الفلسطينية إلى الدول العربية تطالبها بتوفير شبكه أمان مالية للسلطة بمقدار 100 مليون دولار شهرياً، ذهب أدراج الرياح، ولم يلقَ آذاناً صاغية لا شرقاً ولا غرباً ولا خليجياً.

التقارير تؤكد أن الأسواق التجارية في قطاع غزة (المحاصر) والضفة الفلسطينية الواقعة تحت سطوة الاحتلال، تعيش حالة ركود، لتدني القدرة الشرائية لدى المواطنين، خاصة وأن موظفي السلطة والعاملين في مؤسساتها هم الكتلة الاجتماعية الأكبر التي تقف وراء تحريك السوق وتنشيط حركة الشراء والبيع، فضلاً عن ذلك تشكو المصارف من عجز أصحاب القروض، من الموظفين، عن تسديد قروضهم، حتى أن سلطة النقد الفلسطينية، تدخلت للضغط على المصارف للتعايش مع الأزمة وعدم اللجوء إلى الإجراءات المعتادة بما في ذلك الاحتكام إلى القضاء. فحتى القضاء نفسه، مازال يشكو الافتقار إلى الراتب!

• خطورة مثل هذه الأزمة أنها ليست الأولى في تاريخ السلطة، وبالتالي نحن أمام سلطة لا تمتلك خطط عمل واستراتيجية إدارية اقتصادية ومالية، لتخوض المعركة ضد الاحتلال في مشروع الضم.

هي سلطة مقيدة بالالتزامات والاتفاقيات، وبالتالي عليها أن تضع لنفسها خططاً للتحرر من هذه الالتزامات والاتفاقيات، وليس لممارسة سياسة «الحرد»، التي أثبتت فشلها.

• خطورة مثل هذه الأزمة أنها لم تحرر السلطة من قيود بروتوكول باريس، بل أبرزت إلى أي حد، هي أسيرة بروتوكول باريس، وإلى أي حد هي عاجزة عن الخروج من هذا البروتوكول والتحرر منه، وإلى أي حد، هي فاشلة في وضع خطط للتحرر من هذا البروتوكول.

• خطورة هذه الأزمة أن السلطة تفشل في توفير عناصر الصمود للمواطن الفلسطيني، الذي بات يعتمد على راتبه، في وقت يفترض فيه أن الجميع يخوض معركة ضد الضم. وأن يفقد المواطن عنصر الدعم وهو في قلب المعركة، من شأنه أن يضعه أمام سؤال حول جدوى السلطة هل هي مؤسسة وطنية تخوض المعركة وتوفر للمواطن عناصر الصمود، أم هي مؤسسة باتت عبئاً على المواطن؟

• وأخيراً وليس آخراً، أن خطورة هذه الأزمة تتمثل في أن لا السلطة، ولا الأطر المجتمعية بدأت تطرح البدائل تنظيم المخيم في ظل إفلاس السلطة المالي. وأخطر ما في هذا أن تعود السلطة صاغرة إلى التعامل مع سلطات الاحتلال لاسترداد أموال المقاصة بالأسلوب والطريقة نفسها، ما يجعل من السلطة موضع سخرية في عيون المواطنين فضلاً عن عيون الجانب الإسرائيلي علماً أن بعض المحللين «بشر» الجميع أن الأمور إذا ما سارت على هذا المنوال، وامتنعت السلطة عن تسلم أموال المقاصة، وفشلت بالمقابل في وضع آليات بديلة، فهذا معناه أن لا رواتب للموظفين حتى نهاية العام. ولكم أن تتصوروا كيف سيكون عليه الحال!

ترى هل هي محاولة للإقناع باستحالة الخروج من أوسلو، وبالتالي للإقناع بضرورة التعايش معه؟

 

(2)

السلطة الفلسطينية.. المصير الغامض

أكثر من تصريح رسمي وشبه رسمي، صدر في رام الله عن مصير السلطة. بعضها توجه إلى الرأي العام الفلسطيني، يحاول أن يشد أزره، وأن يعزز معنوياته، وأن يشد لديه أوتار الصمود والثبات، حتى لا ترتخي تحت ضغط الظروف الصعبة اجتماعياً. فأكد أن السلطة باقية، وأنها في طريق التحول إلى دولة، وأن مؤسساتها هي مؤسسات الدولة، وأن انقطاع أموال المقاصة لن تنجح في إسقاط السلطة. البعض الآخر، توجه إلى الجانب الإسرائيلي، معتقداً أنه بذلك يضغط عليه، فقال إنه ما إذا استمرت الأزمة المالية، وطبق الاحتلال الضم، فإن السلطة سوف تنهار. مبيناً في السياق نفسه أن وجود السلطة مكسب للجانب الإسرائيلي، لأنها تتحمل عنها مسؤوليات كبرى في إدارة المناطق المحتلة، وأن انهيار السلطة سيعيد هذه المسؤوليات والمهام إلى عاتق الاحتلال. غير أن الواقع يقول التالي:

• إن الطرفين لا يملك أي منهما قرار حل السلطة أو بقاءها، وأن الأمر يتجاوز حدود صلاحية كل منهما، وأن حديثهما لا يعدو وكونه مجرد عبث سياسي في ظل غياب الوضوح الاستراتيجي في المجابهة.

• أن الشعب الفلسطيني بات أذكى بكثير، وأكثر وعياً بكثير، وأكثر إدراكاً بكثير، لحقيقة الأمر، وأن الأقوال المفصولة عن الأعمال، وأن الشعارات البراقة والمبهرة والمعتمدة على رنين الكلمات، دون مضمون سياسي فعلي، لم تعد تفعل فعلها معه، ولم تعد تقنعه. وأن هذا الكيل اليومي من التصريحات، لا  جدوى منه. فالوقائع اليومية تكذب هذه التصريحات، وتضعها على المحك لتؤكد كونها مجرد لغو لا قيمة له في الفعل اليومي.

• أن الشعب الفلسطيني بات يدرك جيداً أن هذه التصريحات هي مجرد محاولة للتغطية على غياب الاستراتيجية السياسية للمجابهة. وأن مسألة «التحلل» هذه باتت تتكشف حدودها.

فالاعتراف بإسرائيل مازال قائماً، رغم أن العلاقة مع الاحتلال دخلت مرحلة جديدة اسمها الضم، تختلف عن كل سابقاتها، وأن العلاقة الاقتصادية مع إسرائيل ما زالت على حالها، لا يلغيها موضوع أموال المقاصة ولا يغطي عليها. وأن قرارات عديدة مازالت معلقة خاصة ما يتعلق منها بتنسيب دولة فلسطين إلى الوكالات الدولية، المتخصصة، والتقدم بطلب العضوية العاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة، وطلب انعقاد مؤتمر دولي. وبالتالي مازالت السلطة الفلسطينية تعيش في قضاء أوسلو ولم تغادره حتى الآن، وليس هناك من مقدمات تشير إلى استعدادها لمغادرة أوسلو والغائه والتحرر من كل التزاماته. والكلام «الكبير»،  والتصعيد اللفظي، لا يلغي واقع الارتباط بالاتفاق والتزاماته، بما في ذلك بعض التزامات التنسيق الأمني وفي جوهرها «مقاومة الإرهاب» أي إجهاض أي عمل قد يستهدف قوات الاحتلال.

مثل هذه التصريحات لا تعبئ شعباً ولا تعبئ القوى لخوض المعركة، بل تنبئ أن الرهان مازال على إمكانية تجنب المعركة الميدانية مع الاحتلال، والاكتفاء بالاشتباك الإعلامي، والعمل في الوقت نفسه على إعادة طرح المفاوضات مع الاحتلال، خياراً  وحيداً وهذا ما تؤكده سياسات السلطة وممارساتها وتصريحاتها.

 

(3)

احتمالات العودة إلى المفاوضات

من ضمن قضايا الإرباك السياسي، في أداء السلطة، وافتقارها إلى الاستراتيجية الشاملة للمجابهة، إطلاق بالونات الاختبار، بين وقت وآخر، للحديث عن استعداد السلطة الفلسطينية للعودة إلى المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي.

ورد هذا في بيان اللجنة التنفيذية، وعن مذكرتها إلى «الرباعية الدولية» في سياق عرض وجهة نظر السلطة للحل «البديل» لصفقة ترامب، كما ورد هذا أكثر من مرة باسم الناطقين الرسميين وغير الرسميين للسلطة الفلسطينية.

خطورة أن تبقى السلطة الفلسطينية على رهانها في إمكان العودة لاستئناف المفاوضات، تتجلى في أكثر من معنى:

• أن السلطة ما زالت تنظر إلى خطة ترامب – نتنياهو، على أنها قابلة لإعادة النظر، كلياً، أو في بعض بنودها، بحيث تكون صالحة للتعامل معها بشكل أو بآخر. وليس سراً القول أن السلطة ما زالت تتعرض لضغوط عربية غير بسيطة، تحرضها على عدم قطع الخيوط مع احتمال العودة إلى المفاوضات، في إطار «لا يستبعد الأميركيين»، لكنه في الوقت نفسه، «لا يتيح لهم الاستفراد بالعملية السياسية». وتذهب هذه الضغوط نحو إقناع السلطة بعدم قلب الطاولة، أي إنهاء أوسلو بشكل تام ولعل هذا ما يفسر لماذا اكتفت السلطة بقرار «التحلل» الجزئي من الالتزامات، وما زالت على التزاماتها الأخرى السياسية والاقتصادية وفي المحافل الدولية: فلا هي سحبت اعترافها بإسرائيل ولا هي نصت قانوناً صارماً بمقاطعة الاقتصاد الإسرائيلي، ولا هي انطلقت نحو المحافل الدولية في خوض معركة نزع الشرعية عن الاحتلال، مستفيدة من الأجواء الإيجابية (جداً) في الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومجلس حقوق الإنسان وغيرها من المحافل الدولية.

هذا يقودنا إلى الاستنتاج أن السلطة مازالت تعيش التزامات أوسلو، ومازالت تراهن على استئناف مفاوضات الحل الدائم، في صيغة تعتقد أنها أفضل من صيغة أوسلو المحددة. متجاهلة أن المشروع الوحيد المطروح إلى الطاولة هو صفقة القرن، وأنه ولو افترضنا أن السلطة ستطرح رؤيتها، فهذا معناه الدخول «في الاشتباك التفاوضي» مع صفقة، وهذا خطير جداً، لأنه يجعل من الصفقة مرجعية العملية التفاوضية.

وهذا يقودنا كذلك إلى الاستنتاج أن السلطة مازالت تتعامل مع مشروع الضم، على أنه مجرد «خطوة» في سياق الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية . علماً أن الضم، لا يشبه قضية بوابات القدس الإلكترونية، ولا معركة النفق تحت الأرض، ولا معركة حبل أبو غنيم، أو وادي حمص، بل إن مشروع الضم هو الخطوة الختامية في تصفية القضية الفلسطينية عبر فرض الرؤية الإسرائيلية الأميركية للحل، من خارج المفاوضات، وخارج مرجعية الشرعية الدولية وبموجب المشروع الإسرائيلي المنفرد، الذي يجمع بين «الحل الاقتصادي» من جهة، وبين «الحكم الإداري الذاتي» المحدود وعلى السكان فقط، حلاً نهائياً للكيان السياسي الفلسطيني، من جهة أخرى، تتلوه خطوة استراتيجية مشابهة نحو إقامة حلف شراكات مع بعض الأنظمة العربية، يعمق عملية تهميش القضية الفلسطينية ويشطبها من على جدول أعمال الحالتين العربية والإسرائيلية.

كما أن مثل هذه الدعوات تدعونا لطرح المزيد من الأسئلة من بينها: • ما دامت السلطة متمسكة بدعوتها إلى المفاوضات فلماذا الفوضى في طرح مصير السلطة، ولماذا التهديد الأجوف في حل السلطة ونقل صلاحياتها إلى سلطات الاحتلال؟. • ما دام الرئيس أبو مازن علق على الشق السياسي لخطة ترامب – نتنياهو أنه لم يعد من قضايا يمكن التفاوض عليها، فما هو جدوى الرهان على المفاوضات.؟

كخلاصة، يمكن التأكيد إن السلطة بم تغادر أوسلو، ورهانها على أوسلو، وأن الصوت العالي في الرفض اللفظي لم ينجح في التغطية على هذه السياسة التي مازالت هي المعتمدة.

وكخلاصة أيضاً يمكن القول إن السلطة لم ترسم حتى الآن استراتيجية كفاحية لمواجهة صفقة ترامب، ومازالت تعتمد سياسة ردود الفعل التكتيكية، قصيرة النفس والمتقطعة، وإرسال الرسائل، يمينناً ويساراً، لاستجلاب عروض «الحل الوسط».

وهذا ما يفسر لماذا لم تتقدم الحالة الرسمية حتى الآن نحو إعادة تنظيم الصفوف، وإصلاح أوضاع م.ت.ف، وتنقية الأجواء بين الفصائل الفلسطينية، وترسيخ سياسة الشراكة الوطنية، والعمل المشترك لوضع خطة عمل تستجيب لقرارات المجلسين الوطني (في دورته الأخيرة) والمركزي (في دورة 2015 ودورات 2018)، كما يفسر حرصها (غير المفهوم إلا في سياقه السياسي) على ما تسميه المقاومة الشعبية «السلمية»، ورفضها «كل أشكال العنف» ضد الاحتلال، في وقت يدرك فيه الجميع أن تجربة النضال الشعبي ضد الاحتلال، أكثر تعقيداً، من أن يتم تعليبها في أسلوب وحيد، هو المقاومة الشعبية «السلمية»، وبما يبقى الحركة الشعبية في حال تبعية لخطوات السلطة، تحت سقف شعاراتها، تقيدها ذات القيود التي تقيد السلطة الفلسطينية من أوسلو، وبروتوكول باريس الاقتصادي.

 

 

 

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت