- أسامة نجاتي سدر
داهية العرب وسيد بني سهم صاحب الحكومة (أي السفير والمبعوث الرسمي) في الجاهلية، ورث عَداءً لبني هاشم بن عبد مناف وخاصة بني المطلب بن هاشم(أعمام النبي) وبني أسد بن عبد العزى وبني زهرة بن كلاب(أخواله) وبني تيم بن مرة( قبيلة أبي بكر) من والده العاص بن وائل السهمي، حين انتزعوا منه حق رجل أنكر حقه واستضعفه فاستنجد بأشراف مكة علانية؛ فاجتمعوا جميعا في بيت عبد الله بن جدعان على نصرة المظلوم مهما كلف الأمر، وكان من الحضور نبينا عليه الصلاة والسلام، واشتد عداءه حين نزلت سورة للدفاع عن نبينا حين لمزه والده من النبي عليه السلام بأنه أبتر (لا ولد له) "إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وانحر، إن شانئك هو الأبتر".
أخفق عمرو في مهمته لإرجاع الفارين من عذاب قريش واضطهادهم لدينهم حين سمع النجاشي خطاب جعفر بن أبي طالبٍ أمامه: "أيها الملك, كنا قوما أهل جاهلية , نعبد الأصنام ونأكل الميتة, ونأتى الفواحش ونقطع الأرحام, ونسيئ الجوار, ويأكل القوى منا الضعيف وبقينا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه...فدعانا إلى الله, لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن واَباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان...وقد أمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم وحقن الدماء , ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات.
وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً, وأن نقيم الصلاة ونؤتى الزكاة ونصوم رمضان....فصدقناه واَمنا به واتبعناه على ما جاء به من عند الله , فحللنا ما أحل لنا وحرمنا ما حرم علينا. فما كان من قومنا أيها الملك إلا أن عدوا علينا, فعذبونا أشد العذاب ليفتنونا عن ديننا ويردونا إلى عبادة الأوثان.... فلما ظلمونا وقهرونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا فى جوارك ورجونا إلا نظلم عندك."
وبالرغم من أنه ترك فيه أثرا إلا أن مكانته بين سادة مكة وارتباطه الوثيق بوالده منعته من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. ومر عمرو في طريق تجارته على "مسيلمة" كذاب بني حنيفة فسأله:
- ماذا أنزل على صاحبكم في هذا الحين؟ - لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة - أنزل عليه: (والْعَصْر، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر) ففكر مسيلمة ساعة ثم رفع رأسه فقال: - ولقد أنزل عليَّ مثلها (وقرأ مسيلمة بعضا من ترنيماته ثم قال: - كيف ترى يا عمرو؟ والله إنك لتعلم أني أعلم إنك لتكذب.
واستمر عمرو في مراقبة المسلمين عن بعد وقلبه يرق شيئا فشيئا وتتابعت الأحداث حتى غزوة الخندق فرأى هزيمة قريش كالصاعقة فوق رأسه ورأس قريش، وكانت مهمته حماية انسحاب قريش وأحزابها، وبعد وصوله مكة فوجئ بإسلام ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص وها هو يكمل لنا القصة فيقول: "ولما انصرفنا من الخندق، جمعت رجالا من قريش، فقلت: والله إن أمر محمد يعلو علوا منكرا، والله ما يقوم له شيء، وقد رأيت رأيا، قالوا: وما هو؟ قلت: أن نلحق بالنجاشي على حاميتنا، فإن ظفر قومنا، فنحن من قد عرفوا، نرجع إليهم، وإن يظهر محمد، فنكون تحت يدي النجاشي أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد. قالوا: أصبت.
قلت: فابتاعوا له هدايا، وكان من أعجب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم، فجمعنا له أدما كثيرا، وقدمنا عليه، فوافقنا عنده عمرو بن أمية الضمري، قد بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر جعفر وأصحابه (ليستأذن من النجاشي عودتهم، وأن يزوجه من أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها التي مات عنها زوجها)، فلما رأيته، قلت: لعلي أقتله.
وأدخلت الهدايا، فقال: مرحبا وأهلا بصديقي، وعجب بالهدية. فقلت: أيها الملك! إني رأيت رسول محمد عندك، وهو رجل قد وترنا، وقتل أشرافنا، (يقصد أنه قصد مكة لقتل أبي سفيان) فأعطنيه أضرب عنقه; فغضب، وضرب أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت لي الأرض دخلت فيها .وقلت: لو ظننت أنك تكره هذا لم أسألكه. فقال: سألتني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الذي كان يأتي موسى الأكبر تقتله؟! فقلت: وإن ذاك لكذلك؟ قال: نعم. والله إني لك ناصح فاتبعه، فوالله ليظهرن كما ظهر موسى وجنوده.
قلت: أيها الملك، فبايعني أنت له على الإسلام، فقال: نعم. فبسط يده، فبايعته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام، وخرجت على أصحابي وقد حال رأي، فقالوا: ما وراءك؟ فقلت: خير، فلما أمسيت، جلست على راحلتي، وانطلقت ، وتركتهم ، فوالله إني لأهوي إذ لقيت خالد بن الوليد ، فقلت : إلى أين يا أبا سليمان ؟ قال : أذهب والله أسلم ،إنه والله قد استقام الميسم، إن الرجل لنبي ما أشك فيه، فقلت : وأنا والله . فقدمنا المدينة ، فقلت : يا رسول الله، أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولم أذكر ما تأخر فقال لي: يا عمرو بايع فإن الإسلام يجب ما كان قبله.
ولإسلام عمرو أثرٌ ما كان لأحد أن يُغفله، فتح الشام ومصر ونجاة الناس من طاعون عمواس وغيرها، ثم أحداث صفين وفتنة معاوية وعلي بن أبي طالب وما جرته من الويلات على المسلمين، وقد قدر الرسول عليه السلام إسلام عمرو فرُوي في حديث حسن أخرجه الألباني: "أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص"، وانتقل بين يدي الله العالم العادل الذي لا تخفى عليه خافية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت