- الاعلامية وفاء بهاني
نقف اجلالاً واكباراً لأبطال ضحوا بأجمل سنين عمرهم، ليعيش باقي أفراد شعبهم كباقي الشعوب، الأسرى لا يمكن لأي كلام مهما عظم أن يوفيهم ولو جزء بسيط مما عانوه.
هم من لوحت وجوهم شمس الصحاري في نفحة والنقب وعسقلان ومجدو وعوفر وتلموند وهداريم وهشارون، ومستشفى الرملة (المسلخ) عبر سنوات سجنهم الطويلة، كيف لا وهم الذين ضحوا بحريتهم لأجل حرية شعبهم، فتحولوا لشموع تنير طريق الحرية والاستقلال.
زمانهم متخم بمفردات اعتادوا عليها وظلالها، يقظة ونوماً، صحواً وحلماً، حقيقة ووهماً، والمستقبل لا يعني عندهم إلا تاريخ الإفراج المتوقّع عنهم، أو موعد المحكمة المؤجل، أو "الدهر" الباقي من زمن المؤبّدات، والماضي بعضُ ذكريات سرقها على حين غفلةٍ من المحتل قبل أن توضع الأصفاد في يد الحبيب، أو يوصد باب زنزانته فيحال بينهما إلى أمدٍ بعيد.
يجسد المكان هذه الظلال في شخوص يتحسّس ويشم آهاتها، أو قد يكون الحافلة التي تقلّه "للزيارة" الموعودة بعد سنين من المحاولات، أو الحاجز "المحسوم" الذي يُذلُّ عليه لساعات حتى يدخل أرضه وبيته، وقد يكون بيت ابنه الأسير أو سرير ابنته المعتقلة إدارياً، وقد يكون هو كلّ ما يراه حوله من "الوطن" الأسير خلف الجدار والمعابر والحواجز والجسور.
فمنهم من زمن الأبيض والأسود، زمن الأصالة والنخوة والرجولة والصدق، الأسير نائل البرغوثي، هذا الرجل الذي قضى أكبر مدة أسر سياسي في العالم ، رجل تلونت حياته بألوان العذابات والشقاء بعدما اعتقلته قوات الاحتلال في أبريل/نيسان 1978 من منزله في قرية كوبر شمالي رام الله بالضفة الغربية، وهو بعمر 19 عاما، اتهمته إسرائيل بقتل أحد جنودها، وحكمت عليه بالسجن المؤبد، وهو في هذه الأيام يدخل عامه الأربعين في الأسر، وهو الآن في العقد السادس من عمره.
توفي والداه صالح وفرحة البرغوثي أثناء غيابه، وقبل وفاتهما زرعا شجرة ليمون لا تزال تحمل اسمه في حديقة المنزل منذ اعتقاله.
وبرغم من إنه كان مرجعاً بالنسبة إلى الأسرى وكان يحاضر لهم، فقد أصرّ بعد الإفراج عنه عام 2011 على إكمال دراسته، فالتحق بجامعة القدس المفتوحة «تخصص التاريخ»، فكان لديه حلم بالحصول على شهادة من جامعة فلسطينية، خاصة أنه رفض أن يلتحق بجامعة عبرية.
ذات يوم قال لزوجته الأسيرة المحررة ايمان نافع عبر سماعة الهاتف خلال زيارته في سجن بئر السبع "لكِ أن تتخيلي أنه من الممكن أن أكون شهيداً، ويمكن أن يُحتجز جثماني في الثلاجات، أمضيت 40 عاماً في سجون الاحتلال، اعتُقلت شاباً وخرجت أشيب، وعدت مرة أخرى، لا أعرف كم سيحتمل هذا الجسد، ولا متى ستشرق شمس الحرية مرة أخرى".
إيمان نافع زوجة البرغوثي، التي ارتبط بها بعد شهر واحد من الإفراج عنه عام 2011 ضمن «صفقة شاليط»، وأمضت برفقته 31 شهراً فقط، قبل أن يعتقله الاحتلال مجدداً عام 2014، ويعيد له حكمه السابق بالسجن المؤبد، هي الوحيدة التي يسمح لها بزيارته.
وأيضاً قال لأخته حنان قبل أن تمنع من زيارته، وبغصة وحرقة وهو يحتضن ابنها " كل أطفال فلسطين هم أطفالي ".
فرض الاحتلال على البرغوثي الإقامة الجبرية عقب الإفراج عنه عام 2011، ومنع من الخروج من مدينة رام الله وقراها، وخلال هذه الفترة ظل أسيراً داخل بلدته كوبر شمال شرق رام الله، وحرم من زيارة أي بلدة أو مدينة في الضفة.
كانت بدايات العمل النضالي للأسير نائل البرغوثي عام 1967، رفع معظم الناس رايات بيضاء فوق منازلهم، إلا نائل رفض، وصعد إلى سطح منزله واستعد لرشق آليات الاحتلال بالحجارة عند مرورها، وعندما كبر نائل كان يذهب إلى مدرسته في بلدة بيرزيت المجاورة مشياً على الأقدام، يقطع وادي القرية ويجمع الحجارة الصلبة داخل حقيبته، حتى يرشق بها جنود لاحتلال، وكان يقول إن حجارة الوادي أقوى من أي حجارة أخرى، ولها صوت وتأثير أكبر.
نائل كان شعلة من النضال، يقود التظاهرات ودائماً ما كان يكون في الصفوف الأولى في مواجهة الاحتلال، حتى أطلق عليه لقب «أبو اللهب»، نسبة إلى شخصيته القيادية الثورية، وفي الأسر أطلق عليه رفاقه لقب «أبو النور».
اعتُقل نائل في المرة الأولى خلال إحدى المواجهات مع الاحتلال في الثامن عشر من ديسمبر عام 1977، وحُكم عليه بالسجن ثلاثة أشهر، وعقب الإفراج عنه بـ 14 يوماً، اعتُقل بتهمة مقاومة الاحتلال برفقة رفيقه فخري البرغوثي، ليصدر بحقهما حكم بالمؤبد و18 عاماً.
وخلال رحلة الاعتقال واجهت عائلة نائل صنوفاً من التنكيل الإسرائيلي، فقد اعتقل شقيقه عمر عدة مرات.
وفي أواخر عام 2018 قتلت قوات الاحتلال نجل شقيقه صالح عمر البرغوثي، واعتقلت عاصم وهو شقيق الشهيد صالح، واعتقلت والدهم عمر البرغوثي، وأفراد عائلته، وهدمت منزلين للعائلة، ولاحقاً أفرجت عن عمر الذي بقي يكافح ويقود حراك التضامن للمطالبة بالإفراج عن شقيقه ونجله وباقي الأسرى.
ولطالما كان يؤكد البرغوثي أن المخرج الأول لتحرير المعتقلين هي الوحدة الوطنية، معتبراً أن الوحدة هي المنطلق الأول لاستعادة الهوية الفلسطينية.
كما وجه في وقت سابق رسالة في ذكرى ميلاده الـ(62)، قال فيها: "يوم ميلادي يذكرني بميلاد كل ثورة تطالب بالحرية، وأشعر كأني أولد من جديد".
انطلاقاً من هذه القناعة العميقة بضرورة النضال الجاد القومي والدولي، من أجل حرية الأسرى كل الأسرى، لأن الأسر لم يعد يقتصر على أسيرات وأسرى الحرية فقط، بل إن الشعب الفلسطيني أصبح كله في الأسر والحصار الصهيوني، أليس ما يجري ضد شعبنا في القدس والضفة و قطاع غزة هو الأسر بعينه، بينما العالم كله، وبعض الأنظمة العربية معهم، الذين يستمرون بتطبيع علاقاتهم مع كيان الاحتلال، مازالوا ينظرون لهذه الجريمة النكراء بمشاعر متبلدة وعدالة غائبة، وكل هذا يشجع دولة الاحتلال والعدوان ومجتمعها العنصري أن يتمادوا في عدوانهم وعنصريتهم، مطمئنين لشرعية دولية غائبة لا تستطيع أن توقفهم أو تكبح جماحهم العنصري.
فالحرب بيننا وبين العدو الصهيوني سجالٌ، وهذه محطات لا بد من أن يؤديها الشعب الفلسطيني ويدفع ثمنها دماءً غالية، ولكن بالنهاية النصر لهذا الشعب الصامد المرابط، ودولتهم باطلة وزائلة بإذن الله، وهذا قريب جداً، والدلائل كثيرة على زوال دولتهم الدخيلة على هذه المنطقة.
هذه ليست معركة الأسرى وحدهم، بل هي معركة جميع أبناء الشعب الفلسطيني، فإما العيش سوياً وإما باطن الارض أفضل من ظهرها، فالأسرى يشكلون نسبة ضئيلة جداً من عدد الشعب الفلسطيني، وإن تضامن 13 مليون فلسطيني حول العالم معهم، فبالتأكيد سيقلب شعبنا المعادلة بوجه كل هذا العالم الظالم.
نائل البرغوثي رمز كبير من رموز الأسرى الفلسطينيين العظام، ضحى بحياته من أجل فلسطين وما زال يضحي، وكذا كل الأسرى في سجون الاحتلال، ولكن شمس الحرية ستبزغ يوماً، وسيتحرر نائل وجميع الأسرى، وسيعودون إلى قراهم وبلداتهم أعزةً أحراراً، وستحتفي بهم فلسطين كلها، وسيحتفل بحريتهم الشعب، وحينها سنفرح جميعاً بحرية فلسطين واستعادتها، وبطهارتها واستقلالها، وإننا جميعاً لعلى موعدٍ مع هذا الصباح الأبلج واليوم العظيم الأغر.
صيدا في 28/6/2020
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت