وجوه شاحبة، أسواق فارغة من المتسوقين، شوارع تكاد تخلو من المارة، ذمم مالية عالقة في محاكم غزة منذ سنوات، تجار مصيرهم أصبح معلقاً بين المحاكم والسجون، موظفون نسب مايقبضون من رواتبهم رواتبهم لا تتعدى السبعين لأكثر من ثلاث سنوات عجاف، وتتأخر رواتبهم بين حين وآخر، بنوك ومصارف مالية لا ترحم عملاءها رغم ضيق الحال وقلة الحيلة، شباب ضاعت سنوات عمرهم دون بصيص نافذة أمل تغيّر واقعهم المؤلم، متسولون في شوارع وأزقة غزة يمدون أيديهم لمن لا عون لهم طلباً للمساعدة.
هذا هو حال قطاع غزة، حال الحصار الاسرائيلي والانقسام الداخلي معاً. أربعة عشر عاماً مرت على القطاع صنعت أرقاماً فلكية في الفقر والبطالة، وانعدام الأمن الوظيفي والغذائي على السواء، ما جعل أكثر من 80% من سكانه يعتمدون على المساعدات الانسانية.
وانقلبت الأوضاع المعيشية رأساً على عقب في غزة المنهكة بالعذابات والويلات، مع تأخر صرف رواتب موظفي السلطة الفلسطينية عن شهر أيار(مايو) المنصرم، دون الاعلان عن موعد صرفها حتى اللحظات الأخيرة لإنجاز هذا التقرير.
استياء شديد
وتسود حالة من الاستياء الشديد لدى الكثير من التجار والمواطنين، لضعف القدرة الشرائية، وانعدام السيولة النقدية، ما دفع بالموظفين لعدم الالتزام بسداد مديونيتهم المتراكمة، فيما قرر الكثير من أصحاب المحلات التجارية وقف البيع بالدين للزبائن من فئة الموظفين حتى إشعار آخر.
واشتكى مهند عودة صاحب إحدى البقالات في مدينة غزة، من ضعف القدرة الشرائية وعدم توفر الكثير من السلع والمواد التموينية، قائلاً: « لقد تم ايقاف الدين للجميع لعدم سداد المديونية الشهرية والمتراكمة على الزبائن». وقال عودة لمجلة «الحرية»، إن جلب السلع والبضائع يعتمد بالأساس على شرائها من التجار الذين يوزعون السلع والمواد الغذائية، ونقوم بتسديدها بعد تصريفها، أو بالدفع المؤجل، ولكن تأخر صرف الرواتب اضطر بالموزعين للبيع نقداً، لكن النقص الشديد في السيولة النقدية، سيحول دون ذلك.
ويجلس نوح البردويل صاحب بسطة لبيع السجائر على مفترق طرق بحي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة، ويشتكي سوء الحال قائلاً:« لقد كنت اشترى السجائر من إحدى الشركات ، التي تعتمد على نظام البيع بـ «الجملة»، وكنت أسددها اسبوعياً، لكن الحال اليوم يختلف عن سابقه، فأصبح تسديد ثمن السجائر التي نقوم بشرائها غير ممكن يومياً. ومع تأخر صرف الرواتب، حصل تراجع واضح في بيعها».
وأضاف البردويل: «يأتي العديد من الزبائن لشراء السجائر بالدين خاصة فئة الموظفين، لكنني لا استطيع البيع بهذه الطريقة، لأنني سأصبح مطالباً من شركة بيع السجائر التي اتعامل معها، فهذا الوضع أثر بشكل كبير على قوت يومي».
ولم يختلف الحال لدى أبو ابراهيم الرفاتي، تاجر الجملة، الذي يقوم بتوزيع المواد الغذائية والحلويات على البقالات والسوبر ماركت في محافظات القطاع الخمس، معرباً عن تذمره من تدهور الأوضاع الاقتصادية التي تعصف بالقطاع. وقال:«على الرغم من كمية البضائع المتوفرة لدينا، فإننا لم نعهد على هذا الوضع مقاربة بالشهور السابقة، حيث أن الكثير من أصحاب البقالات والسوبر ماركت لا يقومون بالشراء بسبب ضعف القدرة الشرائية ونقص السيولة النقدية ، وعدم تسديدهم للمديونية المتراكمة عليهم».
من جهته، عبر مركز الميزان لحقوق الإنسان (23/6)، عن قلقه الشديد من استمرار وقوع الآلاف من أهالي القطاع في براثن الفقر، داعياً إلى تعزيز تدفق المساعدات النقدية والغذائية للحد من التدهور المتفاقم في الأوضاع الإنسانية، كما طالب المجتمع الدولي بسرعة التدخل من أجل إنهاء حصار غزة وتقديم الدعم والمساندة للفلسطينيين.
فقر وبطالة
وأشار المركز إلى أن تراجع المؤشرات الاقتصادية وتأخير صرف الرواتب، وتوقف الباعة والتجار عن البيع بالسلف لأجل واشتراطهم الدفع النقدي لشراء المواد الاستهلاكية، سيرفع من معدل الأسر التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي لــ (73%).
ويشير مراقبون فلسطينيون، إلى أن تأخير صرف رواتب موظفي السلطة الفلسطينية تسبب بإلحاق خسائر فادحة بالتجار والباعة والمواطنين. وبين المراقبون، أن تأخر صرف الرواتب يضع الباعة والتجار أمام خيارين، إما سيضطرون لبيع بضاعتهم المكدسة بسعر التكلفة أو أقل من ذلك، أو يعرضها للتلف، و في كلا الحالتين ستؤدي لتكبيدهم خسائر فادحة.
غزة تعيش الواقع المؤلم والقاسي، الذي يتجاوزه وصف الكلمات، ما دفع سكانها للسقوط في متاهات الحاجيات الإنسانية من دون الاكتراث بخطورة ما تتعرض له القضية الوطنية الفلسطينية. مندفعون نحو الألم لعله يكون أملهم، وهذا يعود بنا إلى الاحداث المتسارعة التي شهدتها وما زالت تشهدها غزة منذ أكثر من عقدين لم تكن عابرة، بل هي في إطار خطة ممنهجة ومدروسة، تولد الاهتزازات والارتجاجات والانفراجات حيناً آخر.
غزة أم البؤساء يسقط فيها الشهداء جلهم من الفقراء والمحرومين، فيما يتباكى المسؤولون على الفضائيات صوناً لمصالحهم الذاتية التي تكبر يوماً بعد يوم، رغم ادراكهم أن غزة هي الأشد قدرة على تعكير مزاج الاحتلال، كون «أطفالها أصبحوا بلا طفولة وشيوخها أصبحوا بلا شيخوخة ...»، كما وصفها الشاعر الفلسطيني محمود درويش «فهي أجملنا وأصفانا وأغنانا وأكثرنا جدارة بالحب».